برهان غليونصفحات مختارة

الثورة…تتحول إلى قيامة!

د. برهان غليون
ما يشهده العالم العربي اليوم يتجاوز التحول أو الانتقال إلى الديمقراطية، ويعبر أكثر من أي شيء آخر عن صحوة الشعوب التي طحنتها النظم الاستبدادية، وعن تجديد العهود الوطنية التي اندثرت تحت حكم الأجهزة الأمنية والاستخدام الموسع للعنف وفساد النخب الحاكمة. وفي ما وراء ذلك وعبر الارتباط به، يكمن إعادة استملاك الشعوب لأوطانها التي انتزعت منها وأصبحت مرتعاً لنخب حولتها إلى إقطاعات خاصة. وكلما تقدمت الحركة الجديدة تجلى هذا الواقع بصورة أكثر وضوحاً، وانكشفت كثير من نظم الحكم على حقيقتها. وقد ظهر ذلك واضحاً في حالتي تونس ومصر، حيث سعى بن علي ومبارك بكل الوسائل للاحتفاظ بالسلطة ولو لفترة قصيرة بعد امتلاكهم مقاليدها عقوداً طويلة، أملا في كسب المزيد من الوقت لقطع طريق الحرية على الشعوب الثائرة. لكن الأمر أصبح فضيحة في حالة القذافي المصمم على خوض حرب فعلية بالدبابات والطائرات ضد شعبه في سبيل الاحتفاظ بالسلطة.
وبالمقابل، تدرك الشعوب العربية التي اكتشفت نفسها وقدراتها وحقوقها بعد ضياع طويل، ساهمت به إلى جانب النظم الاستبدادية وحلفائها الغربيين، أطياف واسعة من المثقفين الناقمين على مجتمعاتهم، والذين أمعنوا في هجاء هذه المجتمعات وتسويد تاريخها وتشكيكها بنفسها وثقافتها ودينها وقدراتها، وتشويه صورتها وسمعتها في أعينها وأعين العالم أجمع… أقول إن هذه الشعوب تدرك اليوم أنها تخوض معركة مصيرها كشعوب، وهي أكثر تصميماً على خوضها والقضاء على أصل الفساد الذي نخر بنياتها ودمر معنوياتها وأدخلها في حالة من العبودية. وأكثر فأكثر تبدو المعركة الدائرة رحاها اليوم في العالم العربي، معركة تحرر متعددة الأقطاب، من النظام الاستبدادي الذي تحول إلى استعمار واحتلال داخلي، ومن الفساد المعمم والشامل الذي دمر أسس المجتمع وحول الشعوب إلى شيع وعشائر وطوائف، ومن التبعية التي ارتهن لها النظام وعاش على ما تقدمه له من ضمانة في مواجهة المعارضات الداخلية.
بهذا المعنى تشكل ثورات العرب الجارية اليوم استئنافاً، وبعد موات طويل، لحركات التحرر والبناء السياسي التي شهدتها المجتمعات العربية منذ القرن الماضي، مع انهيار الدولة العثمانية أولا والتحرر من الوصاية الاستعمارية في مرحلة لاحقة ثانياً. لكنها تشكل بشكل أكبر استئنافاً لحركة التحرر الاجتماعي التي غطت العهد الأول من الحقبة ما بعد الاستعمارية، والتي حلم العرب في ظلها، باسم الثورة القومية والوحدة العربية، ببناء أمة حديثة تتجاوز فيها الشعوب انقساماتها وولاءاتها وتقسيماتها، وتوحيد الأقطار العربية كلها أو بعضها بهدف تكوين هامش للمبادرة الاستراتيجية يسمح للجميع بضمان السيادة السياسية والحفاظ على استقلال القرار العربي في مواجهة سياسة الانخراط في الأحلاف والتكتلات الدولية التي كان الغرب يسعى لفرضها على الدول العربية حديثة الاستقلال.
وكما حصل في القسم الأعظم من الدول الصغيرة الخارجة من الوصاية الاستعمارية، كانت الحركة القومية العربية، كجزء من حركات التحرر الوطني التي غطت قسماً كبيراً من القرن العشرين، حاملا لمشاريع تحديث مهمة، تعليمية وصناعية وزراعية، كما كانت حاملة لمشاريع تغيير اجتماعي عميقة وضعت القوى الريفية التي بقيت معزولة لقرون طويلة سابقة لصالح النخب المدنية، في مقدمة المسرح السياسي. وكان للقضاء على الطبقات شبه الإقطاعية التي سيطرت على الحياة الاقتصادية والسياسية لحقبة ما قبل الاستقلال، ولتطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، وتعميم الخدمات العامة، خاصة التعليم في الأرياف… دوراً كبيراً في إخراج جموع الفلاحين الذين عانوا من التهميش المديد، من عزلتهم التاريخية، ودمج نخبهم الجديدة في الحياة العمومية، وصهر الجميع في بوتقة وطنية واحدة، أي في النهاية تكوين روح وطنية جديدة، استندت إليها الإنجازات الكبيرة اللاحقة.
وقد أضيفت هذه الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية التي ولدت في حضن هذه التحولات العميقة، إلى الإنجازات العديدة السابقة التي كان العرب قد حققوها في القرن السابق. فجاء ما حققته الثورة التحررية القومية ليكمل ما حققته في القرن التاسع عشر النخبة العربية المثقفة من تجديد لأساليب الفكر والكتابة والخطاب، وما حققته النخب السياسية التحررية في منتصف القرن العشرين، في كفاحها المظفر ضد النظام الاستعماري من مكتسبات تاريخية، ومن أهمها: بناء الإدارة الحديثة، وبلورة مشروع الدولة الدستورية، وتمثل قيم الحرية السياسية، وترسيخ أسس التعددية الفكرية والدينية، وتجاوز النزعات الطائفية والقبلية.
وشكلت هذه المراحل جميعها إرثاً كبيراً للمجتمعات العربية جعلها في موقع الريادة في خمسينيات وستينات القرن الماضي في الكفاح ضد مشاريع الهيمنة الإمبريالية وفي مقاومة مشاريع استعادة السيطرة الاستعمارية، وفي وولوج طريق الحداثة التقنية والاجتماعية والقانونية.
بيد أن مسيرة التحول العربي لاستدراك التأخر التاريخي ومجاراة العصر والانخراط الإيجابي والفعال والمبدع في العالم الحديث، ما لبثت أن تعرضت لنكسة بالغة، ثم إلى تراجع خطير، في العقود الأربعة الماضية. فبدل أن تتقدم نحو استكمال شروط اندراجها في الحداثة، بما تعنيه من تمثل قيم الحرية الفردية والسيادة الشعبية وتقرير المصير بمعزل عن أي تدخل خارجي… ارتدت إلى حكم القرون الوسطى؛ وأخضعت لأجندة سياسية لا غاية لها سوى خدمة المصالح الخاصة، سواء أكانت متمثلة في المجد الشخصي للزعيم، أو في تأمين المنافع والامتيازات الاستثنائية لأتباعه ومن يقيم عليهم قاعدة حكمه.
على هذه الأوضاع التي أوصلت المجتمعات إلى طريق مسدود في كل المجالات، جاءت الثورات الشعبية الراهنة كعاصفة موجهة لكسر جميع الحواجز التي وضعتها النخب والتحالفات الدولية أمامها في سبيل منعها من المبادرة وحرمانها من حقها في تقرير مصيرها. لهذا ليس من المستغرب أن يتحول الانتقال البسيط والذي كان من المفروض أن يأتي بشكل طبيعي، نحو الديمقراطية، أي الاعتراف بالشعوب كمصدر للسلطة، وبحق الأفراد في انتخاب ممثليهم بحرية، ورفض الوصاية الأبدية المفروضة عليهم… إلى ثورة خلاص لا تقتصر على إقرار الحريات الطبيعية للأفراد، بل تظهر كعملية تحرير جديدة للبلاد والأوطان من نير استعمار داخلي بغيض يتجاوز في ما أحدثه من إساءات ومساوئ ما قام به الاستعمار الخارجي القديم. إنها تنمو وتتقدم كما لو كانت معركة خلاص وانعتاق كامل، تشمل الفكر والعقل والدولة والمجتمع معاً، وتشترك فيها جميع طبقات الشعب وفئاته، وتشاركها فيها الشعوب من وراء الحدود، فلم نعد نعرف أثورة هي أم قيامة!
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى