ميشيل كيلو

ناطقون باسم سورية؟


            ميشيل كيلو

تتحدث الدول باسمها ولا تسمح لأحد بالحديث نيابة عنها، خاصة في الشؤون الحساسة، التي تتصل بمصالحها العليا، إلا سورية فهي تجيز لأي كان الحديث باسمها، بمجرد أن يعلن انحيازه، ولو الكلامي، إلي مواقفها، ويبدأ بمنحها شهادات حسن السيرة والسلوك في ما قد يكون مطروحا من أمور. وبينما تحدد الدول في اللحظات الحرجة ناطقا رسميا باسمها، يكون غالبا أحد كبار المسؤولين فيها، تترك سورية الحبل علي الغارب، وتمتنع عن تحديد من ينطقون باسمها، وتسمح لكل من هب ودب، داخلها وخارجها، أن يقول بلسانه ما تحجم هي عن قوله بلسانها، ويفصح بلغته عن ما تريد هي إبقاءه طي الكتمان،

 

، لاعتقادها إن هؤلاء يقولون ما تريد قوله دون أن تكون مسؤولة عنه، وأنها بهذه الطريقة العبقرية تبلغ العالم بما تريد دون أن تبلغه بأي شيء، أي مع الاحتفاظ بحقها في أن تتنصل من آرائها، التي قالتها، ولكن علي لسان غيرها، لسانها الذي لا يلزمها؟

لم يقيض لي أن أتعرف علي السيد ناصر قنديل إلا من خلال شاشة التلفاز، حيث كان يقدم نفسه دوما باعتباره ناطقا رسميا غير معين باسم السياسة السورية. في كل مرة كنت أري السيد قنديل فيها، كنت أشعر بالاستياء الشديد، ليس لأنه لا يحسن الكلام وحبك الجمل، بل لأنه كان يتحدث عن مسائل لا يحق لأحد أن يتحدث حولها بالنيابة عن بلد أنا مواطن فيه، قد تنعكس نتائج حديثه عليه بردا وسلاما، وقد تكون عكس ذلك تماما، فأدفع وغيري من المواطنين، الذين لا يمثلهم السيد قنديل ولم يكلفوه النطق باسمهم، ثمن أقواله، خاصة وأن العالم يعرف أن ما يصدر عنه ليس رأيه، بل هو رأي من يطلبون إليه قوله في دمشق، فيقوله بتلك الطرق الرعناء، التي دأب علي تبنيها، وجوهرها أن للحقيقة وجها واحدا فقط، وأنه لا يمكن التعبير عنه بغير كلمات محددة فقط، وأن هذا الوجه هو وجهها الرسمي السوري، الذي استخدم للتعبير عنها كلمات محددة واظب علي استعمالها طيلة نيف وثلاثين عاما، تمتدح جميعها عصمة القيادة، وبعد نظرها، وصحة سياساتها، وصواب مواقفها … الخ، وتشهر بخطأ كل ما يقول به أو يفعله غيرها، كائنا من كان، وفي أي وقت.

لم يكن كلام السيد قنديل يزعجني لأنه غير منطقي وحسب، بل لأنه كان يحرجني من جهة ويضعني في مواجهة حيرة شديدة من جهة أخري، أما الحرج، فلأن الرجل كان منافقا موهوبا إلي درجة يصعب تجاوزها، بينما كنت أحار لأن من يستمعون إليه من الساسة والإعلاميين السوريين كانوا معجبين به، ويستشهدون في الإعلام المحلي بما يقوله وكأنه درر الكلام وعين الصواب، بل انهم كانوا يتغزلون بأحاديثه في لقاءاتهم، ويتعاملون معه وكأنه صادر عن جهة محايدة يعتد بشهادتها، بسبب ما تتمتع به من نزاهة ويعرف عنها من تجرد وحب للحقيقة، وأهز رأسي أسفا علي سلطة يواجه وطنها أعظم الأخطار فترد عليها بأعظم قدر من الاستخفاف والاستهتار، وتترك للسيد قنديل التشريق والتغريب باسمها، بما في ذلك قبل أيام قليلة من جريمة قتل الحريري، عندما قال خلال حديث عن لبنان والحريري إن دماء العملاء ستسيل قريبا في شوارع لبنان، فاعتبر قوله دليلا إضافيا علي ضلوع النظام السوري في قتل الرجل؟، وكنت قد سألت أحدهم قبل الجريمة بيوم: لماذا لم تتنصل سورية من أقوال السيد قنديل الخطيرة، فابتسم وهز كتفيه استخفافا بسؤالي غير المفهوم!

كنا بناصر فصرنا بوئام وشارل . بما أنني لا أقبل لنفسي أن أتحدث عن الأول، فإنني سأقصر حديثي علي ناصر الثاني، السيد شارل أيوب، الذي لا تفتح تلفازا إلا وتجده قاعدا يتحدث باسم سورية ونيابة عنها، وقد انتفخت أوداجه، وهو يشرق ويغرب بدوره، بينما تقرأ ما قاله في صحافة اليوم التالي السورية باعتباره من أقوال الصحافة العالمية ، التي لا يأتيها الباطل. وفي الأمثال الشعبية السورية واحد يقول : شهّد القط دنبه؟

يقول شارل ما كان ناصر يقوله قبل أن يسكته ميهليس: نظام سورية علي حق في كل ما يقول ويفعل، ولا مجال إطلاقا لأن يغلط أو لأن يكون بعض الصواب إلي جانب غيره، في أية قضية من القضايا وأي شأن من الشؤون. بمثل هذا الخطاب غير العقلاني، يريد السيد شارل إقناع السوريين أنهم علي خطأ، عندما ينتقدون سياسات بلدهم، حتي حين تؤكد الوقائع أنها مخطئة، وإقناع اللبنانيين أنه الوحيد الذي يستطيع فهم ما يجري، بدليل أنه الوحيد تقريبا في لبنان الذي يكتب مناصرا السياسة السورية، علي عماها ودون أي تحفظ.

ليس من حقي الاعتراض علي حق السيد شارل أيوب في قول ما يشاء. أنا اعترض علي نظام بلدي، الذي يعطيه حق التحدث باسمه، ولا يتنصل منه لأنه ينصب نفسه ناطقا رسميا باسمه، وتاليا باسم مواطنيه، الذين يرفضون، كجميع خلق الله، أن يقول أحد، شارل أيوب أو غيره، شيئا بالنيابة عنهم، ويطالبون بحصر الحديث عن وطنهم ومصالحه بحكومته أو بمن تنيبه عنها بصورة رسمية، ممن يستطيع السوريون اعتباره مسؤولا عن أقواله لهم حق مساءلته عن ما يترتب عليها من نتائج ضارة ببلدهم وبهم. أما أن ينطق السيد أيوب نيابة عن حكومة بلدي وعني، فهذا ما لا أوافق عليه، ليس فقط لأن في سورية مئات آلاف القادرين علي تمثيل شعبها وسياستها خيرا منه، بل لأن الشعور بالمسؤولية يجب أن يدفع حكومتي إلي الدفاع بنفسها ودون مواربة عن مصالح بلدها، علي أن تفعل ذلك بأمانة ومسؤولية وتحت القسم، وهذا شيء أفتقده في أحاديث السيد أيوب، الذي لا أستبعد أن يؤيد المواقف السورية اليوم ولا يؤيدها غدا، كما حدث في تجارب مماثلة مع أناس دافعوا عن النظام، ثم تبين أنهم لم يفعلوا ذلك حبا به، بل لأسباب أخري، منها أن أحدا ما كلفهم بامتداح سياساته الخاطئة، كي يبقي متمسكا بها.

لا يجوز أن تتصرف الدولة وكأنها أخوية يتحدث باسمها أناس لا يحملون أية صفة رسمية، يمكن أن يحملوها وزر ما يقولونه، مع أنهم قد لا يعرفون تماما معني ونتائج ما ينطق به لسانهم. الدول تتحدث باسمها الخاص، خاصة عندما تكون في وضع صعب. فمتي تقول حكومتنا الكريمة للسيد أيوب: إياك أن تنطق باسمنا، وارتك في دفاعك عنا، إن أنت دافعت عنا، هامشا ولو صغيرا لاحتمال أن لا تكون الحقيقة كلها عندنا، وإياك أن تحول عداوتك الشخصية إلي مواقف ملزمة لنا، ولا تنس، أيها السيد، أن رأيك يخصك وحدك، وأننا لسنا عاجزين عن قول ما نراه بلساننا الخاص، احتراما لأنفسنا ولشعبنا.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى