صفحات من مدونات سورية

من دمشق ( الحلقة الخامسة ) : خوف ، تشرّد ، عمالة أطفال ، أم ماذا ؟

كنت ُ على موعد ٍ مع الصديق قصي عند الساعة السادسة مساء ً في ساحة باب توما في دمشق ، وصلت ُ مبكرا ً جدّا ً فقررت ُ التجوال في الحارات الدمشقيّة القديمة و محالها الأنتيكيّة فربما أجد ُ بعض الهدايا و الذكريات بين صفحات البيوت المعتقة بالياسمين. كنت ُ أقف ُ قـُبالة أحد محال الفضيات عندما شعرت ُ بيد ٍ صغيرة جدّا ً تمتد أمامي و أخرى تدقّ على إحدى أطرافي ، نظرت ُ إليها : طفلة ً في الرابعة أو الخامسة من العمر ، سمراء البشرة شقراء الشعر، جميلة ، ربما ، ترتدي ثوبا ً أحمرا ً و تنظر ُ إليّ في طريقة تنادي الشفقة . ” الله يوفقك يا خالة ، الله يخليلك ولادك ” ، كنت ُ مازلت ُ أنظر إليها دونما أيّ فعل ٍ أو رد فعل معجبة ً بشيء من العفوية التي لم يحرمها منها التشرّد.
كثيرا ً ما يسألني الأطفال في دمشق القديمة مساعدة ً ماليّة ً ، اعطيهم ان توفر أو أعتذر إن لم يتوفر و أمضي في طريقي ، فإذا كنت َ من سكان دمشق أو روّاد دمشق القديمة فأنّك ستعتاد ُ على رؤية التشرّد و كأنه ُ بات طقسا ً من طقوسها أو جزءا ً من حجارتها ، ستترك ُ في كلّ مرّة تردّ طفلا ً فيها خائبا ً أمنية ً في السماء و تمضي ، و لكن ّ شيئا ً ما في عيون تلك الطفلة دفعني لمحاولة فتح حوار ٍ معها :
– ليش بدّك المصاري ؟؟
– بدي اشتري طقم
– طقم ؟!!
– إي
أجابت بحماس ٍ و بدأت تشرح لي عن ” الطقم ” ذو الأكمام الطويلة و ربطه الخصر ، لعلها كانت تقصد ثوبا ً أو فستانا ً و لكنها أسمته “طقم “، كانت تسهب ُ في الشرح و أنا أسهب ُ النظر في عينيها .
– و قديش حقه الطقم ؟؟
– مابعرف كتير مصاري شي ألف يمكن ..
قالتها بعفويّة ً الفراشة ( صوتها مازال َ يتردد ُ في أذني ) ، كنـّا نتبادل أطراف الحديث و نحن ُ نسير ُ جنبا ً إلى جنب ، و كأننا أصدقاء بعد َ فراق دام سنين، هي تشرح ُ لي عن ” الطقم ” و أنا أفكر ُ بالأسباب التي تأتي بطفلة ٍ رائعة ٍ مثلها إلى هنا ، هكذا متشردة تنحني إلى أيادي المارة أن تشفق َ على طفولتها، خطر َ لي أن أصطحبها إلى سوق الحميديّة لأشتري لها ما تريد فأنا لن أثق َ بأنها ستحصل على “ الطقم “ في حال أعطيتها نقودا ً قد يأخذها منها أحدهم أو يستغلها آخر . إستشرتها لأعرف إن كانت لا تمانع الذهاب معي إلى سوق الحميدية الذي كان يبعد مسافة ً ربما تكون أقل ّ ،أو تعادل ، المسافة التي قطعناها معا ً و هي تشرح ُ لي عن الثوب . و ما أن عرضت ُ الفكرة عليها حتى تغيّر شيئ في حديثها ، ربما هو الخوف ، و أنا أتفهم وجوده إن كان هو السبب ، و لكنني أثق ُ جدّا ً بإحساسي ( الذي نادرا ً ما يخيب ) و إحساسي لم يكن مستقرّ على أنه الخوف . رفضت الذهاب معي إلى سوق الحميدية و طلبت مني أن أعطيها النقود و هي تتكفـّل بشراءه و لكنني اخبرتها بأنني أريد ُ أن أراها و هي ترتدي “الطقم” فإقترحتُ أن أذهب وحدي إلى سوق الحميدية لأشتري لها الثوب و أعود و لكنها رفضت أيضا ً ، ربما لم تثق بأنني سأعود . ماذا إذا ً ؟؟ خفّ حماسها و تركتني إلى شخص ٍ آخر كان يمرّ بالقرب مني فتركتها و تابعت ُ السير . لمحتها بعد َ ذلك تركض ُ بإتجاه شاب كان يسنتد ُ إلى أحد الجدران ،يرتدي ملابس لا تشبه ُ أبدا ً ملابسها المرقعة ، يتزيّن باللجيل و أشباهه ُ مما يعكس لمعان الشمس على شعره ِ الأسود . تبادلت حديثا ً سريعاً معه ُ ثم ّ عادت تركض ُ بإتجاهي .
– خالة خالة ، بروح عسوق الحميدية معك ، تعي خديني بس مو بعيد السوق ماهيك ؟
– سمحلك تروحي ؟
أطرقت برأسها و كأنها لم تتوقع سؤالي ثـم ّ قالت بإرتباك :
– اي
كل ّ شيئ في وجهها كان يحاول ُ أن يتوسـّل إليّ بألّا يشعرَ هو بأنني أسألها أو بأنني انتبهت ُ لوجوده ، حافظت ُ لها على رغبتها و بدأنا السير َ معا ً باتجاه سوق الحميدية ، و في الطريق سألتها :
– مين هاد الشخص اللي سألتيه ؟
– خالي !
ابتسمت ُ ثم ّ قلت ُ بثقة :
– بعرف أنـّو مو خالك ، مبين انو مو خالك !
– مبلا خالي
قالتها بلهجة سريعة و مقتضبة جدّا ً و كأنها لا تريد ُ الخوض في هذا الحديث ، زاد ذلك من اصراري على سؤالها ، ربما لم يكن علي ّ أن أصر ّ في السؤال و لكن هذا ما حصل. لقد كانت “ذات الرداء الأحمر” من الأطفال الذين لم تتشوه عفويتهم بعد ، لا شيئ في وجهها يمكن ُ له أن يكذب حتى عندما يكذب لسانها .
– هوّ قلك تقوليلي أنو خالك ؟
لم تجب ! أدارت نظرها نحو الافق و لم تجب .
زدت ُ في إصراري :
– مين هاد ؟ ليش ما قدرتي تجي معي لحتى أخدتي اذنه ؟
– قلتلك هاد خالي !!
– و أنا قلتلك اني بعرف انه مو خالك
ساد صمت بيننا ، كنـّا كمن يتبادل الكرات الناريّة نرمي بها بعيدا ً ثم ّ نسمح ُ للهواء بأن يمرّ سريعا ً بين أصابعنا بالصمت ،
– هو قلك تقوليلي انو خالك ؟
هزّت رأسها موافقة ً ، كنـّا نقترب ُ من مدخل سوق الحميدية قرب َ فسحة الجامع الأموي عندما كسرت الصمت و سألتها مجددا ً :
ليش بتسمعي كلمته ؟ هو مو خالك و ما بيقربك ، ليش بتخافي منه ؟
– …
– ليش قوليلي ؟؟ عاملك شي ؟ بتعيشي عنده ؟ قليلي أنا بدي ساعدك !
– وين الشرطة ؟
– شرطة !!!؟؟
– يعني هون مركز الشرطة القريب وين ؟؟ شلون بروح عالشرطة ؟؟
– ليش بدّك تروحي عالشرطة ؟؟
– وين الشرطة ؟؟؟
– مابعرف وين الشرطة ليش بدك تروحي عالشرطة ؟؟
بدأت تركض بعيدا ً عائدة ً من حيث أتينا . كنت ُ أراقب ُ ثوبها الأحمر يتحرّك ملوحا ً و غضب ٌ كبير ٌ جدّا ً يستعر ُ في داخلي ، لم أكن بعيدة ً جدّا ً عن الدخول إلى عالمها الصغير ، كانت صادقة جدّا ً و عفوية ً جدّا ً و طيبة جدّا ً لكنه الخوف ، الخوف و أشياء أخرى يرعاها ذلك الشاب و يدعمها مجتمع بأكمله، جعلها تهرب . أو ربما كان علي ّ أن أكون َ أكثر َ ودّا ً معها ؟ لا ادري و لكنني لمحت ُ و أنا أراقبها تركض ُ بعيدا ً طفلا ً أكبر َ منها بقليل ( 8 سنوات تقريبا ً ) يبدو أنه كان يلاحقنا و عندما ركضت ، ركض َ خلفها .
إلتقيت ُ الطفلة مرّة ثانية ً عندما كنت ُ و قصي نخرجُ من “ صباح و مسا “ باتجاه ساحة باب توما ، في هذه المرّة طلبت “عشر ليرات “ كي تشتري “ البوظة “ ، ناولتها لها دون َ أي ّ سؤال و في داخلي مئات من الملاحظات و الأسئلة :
ماذا يفعلون مع هؤلاء الأطفال حتى يسيطرون على صمتهم كالآلهة ؟
أين تعيش ؟ ماذا سيكون مصيرها عندما تكبر ؟ من يحمي طفولتها ؟
لماذا الشرطة و هي التي تتسوّل و الشرطة ستلاحقها ؟
ماذا كنت ُ سأفعل لو أخبرتني قصتها الحقيقية ؟ هل كنت ُ سأتمكن من المساعدة ؟ ربما من الأفضل لكلينا أنها كانت أذكى مما كنت ُ و رفضت اخباري ، أو ربما كان يجب ُ عليها أن تخبرني و كنت ُ ساعدتها مهما كلّف الأمر ..
… لوحت لي مودعة ً عندما تركتها على باب “ الدكان “ بعد َ أن تأكدت ُ بأنها وفت بوعدها و استثمرت العشر ليرات في شراء “ البوظة “ التي طلبتها ، أظنها عرفت كم أحببتها من خلال لهجتي أو من خلال نظراتي إليها ، لذا لوّحت لي مودعة ً بحرارة .
تركت ُ قصي ّ و بدأت أسير و كل ّ الأسئلة السابقة تصرخ ُ و أمنية واحدة بقيت صامتة “ أن نلتقي مجددا ً “
هذه التدوينة إهداء إلى “ صديقتي “ ذات الرداء الأحمر الصغيرة إينما كانت

الصورة
ملاحظة : القصة المذكورة أعلاه حصلت في تاريخ 14 تموز 2010
http://www.freesham.com/2010/11/blog-post_12.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى