صفحات ثقافية

“أكثر من طريقة لائقة للغرق” لسيلفيا بلاث: القصيدة حياةً افتراضية

null
لنبدأ من المشهد الأخير لقصة حياة سيلفيا بلاث، الشاعرة الأميركية التي لا تزال محل دراسات وأبحاث للعديد من مهتمي الأدب والشعر بشكل خاص. امرأة في الثلاثين من عمرها، متزوجة من أحد أهم شعراء اميركا القرن العشرين، ولها طفلان، تضع رأسها في الفرن، بعد أن تفتح الغاز، لتموت انتحارا. الكثير يعرف هذه القصة. إلا أننا نظن بإمكان قراءة الكثير من خلفية بلاث الاجتماعية والنفسية، بالتأمل مليا في المشهد الأخير. الانتحار في ذاته يشكل أسطورة للبعض، بمعنى صعوبة تحقيقه، في حين يكون للبعض الآخر ملجأ أخيرا، أو ملاذا للتملص من فكّي الحياة، وما تختزنه. البعض يختار انتحاره بابتلاع الأدوية مثلا، أو الشنق، أو حزّ شريان يده، وإلى ما هنالك من أساليب. غير أن ما يبدو مشتركا هو انعدام طريق العودة، أو التراجع نحو الحياة مجددا. فالمنتحر يختار عادة طريقة لا تتيح له التراجع عن قراره حين يصل الجسد الى مرحلة متقدمة من الألم والخوف تجبر الجهاز العصبي على إصدار أوامره للجسم بتحرير نفسه سريعا من هذه الحالة. هذا معروف كطريقة في الدفاع الآلي الذي يوفره لنفسه الجهاز الجسماني اوتوماتيكيا. لذلك فإن ما يهم المنتحر هو أن يدخل نفقا لا يستطيع على الاطلاق اخراج نفسه منه، حتى ولو اراد ذلك في إحدى أشد مراحل الجسم حرجا لقوة الارادة. من هنا، يمكننا ان نقرأ بعض ملامح حالة سيلفيا بلاث الأخيرة من خلال طريقة الموت المختارة، والتي نظن أنها طريقة النفق ذي الاتجاهين، واحد نحو الموت والآخر نحو الحياة. ان طريقة الموت بحشر الرأس داخل فرن غاز، وفتح القارورة، تؤدي الى تشبع الدم بالغاز شيئا فشيئا، يترافق ذلك مع تدنٍّ حاد في مستوى كثافة الأوكسيجين التي يحتاج اليها الجسم لإمداد الخلايا البشرية بالطاقة.
هنا يلجأ الجسم من خلال الرسائل العصبية التي تتكثف وتتسارع بشكل هائل، إلى الابتعاد عن مكمن “الخطر”. وقد يدخل الدماغ في هذه اللحظة في صراع بين خيار الاستمرار او التراجع. يبدو المرء في هذه الحالة، يتذوق قارورة الموت الهائلة، بالملعقة. أي بجرعات صغيرة لكنها متلاحقة وسريعة. يدرك المرء مراحل الموت في هذه الحالة، ويستطيع اختباره كمشروع لقصيدة ناجزة (كما في حالة انتحار شاعر او شاعرة كسيلفيا بلاث)، أو كمشروع عمل فني أخير (كما في حالة ارنست همنغواي الذي انتحر عن عمر يناهز الثانية والستين). هذا لأن القارئ لما هو متوافر من سيرة حياة الشاعرة بلاث، لا بد له أن يدرك مرارة هذا الأمر. فالموت يأتي كحدث أخير، أو كواقعة أخيرة في سلسلة الحياة المتعثرة على أكثر من صعيد. وهو موت متمم لما كتبته الشاعرة من قصائد عن هذا الموت، ولأثر موت أبيها المبكر (كانت لا تزال في الثامنة من العمر)، على حياتها لاحقا، وهو الموت الذي سيظل سؤالا كبيرا يؤطر حياتها العامة. وهو كذلك موت اعترافي شخصاني بحت، ولا يمكن إلا ان نضعه في خانة القرار الأخير، ليس بمعنى المأسوي أكثر منه الاختباري. طريقة موت بلاث تدلنا الى أن الشاعرة اختارت أن تمر بمراحل هذا الموت كافة، قبل الالتحام مع هذا الموت نفسه كحالة شعرية، أي قبل توقف الجسم عن العمل من الناحية الطبية أو البيولوجية. نحن نتحدث هنا عن حصة الموت من زمن حياة بلاث، ولم ندخل بعد في بعض تفاصيل حياتها الخاصة وتحديدا علاقتها بالشاعر تيد هيوز، الذي أحبته الى حين خيانته لها عام 1962، مع آجيل ويفيل، أي قبل طلاق الزوجين وانتحارها في العام التالي. أما آجيل ويفيل فقد تزوجها هيوز لاحقا وانتحرت بدورها بعد سنوات مستخدمة طريقة سيلفيا بلاث نفسها.
لكن السؤال الذي يبقى، هو حول قدرة الموت العجيبة، والانتحار تحديدا، على إعادة الضوء الى حياة سابقة لشاعر او شاعرة. ليصير الشعر موضع دراسة انطلاقا من هذا الموت نفسه او على الاقل طريقة حدوثه. من هنا فإن المختارات الشعرية الصادرة حديثا بعنوان “أكثر من طريقة لائقة للغرق” عن “منشورات دار الجمل” و”دار كلمة” (ترجمة سامر أبو هواش وتقديمه)، تمثل مجتزئة كيانها، بين قراءة الشعر مدخلا الى قراءة الحياة الخاصة بالشاعرة، وقراءة الشعر انطلاقا من قراءة موت بلاث، ليصير الموت في الكفة الثانية، الشفتين الأصليتين اللتين بهما نسمع شعر هذه الصبية، ونفهمه. أو نحاول.
لا بدّ أن يلمح القارئ الموت في جمل بلاث الشعرية، أو أن يعمل العقل بشكل مرافق ومستمر أثناء القراءة، على تناول الشعر من ناحية ارتباطه بموت لاحق لبلاث. هذا أسوأ ما في انتحار شاعر أو شاعرة، لأن المأزق الصعب الذي يضع فيه الشاعر المنتحر، قارئه، هو مأزق المدخل الذي تتم عبره قراءة الشعر. هل هو مثلا مدخل الفن كفن (وإن لم نفلح في تجريده)، أو هو مدخل الموت، كأحد موضوعات الفن بل كأحد روافده الدائمة باعتبار أنك قلّما تجد كاتبا لم يتناول الموت كموضوع أو كهاجس أو حالة موقتة على الأقل.
هناك ملامح عديدة تغذي قصيدة بلاث. منها ما يطبع الشعرية بصبغة تأمل حيادية لمحيطها، لتبدو الشاعرة واقفة في حيزها الخاص، غير قادرة على تفسير معالم هذا الحيز. السؤال يحضر ضمنيا هنا، ولا يأتي معلنا عن كينونته. لكن العجز الذي يطوق الشاعرة لا يعبّر عن انكسار بقدر ما يحال على اللامبالاة، ليجري تصغير العالم الذي تقف بلاث على هامشه. من هنا تبدو لبلاث القدرة الواضحة، في تحويل انكسارها موقتا، حالة من التحكم بالزمن، وبشيئيته المتحركة في الطبيعة، وحول المنزل، وفوق الشجرة، وداخل النفس، وفي المطبخ كما في قصيدة “غراب أسود في طقس ماطر”:  “أدع الأوراق المنقطة تسقط كما هي/ بغير دهشة أو حفاوة”.
تصعب قراءة قصائد سيلفيا بلاث، بمعزل عن القسوة التي تتشظى في أكثر من اتجاه، والتي لا بد أن تصيب دهشة في عيون القارئ، ذلك بسبب تآلف الشاعرة مع حزنها، وكأن كآبتها التي اصطدمت معها وهي بعد صغيرة، لا تزال حاضرة تتنفس تحت طبقات رمادية من الفرح، أو المتعة القصيرة، كما في قصيدة “تولد ميتة”: “لن تعيش هذه القصائد: يا للتشخيص المحزن/ …/ تجلس بلطف في سائل التحميض/ تبتسم وتبتسم وتبتسم لي./ ومع ذلك رئتها لا تعمل/ ولا قلبها ينبض”. الأمل الخجول الذي تقف من خلاله أمام ذاتها، لدفعها قليلا في اتجاه العادي أو المدني، نجده في العديد من قصائدها كما في “ارتداد”: “فاذهبي الى شبابك الغرّ/ قبل فوات الأوان/ وأحسني استعمال/ يديك البيضاوين”. كأنها دعوة الى تكريس الحياة عبر التعرف اليها، تارة، وعبر تأجيج حضور الغرور، الذي يترافق مع رغبة شديدة بالسيطرة على مفاصل حياتها العامة، وبالخصوص الزوج الحبيب الذي لا يتمم حضوره المادي إلا بشرط وجود بلاث نفسها. كأنه الحب الذي لا يمكن استشفافه سوى من مكان واحد، هو الشريك . ففي قصيدة “المستغرقة في ذاتها تناجي نفسها”، نجد أن بلاث هنا، تقف موقفا معاكسا لسلطة الذكوري، إذ تأتي حياتها الافتراضية في القصيدة، وكأن الوعي الشعري يمتزج بالرغبة – الحلم في تحقيق استقلالية، أو كهامش أكبر يتيح لها التحرك بعيدا عن الألم. أما في قصيدة “مشهد”، فإن بلاث ترصد الحياة من خلال الذبول وخفوت الضوء، واعتلاء الظل خشبة وعيها الشعري “بينما على غصن مرقط/ يجثم غرابان أسودان/ ويرسلان نظرة سوداء/ ينتظران هبوط الليل/ بعيون ثملة/ شاخصة نحو عابر سبيل/ يعبر وحيدا في آخر المساء”.
هذا يعني أن بلاث عرفت مفاتيح النفاذ الى معنى الوحدة والألم من زوايا عدة، وذلك لم يكن بتجريد الألم، من صلته الرومنطيقية بالأشياء، فأي شيء لم يكن مسموحا له بالتحرك بعيدا عن عالم بلاث الشخصي. إذ إن كل تأليف أو نظام طبيعي للموجودات، لا بد أن يتم “ادراكه” باستخدام كودات بلاثية تتعلق بخلفيتها الاجتماعية ورؤيتها للحياة والأمل والموت، تسمح لها بتصريف الألم الشخصي، داخل مشهديات تعيد الى الواقع حيويته، لكن بانتقاص ملحوظ. فهو واقع مفتقد البهجة، يفوته الاعتراف بالحلم.

مازن معروف
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى