ثورة مصر

إرهــاصــات الثــورة المضــادة

فهمي هويدي
لم نفهم حتى الآن من الذي أمر الشرطة بالاختفاء أثناء الثورة، ولا من الذي أمر بفتح السجون وإطلاق نزلائها لترويع الخلق، ولا من الذي أمر بإطلاق الرصاص على الجماهير الغاضبة، كما أننا لم نفهم من الذي أمر ورتب الهجوم على مقار جهاز أمن الدولة خلال الأيام القليلة الماضية، ومن الذي أمر بإتلاف وإحراق ملفات الجهاز في أهم المدن المصرية.
(1)
سيظل السؤال «من» معلقا في الفضاء بغير إجابة حاسمة، ومن ثم سيظل باب الاجتهاد مفتوحا في صدد الجهات التي حرضت وتلك التي نفذت وصاحبة المصلحة في هذا وذاك. لكن بوسعنا أن نعرف الإجابة على السؤال «لماذا»؟. ذلك أن أحدا لا يشك لحظة في أن الأطراف التي سعت إلى ترويع الناس في مصر بعد الثورة، لا تزال نشطة ولم يهدأ لها بال. وأن هذه الأطراف ذاتها هي التي أمرت بالتخلص من وثائق جهاز أمن الدولة، التي تبين أنها ترصد كل شيء في البلد، بما في ذلك ما يحدث في غرف نوم رجال السلطة والشخصيات العامة، إلى جانب رصد اتصالاتهم وأنشطتهم في مختلف المجالات السياسية والثقافية والرياضية. وليس ذلك غريبا من وجهة نظر مسؤولي الجهاز، لأنه إذا كان هو الحاكم الحقيقي لمصر، فربما كان منطقيا أن يكون ممسكا بكل خيوط المشهد.
ليس ذلك فحسب، ولكن هناك قرائن تدل على أن الرئيس السابق كان يحب النميمة ويحرص على أن يعرف الأسرار العامة والخاصة لكل المحيطين به ولغيرهم من الشخصيات العامة.
وقد سمعت من وزير داخلية سابق لا يزال على قيد الحياة أن وزارة الداخلية كانت تتنصت على كل هؤلاء طول الوقت. وأن مجموعة من الخبراء كانت تتولى تفريغ أشرطة التسجيل للحصول على أهم المعلومات التي تضمنتها، وأن تقريرا بخلاصة تلك المعلومات كان يعد كل صباح، وتطبع من ثلاث نسخ واحدة للرئيس والثانية للهانم والثالثة للابن الوريث. ولم أكن وحدي الذي سمع هذه القصة، ولكن كان يجلس معنا على طاولة العشاء في إحدى المناسبات خمسة أشخاص لا يزالون بدورهم أحياء. ومما ذكره الوزير الأسبق أنه حين رفض القيام بهذه المهمة، فإن رفضه أخذ عليه، وكان من بين الأسباب التي أدت إلى إخراجه من المنصب.
(2)
عملية إتلاف وثائق وتقارير أمن الدولة تمت في ظل ظروف مريبة. فقد حدثت أثناء استمرار الغياب الأمني ـ وخلال الأربع وعشرين ساعة التي أعقبت خروج وزارة السيد أحمد شفيق ـ وقبل يوم من محاكمة السيد حبيب العادلي وزير الداخلية السابق ـ وتمت كلها في وقت واحد وبأسلوب يكاد يكون واحدا. الأمر الذي يثير سؤالا كبيرا هو: إذا كانت تلك الوثائق تتعلق حقا بأمن الدولة، فلماذا تمت إبادتها؟
الإجابة التي تخطر على بال أي مراقب هي أن الوثائق، التي حاولوا إبادتها تدين جهاز أمن الدولة وتكشف ممارساته البشعة وجرائمة بحق المجتمع عبر العقود الأخيرة على الأقل، هي شهادات إدانة للجهاز وللنظام تفضح أسراره وتقدم أدلة تعريته. ليس ذلك فحسب بل تبين تلك الوثائق مدى تغلغل عملاء، وأصابع ذلك الجهاز الأخطبوطي في نسيج المجتمع المصري. وقد رأت قيادة الجهاز أن التخلص من تلك الوثائق ضروري لطمس معالم الجريمة التي ارتكبوها.
في هذا الصدد استوقفتني وثيقتان ضمن ما نجا من الحريق، الأولى موجهة إلى مفتشي المباحث في جميع المحافظات، وموقعة باسم اللواء حسن عبد الرحمن رئيس جهاز أمن الدولة ومساعد أول وزير الداخلية نصها كما يلي: نظرا لما تشهده البلاد في الوقت الراهن من حراك سياسي وتصاعد الوقفات الاحتجاجية واستغلال بعض العناصر المناهضة لتلك الوقفات، واحتمال مهاجمة بعض المقرات الشرطية، ومنها بعض الفروع والمكاتب فقد ووفق على ما يلي:
ــ إلغاء جميع أرشيفات المكاتب الفرعية التابعة للإدارات والفروع الجغرافية والتخلص من محتوياتها عن طريق الفرم وليس الحرق.. مع نقل المعلومات غير المتوافرة بالإدارة أو الفرع إلى أرشيف الإدارة أو الفرع.
ــ تسيير أمور العمل بالمكاتب في حالة طلب الكشف عن أسماء من خلال الاتصال بالإدارة أو الفرع بمعرفة أحد السادة الضباط لتحقيق المطلوب.
ــ إلغاء أرشيف «سري للغاية» بأرشيف الإدارات والفروع الجغرافية أو إعدام محتوياته عن طريق الفرم… والتنسيق مع أرشيف سري للغاية بالجهاز في حالة طلب معلومات.
ــ قصر تحرير مكاتبات «سري للغاية» مستقبلا على الأصل فقط دون الاحتفاظ بصور.
برجاء تنفيذ ذلك تحت إشراف سيادتكم.. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. «التاريخ في شهر فبراير الماضي ولكن اليوم ليس واضحا في الصورة المستنسخة».
الوثيقة الثانية تتضمن مذكرة قدمت إلى رئيس أمن الدولة خلال شهر فبراير أيضا (اليوم ليس واضحا)، تعلقت بالتعامل مع الدعوات التي أطلقت لحل الجهاز بعدما ساءت سمعته، وأشارت إلى أن أصواتا لها توجهاتها الخاصة سعت إلى النيل من الجهاز «من دون اعتبار لمقتضيات المصلحة القومية العليا والأمن القومي المصري».
أضافت المذكرة أن هناك رؤية يمكن طرحها في إطار السعي من جانب الدولة لاستيعاب المطالب «الإثارية» المطروحة عبر أبواق الدعاية الإعلامية، سواء المناهضة أو ذات الأغراض، التي توظف معالجاتها لطرح مطالب المتظاهرين، وتتبلور هذه الرؤية في ما يلي:
ــ الإعلان عن حل مباحث أمن الدولة بشكل صوري وإعلامي، والإعلان عن أن ذلك يتم في إطار تغييره. وكذلك السعي إلى امتصاص الدعاوى الإثارية والمناهضة في هذا الشأن.
ــ تغيير مسمى الجهاز إلى جهاز الأمن الداخلي ــ جهاز المعلومات الأمنية ــ جهاز الأمن الوطني.. الخ «بقية الوثيقة مفقود، ولكن الفكرة فيها واضحة. وهي تدعو إلى إحداث تغيير في اسم الجهاز فقط مع الإبقاء على وظيفته كما هي».
(3)
هل بوسعنا أن نقول إن جـهاز أمن الدولة الذي سبقت الإشارة الى أنه كان واعيا باحـتمال تعرض مقــرات الشرطة للاقتــحام من جانب المتظاهرين قد تخلص فعلا من الوثائق الأخطر، وأنه قصد أن يترك بقية الوثائق لكي تتسرب بصورة أو أخرى، ومن ثم تصبح عرضه للتداول بما يفتح الباب لاحتمالات البلبــلة وإثارة الفـتنة. علما بأن الوثائق المتروكة خلت من أي إشارة إلى أركان النظام السابق، الذين كان أغلبهم ضالعين في مختلف صور الفساد.
يؤيد هذه الفكرة أن بعضا من تلك الوثائق تتحدث عن العلاقات الشخصية والأمور الشديدة الخصوصية. ومضمونها يصلح مادة للنميمة والثرثرة ولا علاقة له بالشأن العام أو بالسياسة.
من الوثائق التي تثير البلبلة وتبعث على الحيرة واحدة صدرت عن مكتب وزير الداخلية منسوبة إلى «التنظيم السياسي السري»، وتحدثت عن تكليف القيادة رقم 77 بتاريخ 2/12/2010 الخاص ببحث إمكانية «تكتيف الأقـباط وإخماد احتجاجاتهم المتتالية، وتهدئة نبرة البابا شنودة في خطابه مع النظـام»، واقترحت الوثيقة أن يتم تنفيذ عمل تخريبي ضد إحدى الكنائس الكبرى بالقاهرة بمعرفتنا، ثم تقوم بإلصاق تلك التهمة أثناء التحقيقات في أحد القيادات الدينية المسيحية التابعة للكنيسة عن طريق جعل جميع تحريات المعمل الجنائي والنـيابة العامة تتــجه نحو القيادة القبطية. ثم نطلع البابا شنودة على نتيجة التحقيقات السرية. ونفاوضه بين إخماد الاحتجاجات القبطية المتـتالية على أتفه الأسباب وتخفيف حدة نبرة حديثه على القيادة السياسية، وعدم تحريض رعاياه الأقباط للتظاهر بالاحتجاج، ودفعه نحو تهدئة الأقباط للتأقلم مع النظام العام بالدولة. وإما إعلان قيام القيادة الكنسية بتدبير الحادث وإظهار الأدلة على الملأ أمام الرأي العام الداخلي والخارجي لتنقلب جميعها على الكنيـسة، وذكرت الوثيقة أنه إزاء ذلك «من المؤكد أن البابا شنودة سوف يمــتثل للتهديد، وسوف يتحول موقفه إلى النقيض، بما يضــمن تهدئة الأوضاع تماما».
ما يثير الدهشة أن تلك لم تكن فكرة مجنونة خطرت للمسؤولين في مكتب الوزير ممن ينتسبون إلى «التنظيم السياسي السري»، وهو جهة لم نسمع بها من قبل، ولكنها نفذت بالفعل في كنيسة «القديسين» بالإسكندرية، حيث حدث تفجير كبير أثناء خروج المصلين في احتفالهم في الكنيسة برأس السنة الميلادية الجديدة، مما أدى إلى مقتل 21 شخصا. وليس ذلك مجرد استنتاج، ولكن إحدى الوثائق التي عثر عليها فضحت السر العجيب. تاريخ الوثيقة 11/12/2010. وهي منسوبة إلى مكتب الوزير، وعنوانها، خطوات تنفيذ التكليف 77 بتاريخ 2/12 تحت إشراف الرائد فتحي عبد الواحد، وورد في النص ما يلي:
تنفيذا للتكليف رقم 77 بتاريخ 2/12/2010 اجتمعنا مساء أمس الساعة 20,20 لمدة ساعة ونصف ساعة بكل من المدعو محمد عبد الهادي والمدعو أحمد خالد والمدعو عبد الرحمن علي، واتفقنا على جميع بنود الخطة الموضوعة لتنفيذ المهمة. كما اتفقنا على أن يتم تسلم المتفجرات المتفق بشأنها جــاهزة وفى انتـظار ساعة الصفر. وقد وجهنا المدعو أحمد خالد وعــبد الرحمن على بعدم مغادرة محل الإقامة المحدد لدينا إلا بإخطار مسبق لنا. كما وجهنا المدعو محمد عبد الهادي بإخطارنا بجميع تحركاته وما ينوى القيام به من أعمال خلال الفترة المقبلة لحين تنفيذ العملية. أما مسرح العملية فقد وجهنا عناصر الشرطة السرية المكلفة بمراقبته وإعداد تقارير يومية وموافاتنا بها يوميا!
(4)
مساء يوم الخميس الماضي ظهر ضابط شرطة سابق اشتغل بالصحافة على شاشة إحدى القنوات الخاصة، وظل يندد بالفوضى الضاربة الأطناب في البلاد، واتهم الإخوان المســلمين بأنهم ضالعون في تلك الفوضى. كما تعددت الكتابات التي لوحت بفزاعة الإخوان، وحذرت من ان إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر سيوقع البلد بين أيديهم، لأن المنافسة ستكون بينهم وبين مرشحي الحــزب الوطني. وأثارت كتابات أخرى مسألة الفوضى الحاصلة في البلد، والأضرار الاقتصادية التي ترتبت عليها، كما أثارت قضية انتشار الجرائم في الأقاليم (غياب الشرطة سبب لها)، وقرأنا لمن قال إن الثورة أصبحت بحاجــة إلى ثورة أخــرى، ولمن قال إنه أصــبح يكره الثورة لأنها فتحت الباب لشرور لا يعلم مداها إلا الله.
كأن المطلوب أن يندم الشعب المصري على الثورة التي أطلقها وأيدها. وأن يتحسر على حكم مبارك ونظامه. بسبب من ذلك فإنني أشك كثـيرا في ملابسات اقتحام مقار أمن الدولة وفى براءة، الذين يثيرون مخاوف الناس من المرحلة المقبلة، ولا أتردد في القول بأنهم يروجون له يقدمون أكبر خدمة للثورة المضادة، إن لم يكونوا جزءا منها، علموا بذلك أم لم يعلموا.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى