ثورة مصر

التناقض بين سعة التاريخ المصري وضيق الحاضر: مصر التي في خاطري أجمل من نفرتيتي!

الشاعرة الكندية مارتين جاكو
بكثير من العمق تتسلل الكاتبة الرومانية دانييلا فيرانيسكو ـ عبر هذا المقال الذي نسجت خيوطه الشاعرة الكندية مارتين جاكو – إلى عمق البنية السوسيولوجية المصرية لتفكك جذور ثورة الشباب المصري الذي هب عن بكرة (الفيس بوك) ليدك الصنميات التي طال حكمها في مصر. فمن خلال إقامتها المصرية الطويلة ومعايشتها لمختلف طبقات المجتمع المصري، تبحر دانييلا – من وجهة نظر أجنبية – في مقاربة المشهد المصري لما قبل الثورة لواقع ظل يترنح عقودا عجافا..!!
(المترجم)
على خطى تونس وثورة ياسمينها، نزل الشعب المصري يوم 25 كانون الثاني (يناير) الماضي إلى الشوارع مطالبا برحيل حسني مبارك الذي جلس على سدة الحكم على مدى ثلاثة عقود، بغية تحقيق ديمقراطية حقيقية فكانت ثورة اللوتس.
فمنذ أيلول (سبتمبر)، حاول بعض المتظاهرين التعبير عن إمكانية تداول سلطة الرئيس الذي سيبلغ 83 سنة في متم ايار مايو) القادم وكان ينوي توريث الحكم لابنه في انتخابات أيلول (سبتمبر) القادم. فمثلما فعل التونسيون من قبل، استطاع المصريون تنحية ديكتاتورهم، وهم الآن في طريقهم نحو الديمقراطية، الشيء الذي جعل شعوبا أخرى تحذو حذوهما، إذ وجدت تلك المظاهرات صداها في أكثر من بلد. انه زمن الديمقراطية ـ فيما يبدو- قد حان..
إن مصر هي البلد الأقوى في العالم العربي بساكنة تفوق الثمانين مليون مواطن، والقاهرة هي أكبر مدينة في إفريقيا بما يفوق 17مليون نسمة،كما أن أكثر من ثلث السكان شباب، وهؤلاء هم الذين هبوا للتظاهر. لقد دفعهم الفقر(40 في المئة من الشعب المصري يعيش بدولارين في اليوم) وكذا عدم احترامهم للثورة، لأنهم كانوا في مواجهة مستقبل بلا أفق.وبالفعل، إذا كانت الأرقام تشير إلى أن معدل البطالة لا يتجاوز 12 في المئة فان الكثير من الشباب من حملة الشهادات ينتهي بهم الأمر إلى العمل في مجال لا علاقة له بمجال تكوينهم، ويعيشون في فقر مدقع ينتظرون أحيانا عشرات السنين قبل أن يجدوا عملا في مجال اختصاصهم. تصرح دانييلا فيرانيسكو(*) قائلة : (إنهم لا يتوفرون على الإحساس بالانتماء لبلادهم كما هو الحال اليوم ـ تقصد بعد الثورة / المترجم – لأن النظام لم يكن يعيرهم أية أهمية .إنهم يشعرون بالاحتقار معتقدين أنه من غير اللائق أن يعيشوا كذلك). وتضيف:(لست مندهشة لما يحدث / (حدث)، لقد عشت منذ سنوات بيقين راسخ أن الوضع سينفجر لا محالة هناك)، موضحة أن حرية التعبير الموجودة في الإعلام المصري لا تأخذها الحكومة المصرية مأخذ الجد. تقول: (كان الأمر يتعلق بديمقراطية خاطئة لا تحمل من الديمقراطية إلا المساحيق) مؤكدة أيضا (أن النقود اللاذعة على صفحات الجرائد تقابل باللامبالاة)، فالشباب على وجه خاص هو الذي يعاني، لأن الأعراف في مصر تقضي بعدم الزواج إلا بعد أن يكون الشاب قادرا على ذلك ماليا وهذا ما لا يتأتى في حالة الشباب المصري قبل بلوغه الخامسة والثلاثين .
إن الشعور العام للشباب المصري يمكن اختزاله – بحسب دانييلا – في ثلاث كلمات التقطتها من أفواه الشباب، وهي: (الإحباط ـ الاكتئاب – القهر). فالشبان بشكل عام يحسون بالإذلال وبانكسار الأحلام لينتهي بهم الأمر إلى التراجع كلية عن الحق في الحلم!!.
تقول:(التقيت الكثير من الشباب، بعضهم ولج للتو مرحلة المراهقة وهو يتولى إعالة عائلته. واحد من هؤلاء يعمل على مقربة من أهرامات الجيزة وكان يحلم بأن يتعلم القراءة والكتابة يوما ما، بحيث طلب مني أن أحضر له بعض الأقلام للكتابة بكل اللغات التي كان يحلم بتعلمها ولما يكن يتجاوز الثانية عشرة من عمره) ظلت دانييلا تحتفظ بذكرى ذلك اللقاء وبالمفارقة بين سعة التاريخ المصري وفقر ذلك الطفل وبؤسه.
مع ذلك، ساند الكثير من المصريين مبارك، إذ كانوا يرون فيه السلام والاستقرار وكانوا يتوجسون من التغيير. تقول: (كانوا يعتقدون أنهم يحبون جلادهم فيصوتون لصورة الفرعون من خلاله، هذا الفرعون الذي له الحق الشرعي للتحكم في حيواتهم ومصائرهم).
إن مجتمعا كهذا لا يعرف الفردانية، فالمصريون: (لا يعيشون إلا في علاقتهم بالجماعة). كما تؤكد دانييلا أيضا أنه يلزم الكثير من الوقت لبناء ديمقراطية حقيقية، تقول:(إن الإيمان الديني هو الذي ينقذ دائما الناس هناك، فهم مرتبطون بإيمانهم، لأنه الأمل الوحيد الذي تبقى لهم). كما تشير إلى أن بعض المصريين متشبثون بذكرى الرئيس السابق جمال عبد الناصر الذي يعلقون صوره على جدران بيوتهم، لأنه يرمز إلى سنوات المجد المصري حيث كانت مصر تشكّل مركز القومية العربية في تلك المرحلة مؤكدة أن (الحنين إلى الماضي كبير لدى المصريين الذين يملكون وعيا حادا بانتمائهم الفرعوني، ففي كتابي تكلمت طويلا عن هذا الأمر وعن المفارقة الصادمة بين ماض مشرق وحاضر تداس تحت سنابكه الكرامة الآدمية. فالمصريون يتوزعهم الماضي بمآثره الشهيرة (في القاهرة في الأقصر ولا سيما في أقصى الجنوب المصري وكذا التماثيل الباذخة والمقابر الفرعونية) والحاضر الذي تجبرهم قسوته على اقتلاع لقمة عيشهم من يوم لآخر بمشقة الأنفس. ينتصب تمثال رمسيس الثاني على مقربة من أفقر المناطق في مصر، حيث يمثل كسب القوت اليومي مشكلة حيوية. كتبت ذلك منذ اثني عشر عاما، لذلك فما يحدث اليوم ليس مفاجئا بالمرة بالنسبة إلي) تستنتج دانييلا..
ترجمة : مصطفى بدوي

هوامش:
(*) دانييلا فيرانيسكو كاتبة وشاعرة رومانية تشتغل أستاذة للأدب العربي بجامعة: (دالوزي في هاليفاكس / كندا). عاشت زمنا طويلا في مصر وكتبت كتابا فكريا باللغة الرومانية عن الحياة اليومية في مصر، تحت عنوان: (مصر التي في خاطري أجمل من نفرتيتي) ونشرته في بوخاريست (1998) بالإضافة إلى كونها شاعرة إذ كتبت ديوانا شعريا بالعربية نشرته في القاهرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (2003) تحت عنوان: (صورة للبقاء).
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى