صفحات ثقافية

جائزة بوكر العربية للرواية» … مراهقة ما بعد الكولونيالية

null


خالد الحروب

أنتجت تيارات نقد ما بعد الكولونيالية في الثقافة والأدب إلماعات نقدية مبدعة وشقت مناهج جديدة قوضت مركزيات عديدة، وخصوصاً الغربية في طورها الإمبريالي.

وفي الوقت ذاته أنتجت تلك التيارات مدارس للنظرة إلى الغرب غير الإمبريالي من أجل موضعة العلاقة الثقافية بين الغرب وغيره في إطر غير تقليدية كالتثاقف (hybridity) والتعددية الثقافية (multiculturalism) والكوزموبوليتانية المسؤولة (active cosmopolitanism).

وتطور على هوامش تلك النظرات النقدية ما يمكن وصفه بـ «النقد الما بعد كولونيالي المراهق». هذا النقد المسطح هو أحد أهم تمثلاث الإستشراق المعكوس الذي يرى الغرب كتلة مصمتة واحدة ويخلط الثقافي بالسياسي بالأدبي بالإنساني بالإمبريالي، مضيعاً الفوارق مثلاً بين «الغرب النقدي» و «الغرب السياسي والإمبريالي»، متجاوزاً عن كون الأول واحداً من ألد أعداء الثاني. ومخفياً أيضاً الإفتراق بين «الغرب الإنساني» بجمعيات حقوق الإنسان النضالية فيه و «الغرب العسكري» الذي يريد أن يحتل ويستغل، وهكذا.

«النقد المراهق» عمد إلى تسطيح ما هو متشابك ليختزل الأمور إلى سواد وبياض، بما يناسب فهمه ويسهّل عليه آليات التحريض بإتجاهات ولغايات مختلفة.

وما هو تشابك ومتداخل من سياقات وإلتقاءات ثقافية ما كان له إلا أن يزداد تعقيداً في عالم اليوم المطلّع على بعضه البعض في شكل لم تشهده البشرية من قبل جراء عولمة الإتصالات والتواصل، ملقياً أرتالاً من الغموض والأسئلة عن الحدود بين «الداخـــل» و «الخــارج»، «الوطن» و «المنفى»، «الأنا» و»الآخر»، «الثقــافـــة المحلية» و «الثقافة غير المحلية»، وأخيراً حول دور المثقف بين أن يكون «شاعر القبيلة» أو «ناقد القبيلة».

وعندما تصر شريحة من المثقفين العرب على لعب دور «شاعر القبيلة» في ظل ذلك التعقيد والتشابك وتحت الضوء الساطع الذي تتيحه عولمات الثقافة والإتصال فإن «نقد» هؤلاء وبهلوانية توترهم يستفز الضحك والسخرية كون الأمر مراهقة ثقافية متأخرة وفي غير زمانها.

بعض النــقد الــذي وجه إلى «جائـــزة بــوكر للرواية العربية»، وهي مشروع تشرف عليه مؤسسة الإمارات في أبو ظبي، بتعــــاون ومساعدة من مؤسسة بوكر البريطانية للرواية، يقع في دائرة المراهقة ما بــعـــد الكولونيـــالـــية. وبعض النقــد الآخــر، الجــدي والرصــين، قميـــن بالإنتباه إليه من قبل مجلس أمناء الجائزة وهو ضروري لأي جائــزة أدبـــيــة أو غير أدبية، إذ ليست ثمة جائزة عالمية إلا وتحظى بنقد واسع النطاق بدءا من جوائز نوبل وأنتهاء بأي جائزة محلية.

لكن المثير والمهم هنا هو التأمل في جوانب «المراهقة ما بعد الكولونيالية العربية» كما صدرت في نقد بعض الكتاب والأكاديميين العرب للجائزة. هناك سُباب ونقمة وسؤال إتهامي حول مغزى الإستعانة بخبرة جائزة بوكر البريطانية، وفيما إذا كان ذلك يدل على «حنين للإستعمار» أو أنه إدانة للذات بأننا ما زلنا قاصرين عن تنظيم وإدارة جائزة أدبية لوحدنا. يأتي هذا النقد «المراهق» من أكاديميين قضوا عقوداً يدرسون ويدرّسون في جامعات غربية (إستعمارية؟) وبعد أن تجاوز العرب (والمسلمون من ورائهم) عقدة الدونية والإستفادة من الغرب.

المشكلة هنا هي: «الغرب». هكذا، دفعه واحدة! ووجود أسماء «غربية» في مجلس الأمناء ذي الغالبية العربية أستنفر «مراهقةْ ما بعد الكولونيالية العربية» التي تتقافز، مشيرة إلى تلك الأسماء قابضة «الدليل القاطع» على «تغلغل الإمبريالية» في المشاريع الثقافية العربية!

النقد المراهق لا يهمه مثلاً أن تضم تلك الأسماء «الإمبريالية» مستعـــرباً وعاشـقـــاً للأدب والثقافــة العربيــة من طــراز فريد مثـــل بيتـــر كلارك الذي أشتغل في حقل الأدب والثقافة العربية أكثر من أربعين سنة، وترجم إلى الأنكليزية مئات النصوص الأدبية بين قصص قصيرة ودواوين شعر وروايات. لا يهم النقد المراهق أن تضم الأسماء «الإمبريالية» تلك سيدة رصينة مثل مارغريت أوبانك التي تشرف منذ أكثر من عشر سنوات على مجلة «بانيبال» أهم مجلة متخصصة في ترجمة الأدب العربي وتعريف العالم الأنكلوفوني بما يبدع روائيون وكتاب وشعراء عرب.

ليس مهماً أن يصفها أدباء ومثقفون عرب بأنها خير سفيرة للأدب العربي فذلك ما لا تحــفــل به «مراهقة ما بعد الكولونيالية العربــية»، لأن ما يثير أنتفاضاتها هو أنها زوجة الروائي العراقي صموئيل شمعون الذي أختير رئيساً للجنة تحكيم الروايات المتقدمة للجائزة لهـــذه السنة. وجزء كبير من مشكلة شمعون بالنسبة الى بعض النقد العــــربي المراهق أنه عراقي أشوري لا يمثل «الغالبية» وأنه لم يتعلم في جامعات. لا يهم أنه أنتج رواية مبدعــة ترجمــت إلى لغات عدة، وأنه شريك مؤسس في رعايــة مشروع «بانيبـــال» الريــادي، وأنه واحـــد من صعاليك الأدب العربي الحديث الرائعيـــن الذيـــن يعكســون كل ما هو عميـــق وعفـــوي في ثقافة هذه المنطقة المتعددة والمتنوعة.

أكثر ما يستفز نقد ما بعد الكولونيالية العربية المراهقة المخنوقة بربطة العنق الأنيقة والتفكير المبلط هو أن صموئيل شمعـــون يظهر لابساً حذاء رياضة في صورة رسمية!

* كاتب وأكاديمي (في جامعة كامبردج). عضو مجلس أمناء «جائزة بوكر للرواية العربية».

الحياة – 06/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى