ثورة ليبياميشيل كيلو

مخاوف على النفط

ميشيل كيلو
قال الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز إن أمريكا تريد احتلال ليبيا من أجل نفطها . بالأمس كرر العقيد معمر القذافي التهمة ذاتها، وقال إن أمريكا تريد احتلال ليبيا من أجل النفط .
وبغض النظر عن أن من يريدون إزاحة العقيد الليبي يضمون بين صفوفهم جميع دول أوروبا وروسيا وبلداناً عربية ناشده حكامها جهاراً نهاراً أن يتخلى عن السلطة، فإن حكاية النفط تتكرر كل مرة تحدث فيها أزمة تمس منطقتنا أو بلداً نفطياً، وبالفعل فإن آخر من تحدث عن احتلال ليبيا من أجل النفط كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد .
وبعيداً عن واقع أن كلاً من تشافيز ونجاد خصم معلن ولدود لأمريكا، لكنه يبيع نفطه في السوق الدولية، وبالتالي فإن إمكانية حصول المستهلكين عليه متاحة بحرية للجميع، حسب ضوابط تتصل بالتنافس الاقتصادي والعوائد المالية المربحة جداً لهذه السلعة الاستراتيجية، فإن احتلال بلد من أجل مادة أولية متاحة بوفرة في السوق الدولية يعد حماقة لا تسوغ التضحيات التي ستسببها، خاصة أن تجربة احتلال العراق انتهت على الأرجح إلى خروج أمريكا منه دون أن تنجح في احتكار نفطه أو الاستئثار بموارده، فقد دخلت صناعة النفط العراقية، فضلاً عن شركات أمريكية قليلة، شركات صينية وروسية وكندية وفرنسية وبريطانية وماليزية وحتى إيرانية، ولم تفز القوة العسكرية الأمريكية، الحاضرة إلى اليوم في الميدان، بالغنيمة التي من شأن الحصول عليها تبرير الخسائر البشرية، كما لم تسترد الخسائر المادية، وهي أكثر من تريليوني دولار كابدتها في العراق، ولن تستردها حتى إن احتكرت نفطه خلال قرابة عشرين عاماً .
لكن هلوسة النفط لا تفارق العقول، مذ ساد الفكر نهج رأى في الاقتصاد المحرك المباشر لأي نشاط أو جهد بشري، وفتش في كل مرة حاول أن يفسر فيها فعلاً سياسياً ما عن خلفياته ودوافعه الاقتصادية، فقال إن أمريكا ذهبت إلى فيتنام من أجل السوق وخسرت هناك قرابة 600 مليار دولار لن تستعيدها من سوق فيتنام الفقيرة مهما فعلت ولم تحتل العراق لأسباب استراتيجية بعيدة المدى، بل من أجل النفط . ومع أن الواقع كذب كل مرة هذه التحليلات المفعمة بالهلوسة الاقتصادية، والبعيدة كل البعد عن خلفيات ودوافع استراتيجية للسياسات الدولية، فإن أصحابها يصرّون عليها ويتمسكون بصحتها، رغم أنها تجرهم من خطأ إلى خطأ، وتورطهم في فهم سطحي للإرادات الدولية والخيارات العالمية، وتحجب عنهم أسبابها الحقيقية، وتوقعهم في منطق يستبدل الخاص بالعام والعام بالخاص، فيصير الهدف الجزئي، الذي هو النفط، هدف السياسات العام، والهدف العام، الذي يتصل بتوزيع القوى العالمية وبالصراع على مفاتيح العالم الاستراتيجية، هو الهدف الجزئي والعارض، وذلك لعمري خطأ أدى دوراً في هلاك أصحابه، والدليل أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي يبدو أنه كان مؤمناً بمسألة النفط هذه، عرض بيع الأمريكيين في خطب علنية نفط العراق لأمد طويل مقابل عدم مهاجمته، لكنهم رفضوا ذلك وأصروا على غزوه واحتلاله، تدفعهم إلى ذلك أسباب قال زبغنيو بريجنسكي، مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي وأحد كبار المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين في القرن العشرين، عام ،1973 عندما كانت علاقات أمريكا مع العراق على خير ما يرام، وقبل غزوه عسكرياً بثلاثين عاماً، إنها تتصل بالسيطرة على المجال الأوراسي، الذي هو مفتاح العالم والمنطقة التي دارت السياسات الدولية وتصارعت مصالح الدول الكبيرة فيها خلال حقبة دامت عدة آلاف من السنين، كان النفط ما يزال خلالها في ضمير الغيب، ولم يكن أحد يصارع أحداً عليه .
لنفترض الآن أن ليبيا نجحت في حجب نفطها عن أمريكا وسوقها، وفرضت حظراً كاملاً على الدول التي قد توصله إليها، فهل سيعني هذا أن الأخيرة لن تتمكن حقاً من الحصول عليه؟ من الجلي أن الإجابة عن هذا السؤال ستكون سلبية بالضرورة، وأن أمريكا ستتمكن من شراء نفط ليبي حتى في ظل الشروط التي افترضتها، بالنظر إلى التداخل في مصالح الدول، وتعقيدات علاقاتها السوقية والمالية والإنتاجية، والحصص ورؤوس الأموال التي تمتلكها كل دولة في اقتصاد وأسواق وماليات الدول الأخرى، والمصلحة المشتركة التي قلصت أنماط التنافس الذي يقصي الآخرين من السوق ويستهدف القضاء عليهم أو إضعافهم إلى الحد الذي يجعلهم عاجزين عن الصمود أو المنافسة . ومن المعروف أن هناك فسحاً مشتركة نمت بين الدول، تجعل لأمريكا مصلحة في ازدهار الصين، وللصين مصلحة في وجود قدرة شرائية عالية لدى أمريكا، وتفرض على فرنسا التصرف في السوق الأمريكية بالطريقة التي لا تلحق الضرر بمئات مليارات الدولارات التي وظفتها هناك، وبالعكس، فإن أمريكا تريد للاقتصاد الأوروبي أن يتوسع ويزدهر، لاعتقادها أن في نموه تقدم التجارة الدولية وتزايد فرص البيع أمام إنتاجها، وفرص الاستثمار أمام رؤوس أموالها، حتى إن بلغ توسعه حداً يجعله أكبر من الاقتصاد الأمريكي ذاته، كما هو حاله اليوم بالفعل، وهكذا دواليك .
بالعودة إلى مسألة النفط، يمكن القول إن أمريكا كانت سيدة معظم نفط العالم إلى ما قبل أعوام قليلة، وخاصة منه نفط الشرق الأوسط، لكنها لم تحجبه عن المستهلكين، بل تكفلت بإيصاله بالكميات المطلوبة إلى اليابان وغرب أوروبا، اللذين يفترض أنهما خصمان تجاريان ومنافسان لها . قد يقول قائل: إنها فعلت ذلك من أجل أرباح النفط، وهذا صحيح، ولكن بصورة جزئية . لقد فعلت ذلك في الحقيقة كي تعزز معسكر الرأسمالية في مواجهة المعسكر الاشتراكي السابق وتزيد تشابك اقتصاده وتنوع علاقاته، وتحوله إلى كتلة متراصة تستطيع حمل استراتيجيات توسعية دولية من دون أن تؤدي تكلفتها الكبيرة إلى إثارة قلاقل داخلية في بلدانها ومجتمعاتها . هنا أيضاً، ليس النفط، على أهميته وضخامة أرباحه، المحرك الرئيس للسياسات والهدف المقصود منها . واليوم، بسبب التشابك الحاصل فعلاً بين اقتصاديات الدول، وترابط مصالحها، وتبلور حقول ومجالات مصالح متقاربة أو مشتركة بينها، فإن ما يصل إلى أية واحدة منها سيصل إليها جميعها . ومن الصعب، إن لم يكن من المحال، أن ينجح نظام في فرض حصار على اقتصاد متقدم، ما دامت تشده علاقات متبادلة إلى غيره من الاقتصاديات المتقدمة والمتشابكة معه، هذا بافتراض أن هذا النظام في وضع يمكِّنه من حجب نفطه عن دولة مهمة، أياً يكن اسمها، وأنه بمأمن من ردود أفعالها، التي قد تلحق باقتصاده ضرراً لا يقوى على تحمله، ناهيك عن التخلص منه .
لم يعد عالمنا ذاك الذي وصفه الفكر الاشتراكي في خمسينات القرن العشرين، وخاصة منه الفكر السوفييتي، الذي افترض أن أطراف الرأسمالية ستتصارع حتى الموت، وأنها لا تخطط لغير القضاء كل واحدة منها على الأخرى، وأن أهدافها مادية صرف، يحركها قصد واحد هو الربح المالي المباشر، بينما تمثل سياساتها واستراتيجياتها مجرد وسائل وألاعيب لتحقيقه، فهي تابعة بالضرورة له وتفسر دوماً من خلاله .
هذه صورة للعالم لا تشبهه في شيء . وإذا كانت أمريكا تريد اليوم شيئاً من تشافيز، على سبيل المثال، فهو ليس نفطه الذي يبيع معظمه لها، بل بقاؤه في الحكم إلى أن يسقط تحت وطأة أخطائه الكثيرة والفادحة، فترتدع أمريكا اللاتينية عن الاقتداء بنموذجه وتعود إلى حظيرة الرأسمالية راضية مرضية، وتتقبل وضعها فيها . أما العقيد معمر القذافي، فهو يعيش هاجس الحكم لا النفط، لأن معظم نفطه يباع في السوق الأمريكية، التي توصله إلى السوق الدولية، فلا حاجة إلى احتلال ليبيا من أجله .
ليت من يدافعون عن ثروات ليبيا وغير ليبيا يدافعون عنها بأفكار وسياسات عصرية وصائبة، إذن، لكانت ليبيا بخير، ولكان شعبها قبل كل شيء بألف ألف خير .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى