الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

الطموحات الإيرانية تصطدم بعوائق متتالية

د. بشير موسى نافع
في رسالته إلى نظيره الروسي قبل أسابيع، أشار الرئيس أوباما إلى إمكانية إعادة النظر في المشروع الأمريكي لنشر درع مضاد للصواريخ في أوروبا الشرقية، إن أصبح من الممكن وضع حد للبرنامج النووي الإيراني. مفردات هذا العرض يمكن عرضها كالتالي.
عندما أعلنت إدارة الرئيس بوش عن مخططها لنشر صواريخ ومحطات رادار مضادة للصواريخ في بولندا والتشيك، كان المسوغ الذي وظفته أن الدرع بات ضرورياً لحماية أوروبا (وحتى أمريكا) من توجهات ‘الدول الخارجة عن القانون الدولي’، مثل إيران، بل وإيران على وجه الخصوص، لتطوير سلاح نووي وصواريخ بعيدة المدى. الروس، بالطبع، لم يبتلعوا المسوغ الأمريكي، واعتبروا المشروع سعياً سافراً لتغيير موازين القوى في أوروبا، لأن الدرع الأمريكي قد يتطور في المستقبل لجعل القوة الروسية الصاروخية غير ذات صلة بحسابات القوة. ما تستبطنه رسالة أوباما، إذن، أن ادارته يمكن أن تتفاوض مع موسكو لإيجاد حل مرض للخلاف حول الدرع الصاروخي (بدون التوكيد على الاستعداد لإلغائه)، إن تعاونت روسيا مع واشنطن والعواصم الغربية الأخرى لمحاصرة البرنامج النووي الإيراني (وربما توجيه ضربة عسكرية له في المستقبل). هذا عرض سافر من إدارة أوباما لإبرام صفقة محدودة مع الروس، بغض النظر عن التصريحات الروسية والأمريكية التي نفت الحديث عن مثل هكذا صفقة.
في موازاة تداول المعلومات حول رسالة أوباما لميدفيديف، كانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تعرب لنظيرها الإماراتي عن تشاؤمها من جدوى عقد مباحثات أمريكية – إيرانية (وهي المباحثات التي وعد بها أوباما أثناء حملته الانتخابية). كما أكدت كلينتون في مباحثاتها مع القادة الإسرائيليين على أن واشنطن ستتشاور مع حلفائها، سيما الدولة العبرية، قبل أن تأخذ أية خطوة باتجاه المباحثات الموعودة مع طهران. هذا كله متوقع، ولكن الأهم جاء في حديث السناتور جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، أمام الكونغرس الأمريكي. قال كيري (والذي ينظر إليه باعتباره كان الأجدر بمنصب وزارة الخارجية من كلينتون)، أن السياسة الأمريكية تجاه البرنامج النووي الإيراني يجب أن لا تقتصر على عقد بماحثات مباشرة مع طهران، بل يجب أن تعمل على حشد الإرادة الدولية ضد إيران، قبل أن تبدأ مثل هذه المباحثات. تصور كيري يصلح تفسيراً لرسالة أوباما لميدفيديف. يمكن بالطبع فهم الأسباب التي تدعو إلى التقارب بين واشنطن وموسكو؛ فالأوضاع في أفغانستان وما حولها ليست جيدة على الأطلاق، وهناك حاجة سياسية وجيوبوليتكية لتعاون روسيا مع حلف الناتو في أفغانستان؛ ولم يعد ممكناً، من جانب آخر، تجاهل الوزن الروسي الهائل في حقلي النفط والغاز. ولكن الأهم، أن الأزمة المالية/ الاقتصادية تدفع الولايات المتحدة إلى وضع لا يسمح بمغامرات عالمية مكلفة. وما ينطبق على العلاقات الأمريكية مع روسيا، ينطبق أيضاً، بل وبدرجة أعلى وأكثر إلحاحاً، على العلاقات مع الصين.
لم تتبلور سياسة إدارة أوباما تجاه إيران في صورتها الأخيرة بعد؛ ولكن هناك من البوادر ما يشير إلى أن واشنطن تسعى إلى حشد عالمي سياسي ودبلوماسي، بما في ذلك روسيا والصين، قبل انطلاق المباحثات الأمريكية – الإيرانية. الهدف الأمريكي لن يخرج عن هدف إدارة بوش: تحجيم البرنامج النووي الإيراني، وإيقاف عملية تخصيب اليورانيوم على وجه الخصوص. إن فشلت المباحثات في تحقيق الهدف الأمريكي، فلا يجب استبعاد قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، أو السماح للدولة العبرية بتوجيه مثل هذه الضربة. ولكن المهم، أن الحشد الأمريكي لا يشمل روسيا والصين فحسب، بل والدول العربية كذلك. والواضح أن عدداً من الدول العربية قد حدد موقفه من إيران منذ زمن، ولا يتطلب مزيد الإقناع للاصطفاف في التحالف الجاري تشكيله ضدها. بالرغم من الاستهجان العربي الواسع لخطاب المساواة بين الخطر الإيراني والخطر الإسرائيلي، فإن دولاً عربية تنظر بالفعل إلى إيران باعتبارها مصدر تهديد كبير لوجودها واستقرارها الاجتماعي. الإطار العام للمشكلة هو في ما بات يعرف بالطموحات التوسعية الإيرانية، التوسعية بالمعنى الفعلي (كما ترى في العراق ومنطقة الخليج، مثلاً)، وبالمعنى السياسي الرمزي (كما ترى في فلسطين ولبنان). هذه الطموحات تصطدم بطموحات مماثلة من دول عربية لا تقل وزناً وتأثيراً عن إيران (مثل مصر والسعودية)، تعتقد أن إيران، غير العربية، قد تجاوزت منذ زمن حدود مصالحها المشروعة في المنطقة العربية. طهران، من ناحيتها، تستغرب مثل هذه المقاربة لدورها العربي بينما يجري السكوت عن تدخلات أمريكية وأوروبية لا تنتهي، تمس بسيادة دول المنطقة جميعاً، وبمصالحها وثرواتها.
ليس لهذا الجدل من نهاية، ولا هو مرشح لحسم منطقي؛ فكلا الطرفين، العربي والإيراني، لا يريد أن يأخذ البنية التاريخية للذات والطرف الآخر في الاعتبار. الحقيقة أن هناك دولاً توسعية بطبيعتها، بتركيبها الجيني – الوراثي، إن صح التعبير؛ دول ولدت توسعية، وستبقى دائماً توسعية، بغض النظر عما إن كان تكونها كدولة يعود إلى عقود أو إلى قرون من الزمان. ولدت إيران الحديثة من رحم تحول الطريقة الصفوية إلى حركة سياسية – شيعية مسلحة، لم تسع إلى نشر المذهب وحسب، بل وفرد سيطرتها على الفضاء الواسع من حولها في مدينة ولادتها تبريز. وحتى بعد هزائمها الكبرى أمام السلطنة العثمانية، وبعد انهيار السلالة الصفوية في مطلع القرن الثامن عشر، ورثت كل الدول الإيرانية المركزية التالية النزعة التوسعية ذاتها، التي دفعت أحياناً بدافع طائفي، وأحياناً بدوافع قومية، وأحياناً أخرى بدوافع جيوبوليتكية. مصر هي دولة إقليمية توسعية، اكتسبت عاصمتها من لحظة نشأتها طابع العاصمة الامبراطورية. ولم يكبح طموحات مصر الإقليمية إلا خلال فترة قصيرة من تاريخها العربي – الإسلامي، عندما أصبحت ولاية عثمانية. وما إن تولى حكمها محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، حتى عادت مصر وعاصمتها إلى طبيعتها التاريخية. بعد عقود من الاحتلال البريطاني، استعاد عبد الناصر لمصر دورها الإقليمي، الدور الذي بدا أن الرئيسين السادات ومبارك قد تخليا عنه. ولكن الواقع أنه حتى والقيادة الحالية تؤكد على الطابع الوطني المصري للنظام، فإن مصر لا تستطيع تجاهل دورها ونفوذها الإقليميين كلية؛ التجاهل الذي أثار غضب الأستاذ محمد حسنين هيكل مؤخراً في لقاء حرب غزة مع قناة الجزيرة. وبالرغم من أن المملكة العربية السعودية كدولة لا تمتلك ثقل مصر السكاني ولا الدور التاريخي، فإنها لا تقل طموحاً؛ ليس فقط لأنها مركز الحرمين الشريفين، بل أيضاً لأن ولادتها كانت نتاجاً لتوأمة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وطموحات الأسرة السعودية، التوأمة التي انطلقت من إمارة نجدية صغيرة لتوحد معظم الجزيرة العربية.
طموحات هذه الدول الإقليمية ونظرتها لذاتها ودورها، تصطدم اليوم كما لم تصطدم منذ رسمت خارطة المشرق العربي – الإسلامي الحديث في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولأن اصطدامها يحمل أبعاداً تتعلق بمصالح الدولة العبرية وسياساتها، وبمصالح الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى وسياساتها، فإن هذا الاصطدام ينذر بعواقب وخيمة لكافة أطرافه، وأعباء ثقيلة الوطأة على الشعوب القديمة التي تقطن هذه المنطقة من العالم منذ مئات وآلاف السنين. إيران، التي يقوم نظامها السياسي على أسس طائفية، لا يمكن أن تستمر في لعب الورقة الطائفية في جوارها العربي (الذي يمارس بعض من دوله سياسات تمييز طائفية أيضاً). حل الإشكال الطائفي لا يبدو ممكناً في القريب العاجل، لأن أنظمة المنطقة في أغلبها تعاني مشاكل مزمنة مع شعوبها وجماعات هذه الشعوب. ولكن ذلك لا يعني أن توظيف الملف الطائفي في التدافعات الإقليمية يمكن أن يكون سياسة مأمونة لأي من الأطراف. وعلى إيران أن تدرك أن سعيها إلى توسيع نفوذها في العراق خلال حقبة ضعف استثنائية في تاريخه الحديث، يمكن أن ينعكس سلبياً على وضع إيران الإقليمي، إن آجلاً أو عاجلاً. ولكن الدول العربية الرئيسية مطالبة أيضاً بإدراك الجوانب الإيجابية في السياسة الإيرانية، سيما في لبنان وفلسطين، حيث يمكن للدور الإيراني أن يصب في صالح الشعبين اللبناني والفلسطيني وفي صالح شعوب المشرق العربي – الإسلامي ككل. الخلافات العربية – الإيرانية في لبنان وفلسطين أغلبها خلافات وهمية، ويمكن للملموس والحقيقي فيها أن ينظم ويوضع في حجمه الحقيقي. ولكن العرب لا يمكنهم المشاركة في تحالف ما يستهدف حرباً سياسية أو عسكرية على إيران. كان السكوت على غزو العراق وتدميره كارثة كبرى على المنطقة وعلى النظام العربي الرسمي؛ وليس ثمة حرب يمكن التنبؤ بتفاقماتها ومحطة نهايتها.
إقليمياً، كما دولياً، ليس ثمة من صراع أثقل وطأة وأكبر تكلفة من اصطدام مصالح وإرادات القوى ذات الطموحات التي تتجاوز حدودها الوطنية. ولكن هذا الاصطدام ليس حتمياً دائماً؛ وعندما تبدأ بوادره في الظهور، فإن تنظيمه عقلانياً وبراغماتياً ليس بالأمر المستحيل. الخطر يكمن في تجاهل أسس هذا الاصطدام، في تجاهل قواه الدافعة في الجانبين، وتجاهل الأثر الذي تتركه دينامياته. والمشرق العربي – الإسلامي مشرف على مخاطر جمة من هذا القبيل.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى