ثورة ليبيا

المراوغة الأميركية لإجهاض التحوّل في ليبيا

قاسم عزالدين
بعد أن سيطر شباب الثورة في ليبيا على كل المنطقة الشرقية وعلى مدينتي مصراته والزاوية في الغرب، صحا ضمير الإدارة الأميركية ومن خلفها «المجتمع الدولي» على انتهاك حقوق الإنسان وأخذت تعد العدّة «للتدخل الإنساني» تحت الفصل السابع في شرعة «مجلس الأمن». لقد أدركت أن الأدوار قد انعكست وأن القذافي بات يحتاج إلى إسناد دول «المجتمع الدولي» بعد أن سندها في «استراتيجية مكافحة الإرهاب» وفي تسليم المعدات النووية وخزينة النفط الليبي وفي سياساتها العربية والأفريقية. ففي خطابه بين الركام في باب العزيزية كان واضحاً في اطمئنانه إلى مساندة الإدارة الإميركية و«المجتمع الدولي» في اتفاقهما على ما يسمى «الحرب على الإرهاب» حسب نموذج «الفلوجة». وذهب به اطمئنانه إلى الإسهاب في الحديث عن الزحف «من زنقة إلى زنقة ومن بيت إلى بيت». ولم تأتِ مراهنة العقيد على المساندة الأميركية هلوسة، كما يُخيّل للذين يتعرفون على ليبيا لماماً من الإنطباعات الغرائبية الشائعة عن سلوكيات «الأخ القائد»، إنما أتت في سياق تفاهم طويل بين القذافي والإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، بدأ بالإعراب عن حسن النيات في مجزرة سجن «أبوسليم»، وملاحقة «أفغان ليبيا» منذ منتصف التسعينيات. ثم شمل التفاهم فيما شمل تسوية «قضية لوكربي» وتحالفاً استراتيجياً «لمكافحة الإرهاب» وبيع السلاح وتفاهمات سياسية ليبية ــ أفريقية واتفاقيات نفطية وعسكرية وأمنية متعددة. لكن الإدارة الأميركية خانت حليفها في اللحظة الحرجة، كما اتهمها القذافي بحق، بعد تحرير الجبل الأخضر ودرنة وبنغازي من سلطة العقيد وصولاً إلى اجدابيا، وبعد أن امتد الحريق إلى الجبل الغربي في غريان والزنتان. حينها اقتنصت الإدارة الأميركية ومن خلفها «المجتمع الدولي» فرصة المراوغة لاصطياد فرصة ذهبية يمكن أن تحقق لها أهدافاً استراتيجية تشمل ليبيا ومحيطها، وفي مقدمة هذه الأهداف محاولة إجهاض التحوّل الشعبي وتنصيب جماعات «الديموقراطية الأميركية» على رأسه.
والحقيقة أن ما شاع طويلاً عن ثورية العقيد في «الوحدة العربية» وعن مناهضته «الاستعمار والإمبريالية»، لا يتعدى منذ عام 76 لفظة «ثورية» أغدق «الأخ القائد» على ترويجها بعناية فائقة بين مختلف الجماعات والتيارات الانتهازية للتعويض عن فشله في تحقيق منجزات ثورية حقيقية. فقد أُصيب الرجل في بداية عهده بالسلطة، برحيل جمال عبد الناصر الذي قطع عليه حلم توحيد ليبيا مع مصر، وهو الحلم الذي رسمه مع أخوانه في الضباط الأحرار إثر هزيمة 67، وفي خضم الرفض الشعبي العارم للهزيمة الذي عمّ ليبيا وكل البلدان العربية. فهو لم يقتنع يوماً أن أرض ليبيا وشعبها يصلحان لأي تحوّل أو إنجاز حقيقي، لكنه اقتنع بعد تجربة «الاتحاد الثلاثي» مع مصر والسودان أنه لا يستطيع البقاء في السلطة ما لم يفرض على الليبيين «نبوءة» تغطي سلطته البدوية العارية في ادّعاءات تحررية لفظية. وعلى أيدي السادات تعلّم أوّل عهده في الإجرام السياسي حين استند السادات على «أن الاتحاد الثلاثي وُلد وله أسنان» لترويع الأجنحة الناصرية في السلطة وتشتيتها أيدي سبأ. وعلى غراره علّق القذافي طلاب جامعات بنغازي عام 73 على أعمدة المشانق بدعوى أن «ثورة الطلاب» زحفت على «الكلاب الضالة» وكان جلّهم من الجماعات اليسارية والناصرية الذين دعموا «ثورة الفاتح» ولم تتعدَ مطالبهم العمل على إنشاء روابط طلابية وتحسين التعليم والإقامة.
والمفصل الذي قلب القذافي من حالم بالوحدة والثورة إلى سفّاح يتغطى بجملة «ثورية» هو محاولة انقلاب عمر المحيشي عام 75 على سلطة القذافي في داخل «مجلس قيادة الثورة» والضباط الأحرار. ولم يكتفِ العقيد بالانتقام من عائلة المحيشي وأصدقائه، بل سيّر تظاهرات في كل الأراضي الليبية للانتقام من مصراته المدينة ــ القبيلة التي ينتمي إليها المحيشي مندّدة: «مصراته يا روس البقر، اللي منكم الخاين عمر». وظل يحرم المدينة ويلاحق المحيشي حتى تمكّن منه بعد أن أقام لهذه الغاية «وحدة عربية « مع المغرب من أجل تسليمه وتصفيته. لقد أخذت منه فكرة الانقلاب كل مأخذ وما زالت الفكرة تلاحقه غدوة وعشية حتى بات مسكوناً بهاجسي الخوف على السلطة والانتقام من الليبيين. وكل ما قام به من ترهات «سلطة الشعب» أو ادّعاءات قومية ومناهضَة للإمبريالية منذ عام 76 إلى اليوم، يقرأها الليبيون على خلفية فنون الخوف والانتقام من أجل شرعية لم يستحقها طواعية طوال حكمه المديد.
على مقاعد الدراسة التكميلية في سبها والدراسة الثانوية في مصراته كان يهدس مع زملائه بنبوءة وصوله إلى الحكم محل الملك ادريس السنوسي. وكان تلاميذ المدرسة يمازحونه تهكماً على حال اللعب بين تلاميذ المدارس. لكنه حفظ أسماءهم عن ظهر قلب وعندما وصل إلى السلطة انتقم منهم وأذلّهم «بيــتاً بيـتاً وفرداً فرداً». وهكذا دأبه في السلطة منذ أن سكنته فكرة الانقلاب على سلطته. فقد واجه معضلة قبول شرعيته في بلد نفطي قليل السكان شاسع المساحة متعدد الانتماءات القبلية والجهوية ولم يستطع أن ينظّم شكلاً من الاستقرار السياسي يؤمن له استقراره في السلطة. فجملته العصبية والذهنية لا تساعده على التفكّر في التدبير وأودت به إلى اصطناع «كاريزما» يقرأها اللبييون بين السطور «حنكة» بدوية يستعين فيها ويغدق عليها لإذلالهم بعظمة مكانته الشخصية على قوله: «إن العالم لا يعرف ليبيا لكنه يعرف أمجاد القذافي». ولا يفوته في تعظيم هذه «الكاريزما» المصطنَعة تزوير تاريخ الجهاد لكي يفرض جدّه الساعدي ووالده أبو منيار قائدي الجهاد الأعظمين، أو قتل فتى القذاذفة الطموح عمر اشكال لكي يفرض فخذه على القذاذفة أنفسهم، أو إشغال مدارس ليبيا ومعاهدها وجامعاتها وإعلامها ليل نهار بتفسير وشرح نظرية «عالمية» من عشرين صفحة.
وفي لقائه مع دبلوماسي وصحافي فرنسي معروف عام 79 ، أسرّ له القذافي عجباً من قدرة المثقف الأوروبي على التفكير «ما دامت الغيوم تغطي السماء». فقد اعتاد القذافي أن «يصفن» في وادي جهنم بالقرب من سرت ويبدع تحت سمائها الصافية الزرقاء فصولاً في شغله الشاغل لإدارة هاجسي الخوف والانتقام. والحقيقة أن اكتشافه «سلطة الشعب» على عادة تغطية ما يشغله في إذلال الليبيين بجملة «ثورية» من السراب، لم يسبقه عليها أحد وقد أصاب فيها مقتلين بحجر واحد: 1 ــ تفتيت كل البنيات التقليدية والقبلية وتجزئة فضاءاتها الجغرافية والاجتماعية إلى «مؤتمرات شعبية أساسية» تتصارع فيما بينها حول الفتات الجغرافي والمعنوي الضيق. وإلى جانب ذلك إلغاء كل أشكال تنظيم إدارات الدولة ومرافقها ومؤسساتها العامة، لا سيما مؤسسة الجيش الأكثر تنظيماً وخطراً على سلطته الشخصية في احتلال الفراغ. 2 ــ تجميع كل الناس أمام عينيه في قاعات صغيرة مغلقة يسهل مراقبتها والهتاف بسلطانه وعبقريته الفذة تعبيراً عن «ممارسة السلطة الشعبية». لكن القائد يسهر بنفسه على احتلال كل الفراغات التي تخلقها «السلطة الشعبية» في تفكيك التحالفات القبلية التاريخية وإعادة تركيبها بحسب الظروف المتقلّبة. ويسهر على تقريع الليبيين في إساءة إدارة سلطتهم التي تسببت بتخريب التعليم والصحة والسكن والبنية التحتية ووقوع 40% منهم تحت خط الفقر. ويسهر كذلك على رعاية نفط ليبيا بحكمته وعلى حماية الأراضي الليبية بكل أشكال الأجهزة الأمنية. كما يسهر على تشجيع الليبيين للتخلي عن بلاد قاحلة والاستقرار في بلاد الخيرات والمياه الأفريقية التي فتحها لهم بمجده وفروسيته.
وعلى غرار هذه «السلطة الشعبية» أشاع القذافي «ثورية» ادّعائه مناصرة الوحدة العربية وحركات التحرر ومناهضة الاستعمار والإمبريالية. وقد أغدق على هذا الادّعاء بحسبان مدروس لتعظيم شخصه وتسهيل بطشه في ليبيا. وعلى الرغم من شائعة سخائه في العطاء، فإن أحد قيادي الحركة الوطنية اللبنانية الذي تعهّد بنشر «اللجان الثورية» في لبنان على حساب حزبه تلمّظ من سخائه بالقول: «حنفية القذافي نقطة نقطة». وفي حقيقة الأمر لم يخطُ القذافي خطوات جدّية نحو الوحدة العربية بعد الاتحاد الثلاثي أو في دعم حركات التحرر. فقد اقتصر دعمه على الخطابة وعلى شراء ذمم الانتهازيين في القيادات وأصحاب النفوذ لتدعيم نفوذه الشخصي. وفي شأن التعاون المشترك في مشاريع الوحدات الكثيرة التي عقدها بين البلدان العربية، تؤكد التقارير أن القذافي استخدمها لمآربه الخاصة في تصفية الحسابات الداخلية أساساً، وعطّل كل مشاريع التعاون المشترك. وعلى العكس من ذلك فإن قبلته كانت على الدوام نحو البيت الأبيض ودول الاتحاد الأوروبي منذ انفتاحه على فرنسا في السبعينيات صاحبة النفوذ الاستعماري الأقوى في أفريقيا، لا سيما تشاد، المحاذية إلى ليبيا. ولم يصطدم بالإدارة الأميركية وفي فرنسا إلاَ نتيجة محاولتي اغتيال متتاليتين أدارتهما المخابرات الأميركية والفرنسية إثر إخلاله بالاتفاقات الأمنية بينهما. وهو اليوم يستثمر حوالى ثلاثين مليار دولار في أفريقيا والسودان ومصر عبارة عن أملاك وأراض عقارية لحاشيته وعن مراكز»ثقافية» ودينية للدعاء له بطول العمر طيلة فترة الحج الأفريقي. لكنه يستثمر أكثر من 180 مليار دولار في الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما في إيطاليا في مشاريع صناعية وشركات مالية وإعلامية تعبيراً عن تحالف المصالح والتفاهم السياسي.
ولعل الخطاب الذي يتوجه به اليوم إلى أميركا وأوروبا، يعبّر خير تعبير عن عمق هذا التحالف السياسي في «مكافحة الإرهاب» وفي حماية مصالح دول «المجتمع الدولي» والأمن الأوروبي. وهو ما تسعى إليه الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي فعلاً. لكن الثورة في ليبيا خلقت واقعاً جديداً يدفع الإدارة الأميركية ومن خلفها «المجتمع الدولي» إلى المراوغة في حقوق الإنسان من أجل محاولة إجهاض الثورة وتنصيب أتباعها من دعاة «الديموقراطية الأميركية» على رأسها. فهي تخشى من تجذّر الثورة وتلاقيها مع ثورتي مصر وتونس في حقل سياسي ــ اقتصادي يمكن أن يحدّ من التبعية السياسية والاقتصادية. وتسعى في الوقت نفسه إلى تغذية الوهم بأن استبداد العقيد هو نتيجة عدائه للديموقراطيات الأميركية والأوروبية ومناصرته القومية العربية وحركات التحرر. والأرجح أن يقود هذا الأمر إلى تدخّل عسكري أميركي بشكل أو آخر لتعزيز نفوذ جماعات «الديموقراطية الأميركية» في النظام الجديد، وخلق منطقة نفوذ أميركية ــ أوروبية بين مصر وتونس تمتد إلى السودان وتشاد والبحيرات الكبرى في أفريقيا. والأرجح أن القذافي سيحاول تأخير هذا الغزو ما أمكنه ذلك في عدم ارتكاب مجازر مكشوفة بعد أن كفّ يد عديله عبد الله السنوسي حتى أجل آخر. وسيحاول المراهنة على الوقت الذي تتخوّف الإدارة الأميركية من إطالته أكثر من قدرتها على تحمّله، سواء لناحية تجذّر شباب الثورة، أم جذب جماعات القاعدة إلى ليبيا، أم لناحية تدفق الهجرة السرية وتعطيل إمداد النفط الليبي.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى