صفحات ثقافية

معهد الدراسات الفرنسي وحده الذي تذكره: احتفاء بذكرى الماغوط في فيلم لهالة محمد

null
أنور بدر
دمشق ـ ‘القدس العربي’ لا بد من الاعتراف أن الشاعر محمد الماغوط كان أحد أهم أعمدة الحداثة الشعرية في سورية، بل أعمدة الحداثة العربية عموماً، فكان من رواد قصيدة النثر العربية وكان من رواد مجلة شعر مع أدونيس ويوسف الخال وأبي شقرا وسواهم.
‘عندما أتعب
أدع رأسي على كتف قاسيون
وأستريح
لكن عندما يتعب قاسيون
على كتف من يضع رأسه؟’
مقطع شعري للماغوط اشتقت منه هالة محمد عنوان فيلمها الوثائقي ‘إذا تعب قاسيون’، والذي سجلت فيه لتلك التجربة في مستوياتها الحياتية والإبداعية بشكل عام. وهو ليس الفيلم الوحيد الذي يتناول هذه التجربة، كما قيل في بداية تقديم الفيلم في المعهد الفرنسي للدراسات، بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل الشاعر، مع أنه كباقي الأفلام يعاني من إشكالية الحوار مع الماغوط تحديدا.
قدمت هالة محمد لفيلمها بعبارة موجزة:
‘هناك شخصيات غير رسمية عاشت حياتها تنتمي إلينا وننتمي لها، وعندما نحتفي بذكرى وفاتهم لأننا لم نحتف بحياتهم’.
المفارقة أن المؤسسات الثقافية الرسمية في سوريا والتي سعت إلى تكريم الماغوط في آخر حياته بأكثر من صيغة، لم يرد في برامجها أي شيء بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل هذا ‘البدوي الأحمر’، وحده المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية احتفى بهذه المناسبة عبر عرض الفيلم السابق لهالة محمد.
تفتح الكاميرا على مشهد بانورامي لدمشق من جبل قاسيون، ليبدأ الماغوط سرده العشوائي، والمتلعثم أحياناً، وهو كما في كل الحوارات والأفلام التي صنعت معه أو عنه كان يتحدث عن تجربة السجن كتجربة مركزية في حياته، ومن خلالها تكونت شخصيته وتجربته الإبداعية اللاحقة:
‘عندما دخلت السجن حسّيتْ أنه في جواتي شيء تحطم ..
وبعد خروجي من السجن، كل ما كتبته مسرح وصحافة وشعر كان محاولة لترميم هذا الكسر’.
ويضيف: ‘السجن مثل الشجرة، شروشها بتروح على القصيدة.. على الفيلم.. على الفم الذي تقبلينه.. على الصدر الذي ترضعين منه.. على الله الذي تؤمنين به’.
يتحدث الماغوط عن السجن والتعذيب، ‘أكلت كرباجين تلاتة.. وكفين تلاتة .. لكن المبدأ بيزعجني’ الأثر النفسي كان أكبر من حجم التعذيب. في السجن تعرف على رواد الحركة القومية، أدونيس، كمال خير بك، كما يتحدث عن زوجته الراحلة سنية صالح :
‘سنية شاعرة مهمة كتير، وكنت أنا وهي في نفس السجن، انسجنت ليوم واحد، وكل ما حكيت كانت تقول لي: عندما كنت في السجن.
الله يرحمها، شاعرة كبيرة’.
وعندما يتحدث عن بيروت ومجلة شعر، وقصائده المهربة يتذكر أن تلك المدينة أعطته الكثير، وعندما سألته المخرجة عن الشام أجابها:
‘الشام بتاخد ما بتعطي أبداً
بيروت أعطتني كتير
الشام كتير بحبها… وسميت بنتي شام’.
نلاحظ أن السجن ولّد الخوف عند الشاعر: حتى إذا اسمعت وقع على الباب بفكر: أجوا ياخدوني على السجن’. لكنه ولّد أيضا الكثير من الغضب والتمرد عند الشاعر، التمرد على نسق الثقافة والقصيدة الكلاسيكية، تمردا على المجتمع ..القيم .. المنظومة السائدة بكل أبعادها الأيديولوجية والسياسية والثقافية.
لكن الشاعرة والمخرجة هالة محمد اختارت الانطلاق من ‘تيمة الخوف’ عند الماغوط، يقول: الخوف هو انعدام الحرية… الخوف هو ظلم..’ ويتابع في مقطع آخر ‘الخوف هو الوحدة، وحدة القلب، مثل شيء في العالم حزين، حزن مثل الله موجود في كل مكان’.
وتتكرر هذه التيمة، تُصر المخرجة على التقاطها من فم الشاعر، والذي هو بصيغة أخرى يمكن اعتباره شاعر التمرد، فهو رغم القسوة في تجربة السجن والتي ولدت الخوف لديه، إلا أنه لم يستكن لها ولم يهادن السلطة أبداً. يقول:
‘السلطة… لا أتصالح معها، الشاعر عمره لا يكون رفيق حدا أو شخص في السلطة’. حتى عندما تسأله المخرجة : كيف عم تتكرم؟ يجيب بعفوية: ‘ما بعرف… بيحبوا يساهموا .. كأني مشروع قبر’.
لماذا اختارت هالة محمد الاشتغال على تيمة الخوف عند الشاعر السجين وليس تيمة التمرد؟ مسألة اختيار أو وجهة نظر، وهذا من حقها حتى لو اختلفنا في زاوية الرؤية، فهذا الشاعر الكبير والمبدع المهم لم يكن محدثاً قط، ولم يكن منظّراً بأي شكل من الأشكال، يعترف بذلك في الفيلم عندما يقول:
‘أنا بطبيعتي ما بنظّر،
بقول كلمتي وبمشي،
اللي بيفهمها ، بيفهمها..
واللي ما بيفهمها عمره ما يفهم’.
كما يقول في موضع آخر:
‘أنا ما بنظّر… بكره العقل .. أنا بكره التنظّير’.
وهذه المسألة جوهرية لفهم آلية صنع هكذا فيلم مع شخصية كالماغوط ولكنه لم يكن ساذجا في الوقت نفسه، هو لا ينظّر حقيقة، لكنه ليس صادقاً في كل ما يقوله عن الحزب وتجربته السياسية، فرغم السخرية المرّة بأنه اختار الحزب القومي الاجتماعي لأن في مركزه ذاك الوقت في السلمية كان ثمة مدفأة، نراه في مكان آخر يدين اغتيال عدنان المالكي كقرار تسبب في مطاردة أعضاء الحزب، ويعترف بالآن نفسه بصداقته لعبد الرحيم يونس منفذ الاغتيال.
كذلك هو الحال عند الحديث عن كمال أبو ديب، يستطرد بأنه صديق كارلوس..! أشياء وتفاصيل تهرب هنا وهناك عبر حديث متقطع ومتلعثم أحيانا، لكنها تشي بخطوط أكثر حقيقية للصورة كما حاول الماغوط أن يقدمها لنفسه، أو حتى مما حاولت المخرجة والشاعرة هالة محمد أن تقترحها في فيلمها ‘إذا تعب قاسيون’

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. لو كان الفقر رجلاً لقتلته» مقولة عظيمة قالها رجل عظيم لم يأتِ التاريخ بأحد مثله ولن يفعل ، تخلدت هذه العبارة في ذهون الناس واصبحت هذه الكلمات زاداً للفقراء في حياتهم يرددونها وهم في اصعب الحالات . محمد الماغوط واحد من هؤلاء الذين يؤمنون بها ايماناً كاملاً ، في الكتاب الجديد الذي صدر عن دار المدى – دمشق (محمد الماغوط … رسائل الجوع والخوف) تأليف عيسى الماغوط (شقيق محمد الماغوط) وهو في سياق كتب السيرة والمذكرات ، جوع ، خوف ، حرمان ، عوز ،فقر ، تشرد في الأزقة والحارات وغيرها من مشاكل الحياة اليومية كلها موضوعات الكتاب الذي يصور لنا حجم المعاناة التي واجهها محمد الماغوط في حياته وانعكست بشكل ايجابي على شعره وتمرده وعشقه للحياة، ووسط كل هذه المعاناة هناك فسحة مضيئة وبصيص امل يمني به النفس ويواسيها بمستقبل مشرق وغدِ افضل تارة وبالذكريات الجميلة تارة اخرى.

    يتناول الكتاب مذكرات الكاتب واخيه الشاعر في بلدتهم (السلمية) التي تقع في محافظة حماه في سوريا ،وكفاحهم في الحياة الصعبة التي عاشوها بمعاناة كبيرة ، حيث عاشوا في البداية طفولة جميلة فرحين بالمأكل والملبس والدفء ثم مالبثوا ان وقعوا في مأزق كبير من الفقر والعوز هذه هي مفارقات الحياة التي تدور مثل العجلة في ظل هذه الظروف القاسية ينشأ محمد الماغوط منذ صغره ثائراً،رافضاً لوضعه المأساوي محباً للحياة متمرداً لا يحب ان يحبس الكلمة مثل البدوي لا يحب ان يحبس في بيت تحده جدران فهو يعتبر الأرض كلها موطنه والصحراء كلها بيته يصف الكاتب محمد الماغوط وصفاً دقيقاً مع مقارنة بينهما توضح الفرق الشاسع الذي يميزهما عن بعض احياناً، حيث يذكر لنا الكاتب مثالاً بسيطاً هو ان شدة حاجة محمد الماغوط للنقود كانت تجعله قاسياً بينما شدة حاجة الكاتب للنقود تجعله ساكناً،ويصف لنا الكاتب كيف كان محمد الماغوط يبسط جبروته وتسلطه وقسوته على اخوته وكلمته مسموعة في البيت لدرجة انه حتى امه تعمل له حساباً في كل لحظة وجوده في البيت، ثائراً لا يؤمن بكل المبادئ السائدة أو الامثال الشعبية التي لم تكن تقنعه ابداً، انيقاً بمظهره وملبسه برغم الفقر، له خط احمر في الحياة اسمه «عزة النفس» لم يكن ليتجاوزه وهو في اصعب الظروف،
    حياة مليئة بالمشقة والمطاردة والسجن والتمرد والعشق ،يورد لنا الكاتب ايضاً رسائل بخط يد الماغوط كانا يتبادلانها معا ، ويورد ايضاً بعض الصور الفريدة والنادرة التي صورها محمد الماغوط في مختلف مراحل حياته، ويذكر قصيدة كتبها الماغوط لاعناً فيها الفقر والجوع.
    هذا الكتاب اول تجربة ادبية لعيسى الماغوط يتناول فيها بسرد ادبي ذكرياته وحياته مع اخيه البدوي

  2. يستحق منا هذا الكاتب العملاق تحويل سيرة حياته الى نص درامي تلفزيوني أو سينمائي لما يمثله من حالة فريدة في الادب العربي لن تتكرر فالماغوط كما يعرف الكثيرون لم يكن مجرد أقلام وأوراق واشعار ومسرحيات، وانما كان شخصية طريفة تنشر المرح والدهشة على الورق كما في الحياة، ولا يبالغ شقيقه عندما يقول عنه انه عبر الحياة مثل نيزك يضيء بوهج ساطع، ولكن أعماقه بقيت ملبدة بالظلام، ظلام اسود ومخيف يختبئ فيه الجوع والخوف، ومع ان ألوان الطعام كانت في بعض المراحل تملأ بيته، الا أنه ظل يتغنى بالجوع والخوف كصديقين عزيزين عليه، بل انه لم يكن يأكل احيانا ليبقى جائعاً، وليختبر مفاعيل الجوع في ذاته، وليعبر عن ذلك في كتاباته.

  3. يستحق منا هذا الكاتب العملاق تحويل سيرة حياته الى نص درامي تلفزيوني أو سينمائي لما يمثله من حالة فريدة في الادب العربي لن تتكرر فالماغوط كما يعرف الكثيرون لم يكن مجرد أقلام وأوراق واشعار ومسرحيات، وانما كان شخصية طريفة تنشر المرح والدهشة على الورق كما في الحياة،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى