ثورة ليبيا

ليبيا المجهولة… ليبيا المعقدة

نهلة الشهال
نكتشف ليبيا. نتهجأ جغرافيتها، نمعن النظر في الخرائط، فندرك كبر المساحة، ونلامس التشاد والنيجر اللتين ظنناهما بعيدتين، ونفهم سر التهديد بالهجرات إلى أوروبا الواقعة على مرمى حجر. نحاول حفظ أسماء المدن ومعالمها، أسماء القبائل وحجمها، ونستشعر خاصيات الأفراد، من شخصيات وعامة يتوالون أمامنا على الشاشة الصغيرة. هناك العاقل والمرتبك، ولا يكاد يظهر واحد «مودرن» أكثر مما ينبغي ومنحاز علناً لواشنطن، حتى يتلوه آخر تقليدي أو إسلامي. وهذا عربي وذاك من الطوارق… ويترسخ انطباع بأن في ليبيا أشكالاً متنوعة من السحنات، تتدرج حتى تشمل كل نماذج المنطقة بمعناها الواسع، ببيضها وسودها ومن هم بين بين.
نكتشف ليبيا، فإذا بحواضرها ممتدة كعقد من اللؤلؤ على طول المتوسط، بينما تقدِّم الصحراء صورة عن عمقها المخيف، الخالي إلا مما يكاد يكون أشباحاً. تقفز إلى الذهن من الذاكرة قصص إبراهيم الكوني التي قرأناها من دون سندها. كيف تأتَّى للقذافي أن يُحكم إغلاق ليبيا حتى أحالها مجهولة إلى هذا الحد؟! فليتقدم من يمكنه ادعاء أنه توقع دخول ليبيا إلى المعمعة. قيل الجزائر أو المغرب، أما ليبيا فبدت كمعطى مجرد. نعرف أن العقيد كان في الماضي يمد بعض الحركات السياسية في العالم العربي بالمال، بسخاء مزاجي… مثير لرعب الموفدين. نعرف انه كان يدعم دور نشر وصحفاً، وكان يعجبه بعض المثقفين، ولكن ذلك كان وجهه المجنون بمعنى محبب في شكل ما، وأنه عاد فانقلب عليه لضرورات تخص سلطته، مما أحكم إغلاق ليبيا.
نكتشف مقدار ضخامة المصالح الدولية المتعلقة بليبيا، بما فيها تلك الروسية والصينية. كنا بالطبع نعرف العموميات المتصلة بالنفط والغاز، أما أرقام مشتريات السلاح، وصفقات الإلكترونيات، ومعاملات المراكز البنكية والمالية، ومشاريع البنى التحتية من سكك حديد وشبكات كهرباء وماء، ومشاريع الإنشاءات المدنية المختلفة، فكأنها خرجت لتوها من حظر كان مفروضاً عليها، صنعه إهمال الباحثين لها أكثر مما هو رقابة السلطة، من دون انتفاء هذه الأخيرة.
نكتشف تعقيد ليبيا. فطالما كانت الأمور هادئة، تسير وفق فولكلور هندسه القذافي، كنا نتسلى بنصف الجنون ذاك في شخصية الرجل: المجالس الشعبية الجماهيرية و«إلغاء» السلطة، وملك ملوك أفريقيا، ومقترح حل المسألة الفلسطينية عبر إنشاء «إسراطين» الدولة الواحدة، والخيمة المنصوبة في روما وباريس. فإذا بهذه كلها وظائفية أيضاً! فلا يمكن الزعيم الاستقالة لأنه ليس رئيساً لشيء، وأفريقيا هي مرجع مزدوج يصلح لاستخدام أبنائها كمرتزقة، وللتهديد بهم كـ «موجات هجرة ستجتاح أوروبا بالملايين وتجعلها سوداء خلال مدة قليلة»، على ما قال في آخر مقابلة إذاعية له مع التلفزيون التركي، فإذا بنسبة من ينوي التصويت لماري لوبن، ممثلة اليمين المتطرف في فرنسا، تقفز لتضعها في المرتبة الأولى من الفوز بالرئاسة. وإذا به هو، القذافي شخصياً، ضامن لأمن إسرائيل: يذكر ذلك (يعرضه؟) في تلك المقابلة ويستمر بالتحفظ قائلاً «ما يسمى» بإسرائيل. وإذا بالخيمة علامة على الانتماء إلى البادية، وهذه استطراداً علامة على مزيج من قبلية («نحتكم إلى السلاح»، العبارة التي قالها ابنه، خريج مدرسة لندن للاقتصاد، منذ اللحظة الأولى، واستعادها هو مراراً)، وثورية يأمل القذافي الأب بتفجيرها «ضد الإمبريالية» إذا ما هاجمه عسكرياً حلف الناتو. وهو يعمل لهذا.
ثم هناك التهديد بـ «القاعدة»، يصلح لكل زمان ومكان. ولكن القذافي يمسرح كل شيء، فينصِّب أسامة بن لادن في مقابله، مخيراً الغرب… بين النار والنار.
هل سيتفق هذا الغرب على خطوات ذات تبعات عسكرية ضد القذافي؟ ذلك أمر مشكوك فيه لأسباب كثيرة، أولها الصعوبة العملية لوضع مثل تلك الخطوات موضع التنفيذ، وتناقض المصالح الغربية نفسها، والممانعة الروسية والصينية. وهناك كذلك السوابق السيئة الصيت لأفغانستان والعراق التي، علاوة على تسببها بدمار متمادٍ وفظيع لمجتمعات تلك البلدان، جعلت ذاك الغرب يكذب حتى الثمالة تبريراً للشروع فيها، وانكشف كذبه تماماً بحيث يمتنع هو عن تدوير حججه في ذلك الحين، وبحيث يلاقي الهجوم المضحك للقذافي على «الأنباء الإعلامية الكاذبة التي تفبرك واقعاً لا وجود له»، يلاقي آذاناً صاغية واضطراباً في الانحيازات. وأخيراً هناك شبه إجماع لدى قوى المعارضة الليبية على رفض مثل هذا التدخل.
هل تستطيع براغماتية القذافي ان تفعل فعلها هذه المرة، فتنقذه مجدداً؟ لعل سترته تمزقت من فرط قلبها، ولعله أوغل في الدم أبعد من خطوط التسويات المعتادة، ولعله خصوصاً يواجه مهمة متناقضة في ما يتعلق بإنقاذ نظامه: فهو من جهة يخوِّف الغرب بانقطاع النفط وبخسائر اقتصادية إذا نجح في إدامة القتال، وبالهجرات وبالقاعدة إذا رحل. وهو من جهة ثانية معني بإيجاد تسوية مع مناهضيه. وطالما لم يسحقهم عن بكرة أبيهم، ولن يتمكن، فلا يمكن عنوان تلك التسوية أن يكون استتباب نظامه، وستكون في أحسن الأحوال تفاوضاً على خروج مشرِّف وآمن له، تتضاءل إمكاناته كلما مر الوقت، على فرض أن مبادرة الرئيس الفنزويلي تشافيز تدور حول ذلك.
نكتشف تعقيد ليبيا. وتذكِّرنا الثورات بأنها ليست لعبة فيديو، كما قال في شأن آخر تماماً الناطق الجديد باسم البيت الأبيض، وكان يتحدث عن العوائق أمام اتخاذ قرار بحظر جوي على ليبيا، وعن جهل المطالبين به لمقتضياته. نكتشف أن الهبة الثورية لتونس التي ألهمت شرارتُها مصر، قد أتت مفاعيلها الأولى، واختصرت الأثمان هناك بسبب جِدتها وقوة اندفاعتها، ولكن الثورات ليست لعبة فيديو! وقد أنجزت تلك الاندفاعة ما عليها، حتى في تونس ومصر نفسيهما، وجاء وقت التقدم الحثيث، تحيط به أخطار من كل صوب، هي عرضة للتهديد. جاء وقت ذكاء آخر، لا يوجد ما يشير إلى عسره لمن تمكن من الإنجاز الأول.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى