ثورة ليبياميشيل كيلو

مــاذا يحــدث لليبيــا؟

null
ميشيل كيلو
في الأيام الأولى من ثورة 17 شباط، تحمس الأميركيون لها وأعلنوا وقوفهم الصريح ضد معمر القذافي ونظامه، وقالوا إنه فقد شرعيته ولم يعد يستطيع البقاء في وطنه لأنه يقتل شعبه بالجملة. بعد أيام قليلة، اعتبروا أعماله جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وهددوا بإحالته وأتباعه إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي ما لبثت أن تحركت بالفعل، وحدد مدعيها العام أوكامبو تسعة عشر مسؤولاً، على رأسهم القذافي وأبناؤه، وجه إليهم تهماً تجرمهم قانونياً، عممت شرطة الأنتربول بعد قليل أسماءهم على فروعها الدولية.
وكانت كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، قد ذهبت في حماستها الأولى إلى درجة هددت معها بتطبيق القوانين الأميركية على القذافي ونظامه، بينما اتخذ الكونغرس الأميركي بعد يومين قراراً غير ملزم للإدارة يدعم فكرة فرض حظر جوي على ليبيا، وهي فكرة كان قد اقترحها الرئيس اوباما، ورجح في الوقت نفسه أن يقوم حلفاؤه في أوروبا، وخاصة منهم إنكلترا وفرنسا، بتنفيذها، ثم كرر دعوته إلى القذافي لمغادرة ليبيا، وهدد من جديد العسكريين والسياسيين الذين يساندونه بالملاحقة والمحاسبة.
في هذه الأثناء، كانت أوروبا تبتعد من جانبها بدرجات متفاوتة عن حاكم ليبيا، وقد سبق الرئيس الفرنسي ساركوزي الجميع إلى إعلان مواقف صريحة يقطع فيها معه ويعلن نهاية شرعيته وضرورة سحب الاعتراف الدولي بحكومته، ثم تبعته إنكلترا فيما فعل وصرح، وتولت الدولتان، تلبية لرغبة أميركية ربما، تنسيق السياسات الأوروبية تجاه ليبيا، بينما كانت أسلحة البحر الغربية المختلفة تسارع إلى سواحلها، استعداداً للخطوات التالية، التي بدا مؤكداً أنها ستذهب جميعها نحو تصعيد الدعم للثوار، والحظر الجوي على طيران النظام، وقد عبر هذا التحول عن نفسه بوضوح في تصريح لصديق حاكم ليبيا وحليفه رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو برلوسكوني، أكد فيه إن هذا فقد شرعيته ولن يبقى في الحكم.
في النهاية أعلن الأميركيون أن باستطاعة الغرب تنفيذ الحظر على الطيران العسكري الليبي، الذي يقصف ويقتل الشعب، وأن هناك حاملتي طائرات ترابطان الآن في مواقع مناسبة، يكفي ما لديهما – وما يرابط في مطارات إيطاليا – من طائرات لتنفيذ أي أمر يصدر إليهما من الرئيس.
في ضوء هذه التطورات، قلت إن جديد الحدث الليبي يتمثل في تحول العامل الخارجي إلى عنصر حاسم في صراع القوى الداخلية، يجعل هزيمة القذافي مؤكدة حتى إن كانت قواه متفوقة على قوى خصومه ومعارضيه، وأن المشروع الدولي لمنعه من استخدام كامل قواه يعني منعه من تحقيق الانتصار على خصومه، ويجعل نهايته مسألة وقت. ثم، وقع فجأة أمر ما زالت طبيعته غير واضحة إلى اللحظة، أعقب إعلان الوزيرة كلينتون أن بلادها تجري اتصالات مع بنغازي: لقد حدث تبدل في الموقف الأميركي عبر عن نفسه في توقف الرئيس عن إصدار أوامر إلى القذافي بضرورة مغادرة ليبيا، وغياب كلينتون عن الشاشة تماماً، وتغير أولوياتها، وقول وزير دفاع أميركا إن بلاده لا تستطيع بمفردها فرض حظر جوي فوق ليبيا، وإن المسألة ليست سهلة لأنها تتطلب تدمير مواقع الدفاع الجوي ثم المطارات، وليبيا كبيرة والمهمة معقدة، والرأي العام الأميركي والعالمي ليس مستعداً بعد لدعم حرب جديدة، والأمر يتطلب قراراً دولياً من الصعب الحصول على موافقة جميع أطراف مجلس الأمن الدولي عليه. بينما قال مسؤولون أوروبيون كلاماً قريباً من هذه التصريحات. بعد الحماسة الجامحة جاءت الآن البرودة المتحفظة.
ما الذي حدث وجعل أميركا تغير موقفها أو تجمّده، وتتخذ دور المتفرج غير المهتم طيلة ثمانية أيام متواصلة؟ في حين كان القذافي يصعّد الحرب ويستفز العالم، وكان أبناؤه يقتلون الشعب الليبي بالجملة وبدم بارد، بينما ردّد أحدهم، سيف الإسلام، بلغة ساخرة: إن الغرب لا يقبل غير الأقوياء، والقوة ستستخدم إلى حد الحرب الأهلية ضد الشعب؟
ما الذي طلبه الأميركيون خلال الاتصالات من المعارضة ولم يحصلوا عليه، فقرروا ترك القذافي يفعل ما يشاء والاكتفاء بالتفرج على جرائمه؟ ما الذي جعل الحظر الجوي مهمة سهلة أول الأمر ـ وهي كذلك بالفعل ـ ثم مستحيلة أو شبه مستحيلة بعد الاتصالات؟ هل حمل الأميركيون تصوراً ما لعلاقاتهم مع ليبيا الجديدة رفضه الثوار في بنغازي، فكان ما شاهدناه من تحفظ المؤسسة العسكرية على العمل المباشر ضد القذافي، وصمت أوباما وكلينتون، الذي حل محل تصريحات يومية سابقة ركزت معظم جهد أميركا الدولي على الحدث الليبي؟
قال بعضهم: إن أميركا لا تريد التورط في حرب ثالثة؟ الجواب: إنها ليست متورطة اليوم إلا في حرب واحدة هي حرب أفغانستان. وقال آخرون: إنها لا تستطيع إرسال قوات برية إلى ليبيا. الرد: لم يطالبها أحد بذلك، واكتفى القوم الثائر بفكرة الحظر الجوي، فإن كان صعباً، فبالتشويش على اتصالات القذافي، فإن كان هذا صعباً، فبإمداد الثوار بأسلحة مضادة للدروع والطيران. وقال غيرهم: إن المنطقة ستهب ضد التدخل الخارجي. الجواب: إن من طالبوا بالحظر لم يريدوا تدخلا خارجيا، بل مساعدة إنسانية تقرها الأمم المتحدة فتكون محدودة وشرعية، لا تتضمن نزول قوات أجنبية ـ أميركية أو غير أميركية ـ في الأراضي الليبية، علما بأن البريطانيين أعطوا أنفسهم الحق في إرسال جنود إلى شرق ليبيا دون علم الحكومة الحرة، فكان رد الثوار عظيماً: لقد اعتقلوهم واحتجزوهم، وأفهموهم أن ليبيا ليست بلاداً بلا سيادة يحق لهم اقتحامها بحجة أنهم يريدون إجراء اتصال مع قيادتها الجديدة، فهل يجهل الإنكليز حقاً أصول العلاقات الدولية وكيفية إجراء اتصالات مع حكومات الدول الأخرى؟ أخيرا قال بعض محبي أميركا: إن الخلاف بين وزارتي الخارجية والدفاع قيّد أيدي واشنطن، وأربك إدارتها، وأفزع رأيها العام، فلا بد من انتظار تفاهمهما قبل التحرك، الذي لم يحدد أحد هويته إلى اللحظة!
شجّع الموقف الأميركي الطاغية وعصاباته على توسيع نطاق القتل، وتحويل الصراع إلى حرب شاملة غطت أكثر فأكثر كل مكان في ليبيا: من الزاوية إلى طبرق. ولعل مذبحة مدينتي الزاوية ومصراته، اللتين تقصفان منذ أسبوعين ونيف بصنوف الأسلحة الثقيلة كافة من الجو والبر، وتقتحمان بالدبابات والمدفعية المحمولة وراجمات الصواريخ، والهجوم المعاكس على الوسط والشرق وما سببه من فرار جماعي للسكان، هما النتاج الميداني لسياسة أميركية تتشدق ليل نهار بالحرية والإنسان، لكنها تغلب أقل مصالحها شأناً عليهما، وتسمح لنفسها باتخاذ مواقف تشجع في البداية الثوار على مواصلة النضال، ثم تشجع بصمتها وسلبيتها خصمهم على مواصلة القتل، فهي إما أنها كانت كاذبة عندما ادعت دعم التحول الديموقراطي في المنطقة، أو أنها أرادت ترويض الديموقراطيين إلى الحد الذي يجبرهم على وضع أقدار ليبيا بين يديها، وإلا دعمت سفاحاً تعلم أنه سيخرج من معركته ضعيفاً ومنبوذاً سيسهل عليها اقتناصه والتحكم ببترول بلاده وموقعها الاستراتيجي وأموالها الكثيرة، فالثورة ليست فرصة يحرز الشعب الليبي الديموقراطية بواسطتها، بل هي فرصة لوضع يد أميركا على ليبيا، ومثلها انتصار القذافي!
بدأت ديبلوماسية أميركا وأوروبا بالأمس (الاثنين) تحركاً جديداً لتغطية سلوكها المشين، فطالب وزير دفاع واشنطن من كابول بدعم دولي للحظر الجوي، وقالت إنكلترا إن الحظر لا يمكن أن يتحقق دون «موافقة المنطقة والشعب الليبي»، وألمحت إلى وجود تباين في الرأي داخل المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، الذي طالب بدعم دولي/ إنساني، بحظر جوي يفرض بقرار من الشرعية الدولية، التي يبدو أن أميركا لم تعد تعرف أين هو مقرها وكيف تعمل! والأشد سوءاً من ذلك أن ناطقاً باسمها أعلن استعدادها لإمداد الثوار بالسلاح، وإن «كان الوقت لم يحن لذلك بعد»!
ماذا يفعل العالم؟ إنه يبحث عن مصالحه، التي كثيراً ما تتعارض مع ما نريده لأنفسنا. لكنني أتساءل: ماذا يفعل العرب؟ ماذا الذي يحول دون إعلان ثوار مصر بأن هزيمة شعب ليبيا خط أحمر، وأنهم لن يسمحوا للطاغية بسحقه وإعادته إلى العبودية والذل؟ يقوم إخوتنا في تونس مشكورين بما يستطيعونه من أجل من دخلوا أراضيهم من ليبيا، عرباً كانوا أم أجانب، ومثلهم يفعل مصريو الحدود الشرقية مع ليبيا، الذين يساعدون جيرانهم بالغذاء والدواء. لكن هذا لا يكفي. أين مظاهرات التضامن مع الشعب الليبي، ولماذا لا ينظم الثوريون في البلدين حملة لتلبية حاجة شرق ووسط وغرب ليبيا إلى الأطباء والخبراء في مجالات تسيير الدول الحديثة كافة، وما يحتاجون إليه اليوم وبعده لطرد الطاغية؟ لقد أعلنت كل ثورة في التاريخ الحديث أنها ستدافع عن المحرومين من حقوقهم والمقاتلين ضد الطغيان والظلم، فهل كثير أن تعلن ثورة العرب الثانية في مصر وتونس عزمها على دعم كل من يقاتل في سبيل حريته من أمتنا في ليبيا وغير ليبيا وتبادر إلى فعل ما تستطيعه، رغم ظروفها الراهنة الصعبة، ضد نظامها وأي نظام آخر يحارب شعبه، وتدعو إلى تشكيل فصائل لمساندته ودعمه وإشعاره أنه ليس وحده، وأن معركته ليست ليبية وحسب، ولن تحسم على المحور الغربي/ الليبي وحده، بل في الإطار العربي الجديد أيضا؟
لا يجوز السماح بإطالة آلام الثورة الليبية. كما لا يجوز السماح بنزول قوات أجنبية في ليبيا، لأن هذا سيكون بداية انتكاس الثورة العربية الثانية في كل مكان، بما في ذلك تونس ومصر. ولا بد من وضع جميع الجهود في خدمة ثوار الحرية في أرض عمر المختار، ما دام انتصارهم سيسهم في الإطاحة بجميع صروح الاستبداد وركائزه. أما أميركا، فلتفضح نفسها للمرة المليون كدولة تتشدق بالحرية، بينما تتفرج بدم بارد على قتل المطالبين بها، لأن حريتهم قد لا تخدم مآربها الأخرى!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى