ثورة البحرينصفحات العالم

كل شيء مباح في الحب والحرب إلا في البحرين

محمد عبدالله
عَاهَدت نفسي أن لا أسَاهِم ولا بحَبَّة رَمْلٍ في غبار الطائفية التي يُرَاد لها أن تلفَح وجوه البحرينيين في هذه الأيام.
كثيرة هي الرسائل والمشاهد والتصريحات التي تصلني عبر البريد الإلكتروني وهي تتضمن تجييشاً وشَتماً وتكفيراً وتفسيقاً وإخراجاً للناس من دينها ووطنيتها وشرفها حتى، حَرَّمت أن لا أرسلها إلى أحد أيّاً كان خطّه السياسي ومذهبه التعبّدي وذوقه الفكري؛ لأنني أعلَم جيداً أنها ستبدأ بمُشاهَدة يشوبها تهكُّم لتنتهي لاحقاً إلى تسريج لخيول الضغينة والانتقام بين الناس عندما تستقر في عقلهم الباطن.
كثيرة هي الفِتن الطائفية التي بدأت بقول صريح أو بالتلميح وانتهت إلى حرب مفتوحة لا تضع أوزارها إلا إذا صار دخانها أبيض ينفثه بقايا حطام مُتكوّم على بعضه. في التاريخ القريب والبعيد وفي الجوار أيضاً حدث ما يُؤكِّد ذلك، وكان وَجَعه هائلاً على الأمم والشعوب والبلدان وعلى مستقبل تعايشها وأمنها. ولا أعتقد أن أحداً نسي التوتر والاقتتال بين المسلمين والأقباط في مصر (ليس آخره أحداث الحاضر) بعد تصريحات الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس القبطي قبل أشهر، وما تبعه (أو سبقه) من أحاديث جيَّشت العامة ودفعتها لارتكاب الكبائر من الذنوب، لم يكن أقلّها القتل والاندفاع نحوه بلا كوابح ولا ذِمَّة.
كلّ الأقوال والأفعال المُحرِّضَة على الطأفنة والتحريض على المجموع البحريني من أيّ مركز جاءت، ومن أي لسان صَدَرَت يجب أن تُقبَر ويُزال أثرها حالاً. وعلى الجميع أن يُوثِّقها جيداً بالصوت والصورة لتقديمها إلى القضاء لإثبات أن هناك شُبهات حقيقية للدفع بالتحقيق وتحريك الدعوى ضد المتسببين. مع التأكيد على أن كل هذه الدعوات والإشاعات التحريضية التي يصدرها البعض ما هي إلا تمثيل للأفراد الذين تورّطوا فيها وحدهم ودون سواهم ولا دخل للمجتمع البحريني فيها لا من قريب ولا من بعيد، بل ولا دخل حتى للعقل الجمعي فيه.
الأطباء وخلال علاجهم للأمراض فإنهم يقومون بعمل مُزدَوج في ذات الأوان. الأول يقوم على التصدِّي للمرض نفسه، والثاني يقوم بمعالجة تداعيات المرض، والثالث يقوم على سَدّ كلّ ما يُمكن أن يُفضي إلى المرض ذاته ويقوّيه. اليوم البحرين (ومن الناحية الاجتماعية) هي أقرب إلى الجَسَد المريض. وما ينطبق على الأمراض العضوية ينطبق عليها أيضاً. عَمَلُنا الاجتماعي يجب أن يكون متعدّداً لكي نقضي على داء الطائفية المقيت، وعلى تداعياتها كـ مرض. وما الدعوة إلى خَنق مُغذِّياتها بِجَبِّ كل تلك الرسائل والدعوات المباشرة إلا واحدة منها.
البحرينيون الذين عاشوا لسنين طويلة بهذا السِّلم الأهلي متوارثين ذلك آباءً عن أجداد لا يُمكن أن تزورهم أمراض الفراق والخصام بهذا الشكل الطارئ والسريع والمباغت. لا يُمكن أن تصبح بُلدَان جامدة المشاعر كسويسرا التي كانت موطن البروتستانتية الثانية ووعائها التنفيذي والتي شربت من دماء أبنائها ما فاض عن شحمة الأذن في القرن السادس عشر بعد صراعات جان كالفن وسيباستيان حتى تفارقا فرقاً كصدع الزجاجة أفضل منا ونحن الذين لم نُرِق قطرة دمٍ واحدة لا على خلاف جيرة ولا على خِلاف مذهبي ولا عائلي ولا أيّ شيء آخر.
ولا يُمكن لألمانيا الآريَّة التي شَهِدت حملة الدانوب العسكرية ومعارك موهلبرغ الدامية في بلاد الساكس، وسقوط فيتنبرغ ومجازر شارلكان بحق مخالفي الكاثوليكية لتحقيق الوحدة الدينية في الأراضي الجرمانية أن تصبح أفضل منا ونحن المتزاوجون والمتزاورون والمتشاركون والمتجاورون طيلة هذه السنين وعلى أرض واحدة لا تتجاوز مساحتها الـ 750 كيلومتراً. وإذا كان مِخرَز السياسة هو غار الشيطان علينا فألا لعنة الله عليها. فَسِلْم الناس وأمنهم أبقى من أيّ شيء آخر. ولا أظنّ أن علاج خنصر الكَف يتطلب بتر اليد كلها من المرفق.
كل المساعي الذي يبذلها البعض عن قصد لإقامة سُور وحاجز نفسي يفصل المحرق عن المنامة كما فعل العراقيون في سور الأعظمية الذي فَصَلَها عن الكاظمية لن تنجح، وكل المساعي التي يتمتَّى البعض أن تتحقق بفصل الرفاع عن سترة كما فُصِلَت الدورة عن منطقة السيدية في العراق ستفشل، فالفصل الاجتماعي مُتعذر في هذا البلد، وعلى البحرينيين أن يعُوا ذلك جيداً؛ لأن الوعي بالأشياء معناه إدراك نصف المشكلة.
اليوم البحرينيون مُطالبون جميعاً أن يتثبَّتوا من أمر واحد أوحد، وهو أن التَّوادّ والتراحم الذي كانوا يقرأون عنه في كتب الأخلاق والحديث والتفاسير ويسمعونه من أفواه الخطباء والدعاة هو منجاتهم اليوم. يغفر الواحد منهم للآخر زَلَّته ونسيانه، ويضع الأخ لأخيه مَحْمَلاً للخير لسبعين مرّة دون أن يتأفَّف أو يَلُوم، وأن يستعيدوا حقيقة أنهم بَشَرٌ قبل أن يكون لديهم حَمِيَّة للدفاع عن أيّ شعار. وعلى كلّ بحريني أن يتذكر حِكمة الكاتب المسرحي الإغريقي سوفوكليس عندما قال من يتخلص من صديق مثله فهو مثل من يتخلص من حياته.
محمد عبد الله محمد
صحيفة الوسط البحرينية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى