صفحات ثقافيةطيب تيزيني

بين”الثقافة الإعلانية” والفكرية!

null
طيب تيزيني
حين جاء النظام العالمي الجديد- العولمي قبل ما يزيد على العِقدين، كان أطرف ما رافقه أمران اثنان هما “الخطاب العولمي” أولاً، والحروب التي فجّرها هذا النظام ثانياً. فما لم يحققه أحد هذين الأمرين، حققه الأمر الآخر، بحيث تأسست بينهما علاقة تضايفية وظيفية، فجاء ذلك تجسيداً لاستراتيجية الجزَرة والعصا. أما ما يهمنا هنا فهو “الجزرة”، التي تبرز، كما لاحظنا، بمثابة ذلك “الخطاب العولمي”، الذي يتأسس على وسائل ذهنية سلمية. ولما كانت السوق الكونية السِّلْعية، التي سماها أتالي (السوق المطلقة)، هي مبتدأ النظام العولمي إياه وجوهره ومنتهاه، فقد اتجهت الجهود لإنتاج نمط من “الثقافة” يغطّي هذه السوق بوسائل ذهنية سلعية، تفصح عن نفسها من حيث هي إيديولوجيا تستجيب لحاجات البشر ومصالحهم عبر قناة “الاستهلاك” المباشر.
وعلى ذلك النحو، غدا تعريف الإنسان مرتبطاً بالحركة التي تجمعه بما تبثه السوق من مُستهلكات، أي بما تتجه إليه به من سلع تحمل دلالة الاستهلاك. ومن ثم، يصبح الإنسان -بمقتضى ذلك- “الكائن المستهلِك”، لما تختاره السوق وتقدمه إليه عن طريق الرموز والإشارات الحسية، التي تكونها “المنظومة الإعلانية”. فهذه الأخيرة التي هي شرط وجودي وقيمي وجمالي للإفصاح عن السوق، تبرز بصفتها مُكرِّسة كل الحركة السوقية. وها هنا نضع يدنا على السمة الحاسمة في تعريف الإنسان، وهي الاستهلاك، فهو مُسْتهلِك ومستهلَك، في اللحظة ذاتها. وإذا طبقنا ذلك على المرأة والرجل بكيفية مكثفة، اتضح أن الأولى تكتسب تعريفاً يلتقي فيه الجنسي بالاقتصادي والقيمي…إلخ، وذلك حيث نقول: إنها هي نفسها مُسوِّقة ومسوَّقة، في حين يُفصح الرجل عن نفسه -مقابل ذلك- من حيث هو المعني بضبط هذه العملية، دون أن يكون هو نفسه بعيداً عنه. ونلاحظ نحن هذا الموقف بصورة مفعمة بالحساسية من خلال المحطات التلفازية، خصوصاً ذات الطابع “الترفيهي”، التي تتوجه بتركيز إلى المجموعات المنتمية إلى الفئات الوسطى والطبقات الدنيا الفقيرة والمُفقرة.
بتلك المعاني والآليات التي تستخدمها، نواجه أمامنا تحولاً هائلاً على صعيد الثقافة، يتحدد بتحوُّل “العملية الإعلانية” إلى”الثقافة الجديدة”. أما هذه الأخيرة فتتحدَّد باسمها، الذي هو “الثقافة الإعلانية”. وقد عبّر بعض السياسيين والاقتصاديين عن دور هذه الأخيرة، منهم رئيس الوزراء الإيطالي العولمي برلسكوني. فهذا يرى أن الثقافة الإعلانية تسير باتجاه ملء مكان “الثقافة الفكرية- الأدبية” بنمط آخر من “الثقافة”، هو “الإعلانية”. جاء ذلك في كتاب مهم أصدرته “مجموعة ماركوز الثقافية” في فرنسا قبل حين، تحت عنوان “من البؤس الإنساني في الوسط الإعلاني”.
ويمكن النظر إلى المكتب الذي افتتحته “شركة الإعلان والعلاقات العامة”، “ميماك أوتملفي” في دمشق قبل أسبوع تقريباً، على أنه يندرج تحت هذا النشاط “الإعلاني العولمي”. فهي تقدم الإعلانات التجارية وتعرضها كنتاج إبداعي- ثقافي، يداً بيد مع الإنتاج الفني الجمالي. وهذا يتوافق مع الدعوة إلى مرحلة “ما بعد الثقافة”، قياساً على “ما بعد الإنسان”…إلخ إنها عملية تجتاح الجميع.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى