صفحات العالم

أميركا الحائرة بين ليبيا والسعودية

سمير كرم
ثمة عادة فكرية سادت على صعيد عالمي ـ وشملت الوطن العربي ضمنا ـ من منتصف القرن العشرين.
تذهب هذه العادة الفكرية بطريقة تلقائية وسريعة الى القول إن اي تغيير كبير مفاجئ يحدث في العالم لا بد ان يكون من فعل الولايات المتحدة.. ان ادعت الولايات المتحدة ذلك او لم تدع.
عندما وقع انقلاب رئيس الوزراء الايراني محمد مصدق، الذي عزل شاه ايران عام 1952 وامم نفط ايران بأكمله، ظهر زعم تلقائي بأن اميركا وراء هذا الانقلاب، وأن الامر ان لم يكن واضحا في بداياته فمن المؤكد ان يتضح مع الوقت. لكن الوقت لم يلبث ان اثبت عكس ذلك، عندما دبرت المخابرات الاميركية انقلابها الخاص الذي اعاد شاه ايران الى عرشه، وأعاد النفوذ الاميركي الى ايران.
وعندما وقعت ثورة تموز / يوليو 1952 في مصر بادئة بحركة الجيش انبرى اصحاب هذه العادة الفكرية الى الزعم بأن هذا انقلاب اميركي … الى ان اثبتت الاحداث والتطورات التالية عكس ذلك. وبالمثل حدث مع ثورة العراق بقيادة عبد الكريم قاسم في تموز / يوليو 1958 وبعدها بعام في انتصار ثورة كوبا المسلحة بقيادة فيديل كاسترو في كانون الثاني / يناير 1959 وفي انقلاب اليونان الذي اطاح بالملكية …حتى عندما اغتيل الرئيس المصري انور السادات في تشرين الاول / اكتوبر 1981 نسب الحدث الى فعل اميركي لأن السادات كان قد عاد لتوه من زيارة لأميركا…
وأخيرا فإن ثورة الوطن العربي الشاملة، التي بدأت بتونس واكتسبت طابعا اوسع واكثر تأثيرا بثورة مصر التاريخية، لم تسلم من هذا التفسير الاميركي، على الرغم من ان الولايات المتحدة بدت متخبطة لا تعرف كيف تستجيب لهذه الثورة وأخذت تغير رد فعلها من يوم لآخر، لم تسلم من التفسير القائل بأن الولايات المتحدة وراءها وأن ثورة الوطن العربي لا تعدو ان تكون جزءا من مخطط اميركي كبير… وربما لا تكون الا جزءا من مخطط الشرق الاوسط الجديد. وهذه المرة فإن العادة الفكرية نفسها وجدت من يؤيدها من القادة العرب الذين تفجرت الثورة ضدهم. اذا بالرئيس اليمني علي عبد الله صالح يبرر ثورة الجماهير العربية بأنها بفعل غرفة عمليات في تل ابيب تدار في الحقيقة من واشنطن.
فلأن اسرائيل شريك وثيق لأميركا بحكم التحالف الطويل الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي بينهما، فإنها لا بد ان تكون شريكا في هذا المخطط الاميركي الضخم.
وبطبيعة الحال فإن تقدم حاملات الطائرات الاميركية نحو شواطئ ليبيا استجابة لأحداثها وما يبدو من استعداد اميركي يرافقه استعداد من حلف شمال الاطلسي للتدخل، فإن العادة الفكرية التي تأخذ طابع نظرية طويلة الأجل منذ منتصف القرن الماضي تجد ما يؤيدها ويدعم زعمها بأن اميركا تقف وراء الاحداث الثورية العربية من بداياتها، وبالتالي فإن اميركا تسوقها نحو نهايات حددتها من قبل. ولكن الحقيقة الواضحة وراء كل هذا تبين ان اميركا مرتبكة الى اقصى حدود الارتباك. وصحيح ان التدخل في ليبيا يمكن ان يشكل اولوية اميركية بالنظر الى اهمية النفط، وبصفة خاصة النفط الليبي وخصائصه العالية، الا ان التدخل في الصراع الدائر الآن في ليبيا لا يشكل اولوية اولى على جدول اولويات الولايات المتحدة في هذا الوقت الحرج.
ان التدخل عسكريا في ليبيا يخلق لأميركا التزاما يعرقل احتمالات اخرى تبدو من وجهة النظر الاميركية ـ من حيث الاولويات ـ اكثر مدعاة لللاستعداد للتدخل.
إن الاولوية الاولى الاميركية في الوقت الحاضر تتعلق اساسا بالمملكة العربية السعودية اكثر مما تتعلق بأي بلد عربي او شرق اوسطي آخر. واذا وجدت اميركا نفسها مضطرة الى التدخل في ليبيا ـ نظرا للاعتبارات النفطية الخاصة ـ فإن ذلك سيكون عاملا معرقلا لتدخل اميركي في السعودية اذا اثبتت الاحداث التالية في تطورات الثورة العربية ان السعودية ليست بعيدة عن لهيب الثورة العربية الذي اندلعت شرارته الاولى في تونس ولم يلبث ان اكتسب طابعا اشمل بالتفجر في مصر، ولم يلبث ان امتد الى ليبيا.
يزيد من ارتباك الولايات المتحدة ـ واسرائيل وراءها ـ انها ظلت تركز طوال السنوات الاخيرة على إيران وظلت تلوح طويلاً بإمكان توجيه ضربة عسكرية الى ايران او مساعدة اسرائيل على توجيه مثل هذه الضربة الى ايران، ولم تلبث ان ادركت ان الامر ليس بالبساطة التي تصورتها. وأخيرا فاجأتها الثورة العربية الممتدة والآخذة في الانتشار والغليان، الامر الذي زادها ارتباكا وأكد انها كانت تعمل في ميدان بعيد عن الميدان الحقيقي للأحداث.
وليس خافيا ان الاعلام الاميركي ـ اكثر من اي اعلام غربي آخر ـ يبدي اهتماما باحتمالات امتداد الثورة الى السعودية. بل امتد الاهتمام من الاعلام الاميركي الى اهم مصانع الافكار ومراكز الدراسات الاميركية التي توجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وقد كتب ريتشل برونسون، نائب رئيس البرنامج والدراسات في مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية، مقالا مطولا بعنوان: «الانتفاضة التالية، هل تكون من نصيب السعودية؟». وقال فيه «يبدو مفهوم الثورة غير وارد في المملكة العربية السعودية، بيد ان هناك صفحة على الفيس بوك تدعو الى يوم الغضب في 20 اذار / مارس الحالي. كما تطالب شخصيات سعودية بارزة بإصلاحات سياسية واجتماعية، وأعلن العاهل عبد الله، المسن، عن مساعدات اقتصادية جديدة للسكان ربما استباقاً لأي اضطراب».
ويتساءل برونسون «هل يمكن بالفعل قلقلة النظام السعودي الذي لا يمكن زحزحته ويمثل محور المصالح الأمنية الأميركية في المنطقة؟» ويجيب على تساؤله قائلا «لا شك ان الثورات معدية في الشرق الاوسط. ولا ينطبق ذلك على الاسابيع القليلة الماضية فحسب. ففي الخمسينيات عندما اعتلى جمال عبد الناصر سدة الحكم في مصر اندلعت الاحتجاجات الوطنية في انحاء المنطقة، لتهدد الحكام في الاردن والسعودية ثم في نهاية المطاف في ليبيا وغيرها… وقد ترددت انباء عن غضب القادة السعوديين من مساندة ادارة (الرئيس الاميركي) اوباما في نهاية المطاف تغيير النظام في مصر، لأن ذلك قد يشكل سابقة يحتذى بها. وقبل ان يغادر الرئيس المصري حسني مبارك منصبه عرض السعوديون تعويض نظامه المتداعي مقابل اي سحب للمعونة الاميركية الاقتصادية وذلك بهدف تقويض نفوذ واشنطن في مصر وتقليل تأثيرها».
وبعد ان يشرح روبنسون العوامل الايجابية التي تجعل النظام السعودي يبدو اكثر امانا ـ وفي مقدمها الوضع الاقتصادي الناتج عن ارتفاع اسعار النفط والنشاط الرسمي في المملكة ضد المعارضة ـ يقول «دائما ما يكون ولاء الاجهزة الامنية مؤشرا مهما الى استقرار النظام. ولدى السعوديين هنا ايضا مبرر للثقة، حيث يسيطر كبار اعضاء العائلة الملكية وأبناؤهم على جميع قوات الامن والجيش والحرس الوطني وهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن ثم فإنهم سيبقون او يسقطون معا ولا يمكن ان يكون هناك معادل لسيطرة الجيش المصري كمؤسسة مستقلة ذات مصداقية». ويستطرد الكاتب الاميركي ليؤكد انه «في السعودية تحتكر الحكومة العنف. ولا شك ان السعوديين ليست امامهم فرصة للعنف. وقد تم القبض على من يحاولون انشاء حزب سياسي جديد يدعو للمزيد من الديموقراطية وحماية حقوق الانسان».
بعد ذلك ياتي روبنسون الى الجانب الاميركي من مشكلة السعودية واحتمالات الثورة فيها فيقول «إن لدى الولايات المتحدة الكثير مما تقلق بشأنه في السعودية، على الرغم من ان الاميركيين ينظرون الى السعوديين غالبا بازدراء …وعلى الرغم من ان بترول السعوديين لا يعتبر بديلا مباشرا للخام الليبي الحلو، عرضوا زيادة معروضهم لتعويض اي نقص في الانتاج الليبي بسبب العنف هناك. ونحن نعمل معهم عن قرب في عمليات مكافحة الارهاب … ونحن لا نتفق في قضية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، غير اننا لا ندع ذلك يعرقل مصالح مهمة اخرى. ولا تريد واشنطن ان تسقط الملكية السعودية. وقد ترغب ادارة اوباما في ان يحدث تغيير بمرور الوقت، كما ستشجع تحقيق نظام افضل للحكم يشتمل على المزيد من التمثيل السياسي والسياسات والقوانين الليبرالية، غير ان الديموقراطية لن تساعد بالضرورة اولئك الذين نأمل ان يفوزوا».
يمكننا ـ بموضوعية ومن دون تحيز – ان نعتبر هذا التحليل مناسبا للظرف الحالي في السعودية كما تراه الادارة الاميركية. انما يبدو بوضوح ان الكاتب الاميركي لم يسمح لنفسه بأن ينظر الى الموقف الاميركي تجاه احتمالات الثورة السعودية في ضوء احتمال تدخل اميركي عسكري في ليبيا.
وسؤالنا هو اذا كان بإمكان الولايات المتحدة ان تتدخل اليوم عسكريا في ليبيا وان تفعل الشيء نفسه في السعودية اذا وجدت ان نيران الثورة قد لحقت بها بعد اسابيع، او بعد اشهر.
والامر المؤكد ان كل الحالات في الشرق الاوسط تهون بالنسبة للولايات المتحدة بالمقارنة مع السعودية. لكن الامر المؤكد ايضا ان الولايات المتحدة في ضوء توزع قواتها في الظروف الحالية لا تستطيع ان تلبي حاجة الى التدخل في السعودية اذا كانت قد تدخلت بالفعل في ليبيا. وعلى حد تعبير جيريمي وارنر، مساعد رئيس تحرير «ديلي تلغراف» البريطانية، فإنه «اذا سقطت السعودية ستحلق اسعار البترول الى مستويات هائلة وربما تبقى كذلك لفترة طويلة. هذا هو السيناريو المتشائم، وهو يبدو اليوم اكثر احتمالا… فاذا تاثرت السعودية بالعدوى وعجزت عن تعويض نقص الانتاج الليبي عبر زيادة الانتاج فربما يكون علينا ان نقول وداعاً للتعافي الاقتصادي العالمي».
ازاء هذا الوضع المعقد الذي لا يحمل اية انباء طيبة من غرب المنطقة العربية او من جنوبها فإن الولايات المتحدة قد تفضل «حرباً أهلية» طويلة في ليبيا، ايا كانت عواقبها على انتاج البترول الليبي، على وصول عدوى الثورة العربية الى السعودية. ذلك ان عواقب فقدان السعودية افدح بكثير من عواقب فقدان ليبيا. وعلى هذا الاساس ـ ونظراً لأن الولايات المتحدة لا تملك الاتجاه نحو هذا الخيار او ذاك ـ فإنها تبقى رهينة التمني بأن لا تصل ألسنة اللهب الى السعودية حتى لو حاصرتها النيران من كل جانب. وهذا وحده ما يفسر النبأ المهم الذي طيره المراسل البريطاني الاشهر في الشرق الاوسط روبرت فيسك الذي تحدث عن «خطة اميركية لتسليح ثوار ليبيا عبر السعودية … وإرسال قذائف هاون وصواريخ الى بنغازي مقابل غض الطرف الاميركي عن اي إدانة وأي عنف تقوم به المملكة ضد الانتفاضة الشيعية».
هل تستطيع الولايات المتحدة ان تمنع وقوع هذا الاحتمال ـ حتى لو قررت ان لا تتدخل في ليبيا او في غيرها ـ مبقية على الخيار السعودي مفتوحا لها؟ ان الظروف التي جعلت الثورة العربية تشتعل بادئة من تونس قد فاجأت الولايات المتحدة اكثر مما فاجأت النظم الحاكمة التي اطاحت بها هذه الثورة – او توشك ان تطيح بها ـ فالولايات المتحدة كانت طوال السنوات الاخيرة مشغولة اكثر من اي هم آخر بالهم الذي شكلته لها ايران. وتوقعت ان تأتي رياح التغيير في اتجاه ايران، فاذا بها تأتي باتجاه النظم الحاكمة العربية التي طالما اطمأنت الولايات المتحدة الى استقرارها وسيطرتها بأساليب الحكم الاستبدادية الفاسدة.
ولقد اصبح على الادارة الاميركية الآن واجب تبرير استمرار السياسات نفسها التي ادت الى الثورة في تونس ومصر، في حالات السعودية ودويلات الخليج، في مواجهة الرأي العام الاميركي الذي يشعر بأنه ليس بعيدا بأي حال عن تاثيرات ومؤثرات الثورة العربية. ولم يعد يرقبها كأحداث بعيدة تثير الفضول ولا شيء اكثر من ذلك.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى