صفحات ثقافية

عزف منفرد على البيانو لفواز حداد: حيل الإستخبارات تتغلب على حذاقة المثقف

null
جوزف باسيل
رواية فواز حداد، “عزف منفرد على البيانو” (315 صفحة، دار رياض الريس للنشر)، تدور حوادثها في رأس رجل استخبارات، حول شخصية، معالمها واضحة تصرفاً وسلوكاً وعملاً، لكنه لا يريد ان يقتنع، بما هو واضح. ثمة حادثة بسيطة “ركب عليها رواية طويلة”، ملخصها ان خبيراً في شؤون الارهاب يتولى قضية موظف كبير تعرض للضرب على يد مجهول، فتحولت الحادثة على صغرها، قضية كبيرة استدعت ملاحقات طويلة انتجت رواية.
الخبير الذي لا يقبل المظاهر، ولا ما يسمع وما يرى مباشرة، لن يقبل محدودية الحادثة (تعرّض الاستاذ العلماني للضرب على درج بيته على يد شخص مجهول) بل يريدها (وربما هو دبّرها) ان تكون عملاً كبيراً يضرب به ضربته الاستخبارية، وإن جعل من “الحبة قبة”، حتى انه أوهم الاستاذ بأنه يشك فيه عميلاً مزدوجاً وأخذ يتلاعب بعواطفه و”اعصابه”.
في ذهن رجل الاستخبارات تدور الدراما والحيرة والعمليات والشكوك والاستلهامات، وإن حاول ان لا يضيع في “متاهة احبولة من تلفيقه هو لا من شطارة الآخر”.
الرواية إذ تهجس بأفكار استخبارية وتفصّل اسلوب رجل الاستخبارات، تعكس سخرية من تفكيره واسلوبه، اذ يحوّل الضحية متهماً، مرتكزا على نموذج في ذهنه يفترض الشك في كل امرئ. لكنه في مرحلة لاحقة يستفيد من الرجل المثقف. يجعله “طعماً” للإيقاع برجل من قادة الحركات الاسلامية كان زميلا له في الدراسة. هكذا يستخدم رجل الامن الرجل المثقف ليخدم مخططاته وهو غافل عن الامر، فيوهمه انه هدف للاسلاميين كونه علمانيا وسيتعرض للاغتيال على يد هؤلاء وانه سيؤمن له الحماية، فيما يجعله طعما كي يقتل المسؤول الاسلامي.
يحاول المؤلف ان ينقض مقولة المؤامرة التي تسيطر على الذهن العربي، والتي تتخذها الانظمة ذريعة لقمع الشعب، لكنه يبقي الباب اليها موارباً، اذ يقول: “ان التاريخ لا تسيّره المؤامرات، لكنه حافل بها، ولو كانت لا تصنع تاريخاً ولا مستقبلاً”، لكنها قادرة على الارباك و”الخربطة” وإحداث الاضطرابات.
حوادث الرواية ليست تخيلا، بل تعبّر عن واقع جرى فعلياً في مرحلة من الزمن في دولة عربية، قد تكون سوريا، بين النظام فيها والجماعات الاسلامية التي كانت تناوئه. طبعاً انه الصراع على السلطة وليس على الدين، وإن تزيا بالزي المذهبي، وهو جزء من الصراع بين مدّعي العلمانية والقومية، ومدّعي الاسلام. والصراعات كهذه لا تنتهي عادة الا بغلبة طرف على آخر.
يبرز المؤلف ان هذا الصراع هو العمود الفقري للرواية، وركيزته ان الدولة تريد ان يبقى الدين منفصلا عن السياسة – وهذا ما يفترض – فيما الطرف الآخر يريد ان يخلط بينهما فيقع في الخلط والخطل. في المحصلة، ان من يدعو الى سلطة مطلقة لله، فإنما يريد ان يجيّرها لنفسه وجماعته. اما نحن مع المؤلف فاننا “نريد الا يدفعنا (الله) الى التقاتل”، فلا نتقاتل من اجله، وهو حتما لا يريدنا ان نتقاتل من اجله.
على هامش الصراع الاساسي يدور صراع آخر ثانوي بين المثقف ورجل الأمن، اذ يحاول كل منهما ان يثبت ثباته على مواقفه واعماله وان يؤكد له انه يمثل الدولة. الاول، بفكره العلماني الذي يتطلبه نظام يدّعي القومية، والثاني، بسلاحه بصفته يمثل الناحية الأكثر اهمية في هذه الدولة وهي الأمن. وعلى هذا المنوال يتحرك النزاع بين الرجلين.
يبدأ التشويق بالصفحة الأولى ويستمر حتى الصفحات الاخيرة، ولا عجب فقصص الإستخبارات هي دائما الأكثر تشويقاً.
يأخذ على الاجهزة الامنية العمل بـ”الحدس” الذي كثيراً ما يخطئ وقليلاً ما يصيب، لكنه هو من كان مخطئاً وهي لا تعمل بالحدس انما بالتخطيط. اما اسلوب عملها المباشر فهو نفسه، ويعرض نموذجاً عنه اذا خطفت يوماً كيف تخمّن من خطفك؟ اليك الجواب: “الرجلان حسب هيئتهما لم يكونا من الاصوليين، لا لحى ولا خناجر ولا مسدسات ولا قنابل كما انهما حسبما لاحظ لم يسميا بالرحمن ولم يتوكلا على الله عندما انطلقت بهم السيارة. لو كانا من رجال الإستخبارات لأعلنا صفتهما حسب الأوامر الجديدة، أو لصفعه الاول ورفسه الثاني، حسب التقليد القديم (حتى في سوريا تطور اسلوب الإستخبارات) لكنهما أبديا لامبالاة طبيعية ولم يجريا اي تمويه على العملية او يضرباه على ام رأسه ليغمى عليه او على الاقل لم تعصب عيناه”.
لقد أربكه الأسلوب، فكيف جرت الامور؟
“لم يحتج على طريقة استدعائه المستهجنة. خمّن ان هذا الاسلوب كان مقصودا، ليشعره السيد الخبير بأنه ليس كما بدا له في الامس مكسور الفؤاد، وانما شخص آخر قوي الشكيمة لديه من السلطة ما يمكّنه من جلبه اليه ساعة يشاء. والى اي مكان ولو كان الى مطعم ليس مدعوا الى الغداء، وانما الى كأس شاي فقط. الحركة التالية اخذ الخبير من دون لباقة ولا ذوق، ينكش اسنانه بعود خشبي صغير ويتف بقايا الطعام بوقاحة لا مبرر لها سوى افهامه بأنه يمثل جهة مباحاً لها تجاوز آداب المائدة والاستخفاف بالناس”.
بطل الرواية يمثل شخصية المثقف الذي يتمتع بقوة في التفكير والتعبير تخاله ابا زيد المهلهل، اما نفسه فضعيفة تخال الناس اشباحاً. مشكلته اجتماعية فهو قلما يختلط بالجيران مما يجعله يبدو متعجرفاً، والمجتمع يهتم بالمظاهر، وهمّ المثقف يرتكز على أن الوجاهة الثقافية تبهت مع الزمن، والقيم الاخلاقية نقيصة في عالم لا يهتم الا بالمادة. تستخدم السلطة النقص المادي والحالة النفسية للتأثير على المثقف، بأسلوب الحيلة، اما هو فيتصرف بحرية محدودة ومنضبطة. هكذا “لم يمنح ولاءه للسلطة ولم يصطدم بها. فلم يحاولوا شراءه لاعتقادهم انه سيحرجهم بآرائه الجريئة ففضلوا رشوته بمنصب وتجاهله ما دام لا يضايقهم وإن كان يزعج المجتمع احياناً بتطاوله على تقاليده ومعتقداته”.
يعرض بعمق اسلوب تفكير الإستخبارات وعملها. عبارة بعد عبارة يبني عالما متكاملا، ولا عجب في ذلك. فالأنظمة كلها عمودها الفقري هو الإستخبارات، فكيف اذا كانت عربية؟ ويكشف كيف يتغير الموقف في التحقيق ومنه، وضرورته واسلوبه، بحسب تغيير مفهوم رجال الإستخبارات لـ”اهمية” الذين يحققون معه او من اجله. هكذا فتراتبية اهتمام الاستخبارات “معلومة” يحيلها التكرار ظاهرة مقلقة.
يحاول كل من المثقف ورجل الإستخبارات التذاكي احدهما على الآخر، فتكون الغلبة على المثقف الذي يتصور انه يمسك بخيوط اللعبة، فيما هو في الحقيقة في قلب النزاع يتخبط في اوهامه “مهما يطرأ على السيناريو من تعديل وتحديث، فالغاية الاساسية هي تخريب الاتفاق بين الدولة والاسلاميين، باغتيالك”. ثم تبين ان مفاوضات الاتفاق اهدافها امنية.
موقف الدولة من المفكرين يظهر متناقضا، فمن جهة تلتقي معهم على محاربة المتشددين لمصلحتها، ومن جهة لا تريد ان تحميهم من حرب المتشددين عليهم. ويلتقي المثقف بالدولة كربّ عمل وككل رب عمل، من طريقين، إما يعمل عندها فيدافع عنها و”يضرب بسيفها”، وإما لا يعمل عندها فتحوطه وترعاه، ترغيباً او ترهيباً، او تقنعه بأن الاصولية خطر عليه يجب محاربتها… واخيراً اذا لم يدجَّن وشكّل خطراً، تضربه بسيفها. فسيّان العلماني أو الأصولي.
يراوح اسلوب الرواية بين الحوار والمونولوغ الداخلي الذي يوحي لك انه ملف “سري جدا” يتفاعل في ذهن رجل الاستخبارات مستقراً وضمنياً وليس معلناً، ولا يوفر من النقد حتى الجمعيات والصحافة ومراكز الابحاث.
ثمة نقد متسلسل ومبرمج وهادئ للعادات الاجتماعية والعلاقات على طريقة البحث الاكاديمي، ينتهي كل فصل الى سؤال او عبارة يفتح بها الفصل التالي، ليشرح ويوضح ويفصل ويربط بما ورد سابقاً.
والافكار تولّد افكاراً تدور عجلتها على حياة الافراد. وفي محاولته سبر نفسيات الشخصيات يذهب بعيداً، وخصوصاً في العلاقات النسائية التي يبلغ فيها شأواً فضائحياً متطرفاً اذ يقول: “لا شيء يعوق النساء عندما يردن، عن اتيان الفاحشة يسوّغنها لأنفسهن بأي مبرر ولو كان واهياً. عندما يرغبن في رجل لا يثنيهن عنه رادع ولا يتورعن عن ارتكاب المعاصي، يحسمن امرهن بلمح البصر”.
صار المثقف نقطة تقاطع بين الدولة والجماعة، تحاصره الاولى وتطلبه – يصبح مطلوباً – الثانية، لكنه هو، وانت ايها القارئ، تشككان: هل المصادفات هي حوادث تحصل عفو الخاطر، ام انها ذات دلالات تهدف الى مبتغى ما؟
وإن بدا رجل الإستخبارات ساذجاً في نظر المثقف، فإن الوقائع اثبتت انه اكثر حيلة وذكاء بدليل انه استخدم المثقف بيدقاً في خططه الأمنية، فكانت الغلبة لـ”المعلومات” وليس للأفكار.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى