صفحات سورية

مـــا لا يجـــب أن نـــراه

null
عباس بيضون

يدعم العرب، قادتهم وربما شعوبهم، الرئيس السوداني ضد طلب المدعي العام في المحكمة الدولية توقيفه بجناية الاشتراك في جرائم دارفور العرقية. اما ان الحكام يدعمون الرئيس ضد المحكمة الدولية فهم يدعمون بذلك أنفسهم، فإن تكون للعدالة دولية او غير دولية، يد على السلطة وفوق السلطة فهذا ما يظنونه جميعاً نفياً للحكم والسلطان. المفارقة هي في مواقف الشعوب. هذه لا ترى في ما حدث سوى اعتداء من الاجنبي الدولي على ابن عمنا العربي الماثل سيداً مطلقاً للسودان بعد ان نصب نفسه في انقلاب عسكري ونصبه شريكه الترابي يومذاك أميراً على المسلمين، وليست المرة الاولى ولا الحاكم الاول الذي ينصبه الترابي خليفة. ليست المرة الاولى ولا الحاكم الاول الذي يفسد الود بينهما فيجد نفسه في السجن. انها قصة ككل قصة في دنيانا وليس فيها ما يثير العجب، التتمة نفسها مألوفة ولو كانت بسعة مليون قتيل وأكثرهما ضحايا مجازر باشرها الجنجويد وهم بداة عرب مسلحون من الدولة ويشكلون ولا زالوا فرق موت تابعة لها. أما الضحايا فهم مزارعون عزل لا يمتون بصلة رحم للدولة العربية ولا يحملون سلاحها. انها حرب بين المزارعين والرعاة عمرها عمر التاريخ. الرعاة البداة يفلتون ماشيتهم على حقول المزارعين ويحمونها ببنادقهم، لكن الأمر لم يبق هنا. فالغزاة عرب والفلاحون من غير العرق وغير الدم. الدولة عربية والغزاة ابناء عم الدولة وبينهم وبينها الدم نفسه. الرعاة مسلمون وناطقون بعربية سمحاء كما تكلموا على التلفزيون، لكن هذا لا يكفي، فالجنجويد اشاوس والجنجويد عتاة والجنجويد ميليشيا الدولة فلا عجب ان تدخل الدولة بين المزارعين والرعاة. ولا عجب أن يغزو الرعاة بسلاح الدولة. إنها رابطة خؤولة او عمومة بين الدولة وبينهم، دمهم من دم الدولة وعرقهم من عرق الدولة ومن يقول ان ليس للدول عرق ولا دم؟ من يقول ان الدولة في بلد فيه العرب وغير العرب وفيه المسلمون وغير المسلمين يمكن ان تكون غير عربية وغير مسلمة؟ ومن تسول له نفسه ان يخون صلة الدم في سبيل مليون قتيل هم الشعب السوداني بعربه وغير عربه ومسلميه وغير مسلميه؟ الدولة الأم والدولة الأب هي غير الدولة الحكم وغير الدولة القانون وغير الدولة الحق. انها دولة الأصل. والأصل قائم بنفسه كامل بنفسه. دخلت الدولة بين الحضر والبدو ودخل وزراؤها في المجزرة واشرفت على شعبها بتشرد في المعسكرات والبراري وفتحت حدودها للبدو الآتين من الجوار ينصرون عربهم ودولة عربهم. ليس علينا مع ذلك أن نترك الأجنبي الدولي يفصل في مسائل لها حرمة الدم، وليس علينا ان نتركه يدخل في وشائج لا تقوم الا بالرحم. أغرق الدم دارفور وهذا بالطبع مؤسف، لكن المسألة ليست هنا. لم تكن أبداً هنا فحين كان اكثر من مليون عراقي يقتلون في مذبحة اهلية، وحين كانوا يقتلون الشيعة بدلاً عن الاميركيين لم نر سوى الاميركان الاجانب ولم نسمع الا بآلاف القتلى الاميركان مقابل ملايين العراقيين، وبرغم كل الوقائع حيينا المقاومة التي ذبحت الشيعة على الاسم والمقاومة التي ذبحت السّنة على الاسم. برغم كل الوقائع التي تصرخ يومياً رتبنا الوضع على ما نحب، فسطاط المقاومة وفسطاط الاميركيين. اما الملايين العراقية التي قتلت خارج اي من هذين فلم نجد لها مكاناً ولم نأبه فهذا ذنب الوقائع وهذا ذنب الترتيب نفسه الذي لا يجري على غرار مشروع. سيكون الاميركان في فسطاط والمقاومة في فسطاط مهما كانت الأمور وعلى أي وجه جرت. سننتظر الى ان نجد مكاناً للنسبة المعلومة من الشعب العراقي التي بادت خارج التصنيف وخارج الترتيب. اما الذي لا محل له على الإطلاق، فهو ان يوجد حكم عراقي طامح رغم الانقسام الأهلي والتشابكات الاقليمية وبوجود الاميركيين وبدون جهاد ولا مقاومة إلى ترتيب البيت العراقي وإيجاد هياكل للدولة. قادر رغم الانتماء المذهبي والتشابك الطائفي على ان يضرب ميليشيا الشيعة وميليشيا السّنة وعلى ان ينجز، في وجود الاميركيين، قسطا من توفير الأمن. امر كهذا لا يصدق ولا ينبغي تصديقه ومن يصدقه لا بد كافر أو مشبوه. كانت التجربة العراقية بالتأكيد مستنقع الاميركيين وبالتأكيد، لكن الذي لم نرد ان نراه فهو انها كانت اكثر من ذلك مستنقع المقاومة. لم ينجح الاميركان لكن الذي ساعد اكثر هو ان المقاومة لم تنجح، هذا ما لا ينبغي تصديقه ايضا لهذا لا يريد احد ان يرى التجربة العراقية لا يريدها احد ان تنجح، فنجاحها لا يقلب الترتيب فحسب، بل يفسح لصيغة اخرى هي غير صيغة الفسطاطين ولمعادلة اكثر تركيباً، لكنها معادلة تتسع للمليون قتيل عراقي الذين لا نعرف تحت اي اسم دفنوا ولا نعرف اين نضعهم في الترتيب الجهادي. ما لا نريد تصديقه ايضا هو ان يرفض المالكي، وهو غير مجاهد ولا مقاوم، المعاهدة الاميركية العراقية في وجود الاميركيين ايضا. انها عناوين جديدة ولن نصدقها او نراها، فهي تقلق ايديولوجيا الدم وانظمة وتنظيمات القرابة والعشيرة الجهادية.
لا نصدق ولا نرى ونرتاب في من يصدق او يرى، نريد فقط ان نزاعات لا حل لها. بئراً اهلية لا ينضب ماؤها. ثمنا من الدم لكل شيء. انهيارات لا قاع لها. تفتت وتفكك لا يتوقفان. نريد أن نرى فقط حرباً خالدة ومؤامرات مثابرة، وعداء بلا هدنة، وملحمة دائمة، اما ما علينا ان لا نراه فهو ان يخرج من مخاض النزاعات والحروب الأهلية شيء آخر. ان تتوقف الانهيارات وان يصل التفتت والتفكك الى ختام. ان ينفصل أشخاص عن دمهم وجسدهم الإتني والمذهبي ويقيموا نوعاً من العدل او نوعا من السلطة لا أم له ولا أب ولا خال ولا عم ولا مذهب او عرق. ما علينا ان لا نراه هو ان يخرج قادة من غير خانة الجهاد والقتال وان يكون للسياسة صعيدها وللممارسة عقلها وللدولة صعيدها، ما علينا أن لا نراه او نصدقه هو ان يكون للوطنية جواز سلمي وان نعارض ونجابه بالسياسة والرأي، ما ينبغي ان لا نراه وان لا نصدقه هو ان يبنى شيء على غير الجماجم والضحايا. لا تهمنا التجربة العراقية لأنها تشير الى امكانية نجاح في الواقع لا في التغلب على الواقع واستتباعه.
لا نصدق ولا نرى ولا يهمنا ان نلاحظ ان مفهومنا عن الدولة متخلف عن أسوأ طغيان. مفهومنا عن العدالة هو اللامساواة. مفهومنا عن الحق ينافي العقل والتدبير والسياسة، مفهومنا عن الحرية وعن الاستقلال وعن التغيير ليس سوى الحرب الاهلية او ذلك الحبل الدموي الذي يصلنا بالطوطم المزعوم.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى