صفحات ثقافية

القتلى يُسمّوننا

عباس بيضون
نرى صور الشهداء. شبان في عمر الربيع يسطعون مرة واحدة على الشاشة ويختفون، لا تهمنا أسماؤهم، نقرأها وننساها، لا تهمنا ملامحهم، نراها مرة وتختفي. انهم هكذا الآن غفل. إن لهم وجهاً واحداً كبيراً، وجهاً واحداً صامداً كالصخر، لكنه وجه لا نراه. انه خلفنا يحرسنا، انه أمامنا يدلنا لكننا لا نراه تماماً. انه هنا يباركنا، ليعطينا الحق في أن نعاود السير. ليعطينا نحن اسماً وهوية. ليخرجنا نحن من الغفلية والنسيان، ليمنحنا الإذن بأن نوجد، لنوجد باسمه ولنكون صوته ما دام غير مسموع. لنكون عينيه ما دام لا يرى بعد، لنكون يده ورجليه ولنسير بإذنه ونسير بإرادته. نحن حتى لا نعرف أي اسم جامع نعطيه. اسم «الشهيد» يعيدنا مسافات إلى الخلف. نجده في كتاب لم يعد تماماً قاموسنا، يأتينا من منطقة لم تعد تماماً حقلنا. اسم القتيل لا يكفي، لنسمهم اخوة. لكن الاسم يأتي من مدوّنة تأخرت سنوات عنا. لنسمهم رفاقاً وأصدقاء لكن الاسم لم يعد تماماً في التداول. لنقل انهم مواطنونا لكن هذا الاسم فقد تاريخه أو بالأحرى وجدناه في تاريخ لم يتكرر. لنسمهم ذخيرتنا وكنزنا. لنسمهم ما شئنا لكنهم هم الذين يمنحون اليوم الأسماء. انهم الذي يسموننا. هم الذين يمنحون هذه البلاد اسماً آخر وولادة جديدة. هم الذين يسمون هذه بلاداً ويسموننا أهلها. هم الذين يسمون هذه لغة ويسموننا أصحابها. هم الذين يسمون هذه قضية ويسموننا حراسها، هم الذين يسمون هذا تاريخاً ويدعوننا إليه، هم الذين يسمون هذا مستقبلاً ويفتحونه لنا، هم الذين يسمون لنا اليوم والساعة والسنة واللحظة ويؤرخوننا بها. اننا نملك الآن جداراً يمنعنا من ان نعود إلى الخلف، نملك الآن جرساً يمنعنا من ان نركن إلى السبات، نملك الآن كنزاً وذخيرة، نملك ماضياً ولو كان بالأيام، نملك مأوى فلا نبيت تحت مطر العالم ورعده. طالما تشردنا، طالما متنا في الأزقة والمنعطفات. طالما ضعنا في البراري. طالما قُتلنا خطأ. طالما سُبينا خطأ. طالما جُلدنا وعُذّبنا بدون نتيجة. طالما دفعنا أثماناً لم ندر بها ولم توصل إلى شيء، طالما كانت آلامنا بلا سعر وتضحياتنا بلا نتيجة. جعنا وعطشنا وبكينا وصرخنا مجاناً وفي الفراغ والعدم. الآن لآلامنا سعر، لعذاباتنا نتيجة. لهمومنا ثمن. لمعاناتنا تاريخ، لحياتنا وموتنا عاقبة، كان لكل هذا ثمن مخيف. هذا الذي جوزينا به لم يكن رخيصاً. لكننا نعرف انه رسم خطاً ووجهة ومستقبلاً، انه ترك لنا أفقاً. ان المستقبل يبدأ من الآن.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى