المثنى الشيخ عطيةرحيل عمر أميرالايصفحات ثقافية

‘محمد الأحمد\الحفرة’: فيلم تسجيلي من العالم الآخر لعمر أميرالاي

المثنى الشيخ عطية
يأبى عمر أميرالاي أن يتركنا هكذا لحزننا عليه، يأبى إلا أن يعزّينا فيه، الصديق الأمير الساخر أطلق فيلمه التسجيلي الجديد الساخر من حيث لا نحتسب / العالم الآخر، استمراراً لسلسلة أفلامه التسجيلية حول شخصيات رأى أنها تعكس واقعاً لم يستطع رؤيته محمد الأحمد، المدير العام للمؤسسة العامة للسينما في سورية، وبطل فيلمه التسجيلي الجديد، موضوعنا: ‘محمد الأحمد / الحفرة’ الذي أضاء بعض جوانبه مقال المخرج السوري الصديق أسامة محمد من خلال مقاله ‘التمثيل بأميرالاي’ تكاملاً مع فيلمه الشهير في تصوير عراء الجحيم/ نجوم النهار.
في فيلمه التسجيلي: ‘محمد الأحمد / الحفرة’.. يضع عمر أميرالاي، دون تكهن / ولا فرق ( كما يقول أسامة محمد) ‘بإلهام من البطل أم من نظامه: محمّد الأحمد، كاره السينمائيين، وملحِق الأذى بهم’ في كادر شاشة التلفزيون الرسمي ليحتفي بفقيد السينمائيين، أمير السينما التسجيلية عمر أميرالاي، الذي طالما حاربه بـ ‘وشايات أمنية سخرت منها الصحافة’، لينسج المخرج بهذا كعادته في تصوير المفارقات مفارقة مذهلة أخرى: الجلاد يحتفي بضحيته، ولا يخرج في جنازتها فحسب بل يلقي كلمة تأبينها، كي ينفذ المخرج من هذا الاحتفاء الساخر إلى مفارقته الأكبر التي لا نعرف إن كان يمكن لبطله تجاوز قصور رؤيته فيراها بما هو جزء من آليةٍ حرص عمر أميرالاي في أفلامه على أن تكون معبّرة وعاكسة لعالم يجري، وتبدو هنا في وقتها الذي تجري فيه: خطاب النظام السوري للمثقفين السوريين وللعالم في لحظة وقوف هذا النظام أمام شاشة الثورات الديمقراطية التي تتوالى بصورة دراماتيكية غير متوقعة أمامه في البلدان العربية.
كمخرج تسجيلي نظيف مهذّب متواضع ‘لا يريد من الدنيا شيئاً’ كما قال فاتح المدرّس مستغرباً هذا ‘الـ عمر’ لإحسان عنتابي، وصادقٍ إلى درجة صادمة لا تحابي شخصيةً أو نظاماً كما عرفه كل من تعامل بالشأن الوطني العام، وفنانٍ حقيقي رفع رأس بلده في المحافل السينمائية الدولية، بشهادات سينمائيي العالم عنه.. اكتسب عمر أميرالاي صفة النموذج المحترم، الذي يلهم المخرجين الشباب في الفن وأخلاقية الفن، وكان عليه كنموذج نظيف أن يعاني من حبّ المقتدين به، لكن بحسن حظ أن تساعده طبيعته الصادقة الواثقة وتواضعه النادر في الوقاية من السقوط في فخاخ هذا الحب فيبقى كما هو ‘الذي لا يريد من الدنيا شيئاً’، وأن يعاني لهذا من كره الذين يحرجهم هذا النموذج الجميل بما يعرّي من قبحٍ وبما يريهم عن أنفسهم، وبما يري العالم عنهم، فيحاولون تحطيمه بكل ما أوتوا من قوى أمنية وإعلامية، لكن، ويا للسخرية، فالذي ‘لا يريد من الدنيا شيئاً’ عصيّ في الحقيقة على التحطيم، ويدفع المغتاظين من ضحكات سخريته إلى فخاخه، فيسعون بسعارهم لتحطيم فيلمه عنهم، يضعون أنفسهم تماماً كما أراد لهم أن يتموضعوا، ضمن كادر شاشة التلفزيون الرسمي الذي يمنع أفلامه، ليعبّروا بنموذج البطل الذي اختاره عمر لتمثيلهم: محمد الأحمد، نفسه عدوّ السينما المعارضة التي يمثلها عمر، عن لحظة تاريخية مهمة تجري، وربما ليعكسوا كذلك إلى أين؟.. تماماً كما أراد عمر أميرالاي بسخريته المعهودة في صنع المفارقات.
البطل محمّد الأحمد، في هذا الفيلم يعمل ولا ندري إن كان يدرك ذلك ضمن آلية نظام تجبره تحت ضغط ‘العيب على بلدٍ’ لا يحتفي بمبدعيه أمام عالم يريد استغلال أي مناسبة للاحتفاء بهم، على إعداد مسرحية احتفاء يحاول استغلالها لتحطيم النماذج المعارضة لكل ما يمثّله نظامه من قهر واستبداد وتشويه للحقيقة وتحطيم للمعارضين وفساد، فيعرض وجهة نظره النقدية عنه، في لقاء تلفزيوني داخل كادر شاشة التلفزيون الرسمي التي تظهر فيها الحقيقة على غير حقيقتها في العادة، ويتوهم فيه أنه مسيطر على اللقاء دون أن نعرف إن كان يدرك أن الزمن مشى من عصر البروباغاندا النازية إلى عصر الفيس بوك، ودون أن نعرف إن كان يدرك لعبة المخرج البسيطة التي تصلح لجميع العصور: إنك لا تستطيع إخفاء الشمس بغربال الإعلام الرسمي المرقّع أصلاً.. لكن البطل يوغل بالوقوع في الحفرة التي أعدّها ولا ندري إن كان يعرف أنها معدّة له أصلاً، فيورد بتقريرية حاقدة حقائق لم ترها غير عينه اللاناقدة، عن عمر أميرالاي، تثير سخرية السينمائيين، لكنها تدفع مخرجاً سينمائياً مبدعاً آخر هو أسامة محمد إلى رفع الصرخة عالياً: ‘إنهم يمثلون بجثة عمر’، في مقاله المرعب في صحيفة ‘السفير’، لينتقل مستوى الفيلم، كما أراد المخرج الساخر من أضحوكة تحطيم النموذج، إلى نار قد تعيد إلى الأذهان نار عربة الخضار التي لا ندري ماذا ستنقل في جريانها اللاهب، وإلى أين؟
الفيلم، باحتفائية البطل محمد الأحمد، وبسخرية المخرج المعتادة في مفارقاته، يتدفق من خلال كلام البطل الذي يتناسى بسذاجة فيلمين إبداعيين لأميرالاي أصبح العالم يعرفهما رغم كل محاولات المنع هما ‘الحياة اليومية في قرية سورية’ و’ الدجاج’ ليعرض عمر أميرالاي: ‘مخرجاً يعاني من مشكلةٍ أساسية لم ينتبه إليها أحد من الذين قيّموا تجربته’ واكتشفتها طبعاً عبقرية البطل محمد الأحمد، هي ‘توهانه بين السياسي والمخرج التسجيلي’ ولماذا برأي البطل: ‘لانخراط عمر في أحداث ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968… لذلك كان سياسياً أكثر من كونه مخرجاً سينمائياً’، ومع فلتة تأكيد، أين منها يقينية البوطي: ‘هذه حقيقة وهذا كلام يجب أن يُقال’…
بربط ذلك في كلام البطل عن تجربة عمر أميرالاي التي يقول عنها: ‘مع بداية التسعينيات بدأت تضيق ولم تدخل أمداء واسعة، فقد اتجه إلى تصوير بورتريهات سينمائية أخذت شكل تقارير صحافية عن شخصيات… سعد الله ونوس وميشيل سورا وبي نظير بوتو’، مع إغفال شخصية رئيس الوزراء اللبناني المغتال رفيق الحريري.. ندخل تشويهاً مضحكاً آخر لا نعرف إن كان نابعاً عن قصور فهم البطل لهذه التجربة ولمعنى التقاط هذه الشخصيات بالذات حيث توظف الأنظمة الشمولية في العادة قاصرين، أم عن تقصّده ذلك من أجل تشويه النموذج، حيث نعرف أن عين أميرالاي هي من فئة عين الفن التي تلتقط اللحظة الزمنية الهاربة ضمن علاقاتها كي تثبتها في ذروة وصولها إلى ما لا ثبات بعدها، ويمكن للمشاهد تلمّس ما تمتلكه عين عمر من رؤيوية عند رؤية ما سار إليه مصير هذه الشخصيات، اغتيال بي نظير بوتو ورفيق الحريري وميشيل سورا، وما خلقه هذا المصير من تغيرات، ناهيك عن أن التقاط عمر لكل شخصية كان التقاط زمن ومرحلة تقف على حدود تغيراتها.
وبوصول البطل إلى فيلم ‘الطوفان’ الذي يقول عنه مكرراً أنه أضعف أفلام عمر، لأنه ‘كان منطلقاً من مشاعر شخصية ضيقة’.. تُرفع الأقلام وتجفّ الصحف، فالفيلم الذي يصور واقع سورية بحساسية مرعبة تستدعي إلى الذاكرة كما يشير محمد علي أتاسي في لقائه مع عمر حول هذا الفيلم عالم الأخ الكبير المرعب في ‘1984 ‘جورج أورويل، عبر تشريح آلية عمل السلطة داخل البنية المجتمعية بطابع نقدي حاد يعرّي ويبرز الوجه البشع اللاإنساني لخطابها.. ينطلق في رؤية البطل النقدية: ‘من مشاعر شخصية ضيقة’!!.. ومسرحة الواقع بالأسلوب الذي أشار إليه غودار بقوله ‘إن الأفلام التسجيلية الكبيرة تنزع نحو الروائي’ حيث ينتزع المخرج بقسوة مريعة القناع الوردي الذي تضعه السلطة على وجوه أطفال الطلائع ليصيبنا بالرعب من رؤية صفائح ممسوحة دون أعين بدل وجوه الأطفال.. ‘ينطلق من مشاعر شخصية ضيقة’!!.. ومرآة الرعب التي يضع عمر أميرالاي الناس أمامها ليروا ما وصل إليه حالهم بقصدية فنية تعتمد لغة بصرية متقشفة جداً كما قال عنها في اللقاء الصحافي لمحمد علي الأتاسي معه، أن الذي جنح به إلى ‘اعتمادها هو الواقع السوري نفسه في وضعه الراهن وصمته الثقيل’… ‘من أجل حث المشاهد على قراءة ما وراء الشفاه والحركة والصوت… حيث السوريون فاقدون، مع الأسف، ملكة النطق والتعبير الحرّ منذ صادرها منهم الناطقون باسمهم.. ويكفي أن يتابع المرء مقابلات التلفزيون السوري مع الناس العاديين، وغير العاديين، ليصعق حيال حجم الدمار الذي لحق بلسان الفرد وبتعبيره خاصة عند الشباب والاطفال’.. هي برؤية البطل: ‘مشاعر شخصية ضيقة’!!…
ومع وصولنا إلى فيلم البطل نفسه: محمد الأحمد / الحفرة، الذي يعتبر استكمالاً لأفلام الشخصيات التي قال عنها البطل ‘إنها بورتريهات سينمائية أشبه بتقارير صحافية’ سوف لن نعرف ماذا يقول البطل نفسه عن فيلمه، هل يعتبره مجرد بورتريه سينمائي أشبه بتقرير صحافي، أم يدرك أنه فيلم يعكس مرحلة بالغة الأهمية في خطاب النظام الذي اختار عكس ما يصدّر من ترّهات الشفافية والإصلاحات / الضربات القمعية الاستباقية، مستمراً في الإصرار على العمل بقانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية التي تسجن أنبل مثقفي البلد بقوانين قراقوشية، ولا يستحي من إطفاء حتى شموع يريد بها شباب سوري مشاركة إخوتهم العرب آلام مخاضهم في الخلاص من ديكتاتورياتهم، ومكرّراً بعناد أعمى فهم ولا فهم أنظمة زين العابدين علي وحسني مبارك، في تلوين أشكال القمع بإحضاره مهرّجي السينما الرسمية، لصنع فيلم يحطّمون فيه نموذج المثقف السوري الذي لم يستطيعوا تحطيمه حياً فيحاولون تحطيمه ميتاً، دون أن يدركوا من هو مخرجه الحقيقي، الذي ينظر إليهم نظرته الساخرة إياها من عليائه على التحطيم، ودون أن يسمعوا صرخة المثقفين السوريين مع أسامة محمد: ‘إنهم يمثلون بجثة عمر أميرالاي’…
فيا لسخريتك الحلوة المرة يا عمر.. ويا لسخرية القدر!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى