صفحات ثقافية

توني موريسون وعبودية الافريقي في إطار هموم وجودية

null
نازك سابا يارد
يستحيل أن لا تترك فينا أثراً لا ينسى رواية لتوني موريسون، حائزة جائزة نوبل في الأدب. وكذلك روايتها الأخيرة «رحمة» A Mercy. تدور أحداثها في ولاية ماريلاند من الولايات المتحدة في ثمانينات القرن السابع عشر، وتتناول أقرب الموضوعات وأعزّها على قلب الكاتبة: عبودية الأفريقي في أميركا. إلا أنها تتعدى الزمان والمكان في تعرضها لهموم وجودية تنتاب الإنسان أياً كان عصره وبلده.
تسرد الرواية قصة فلورينس، ابنة السابعة السوداء التي تخلت عنها أمها العبدة في منزل الثري دورتيغا راجية أن يشتريها المزارع جاكوب بدلاً منها. وكانت الصفقة سداداً لمال اقترضه دورتيغا من جاكوب ولم يستطع رده. ظلت هذه الذكرى تنغل قلب فلورينس، ولا تطلعنا الكاتبة على سر قرار الأم إلا في الصفحة الأخيرة من الرواية.
يحمل جاكوب الطفلة إلى مزرعته وضميره يؤنبه على اتجاره بالرقيق، إلا أن ما يخفف من عذابه شعوره بأنه ربما أنقذها من حياة قاسية كما كان أنقذ من قبل طفلة أخرى هي «سورو» (الحزن) المتخلفة عقلياً، والتي كانت تساعد زوجته في الأعمال المنزلية إلى جانب الشابة لينا. كانت لينا من قرية افريقية احترقت ومات أهلها، فاشتراها جاكوب قبل ان يتزوج لتساعده في مزرعته، وكانت لينا تعلمت من أمها كيف تشفي المرضى، وحين حبلت ريبيكا زوجة جاكوب كانت لينا تساعدها في ولادتها.
في طريق العودة إلى مزرعته التقى جاكوب بتجار شراب «الرَم» المسكر الذي يدرّ عليهم أموالاً طائلة. وإذ أعجب إعجاباً شديداً بقصر دورتيغا قرر أن يتحول إلى تجارة «الرَم» ليكسب الأموال التي تمكّنه من أن يشيد لنفسه قصراً مثله، على رغم اعتراض زوجته على ذلك بما أن أولادهم كانوا قد ماتوا جميعاً في طفولتهم ولا حاجة إلى مثل هذا البيت الكبير. أحضر جاكوب حدّاداً أسود حرّاً يستشيره ويعاونه في البناء، أغرمت به سورو لا سيما فلورينس، وقد غاظ ذلك لينا التي أحبت فلورينس حباً عميقاً. وكي يبني جاكوب البيت قطع خمسين شجرة، فانتقمت منه الطبيعة بأن جعلته يمرض ويموت قبل أن يتمّ البناء. وتمرض ريبيكا وتغطي جسدها الدمامل التي كانت أودت بحياة زوجها، فترسل فلورينس برسالة عاجلة إلى الحداد ليحضر حالاً. ولا نعرف محتوى الرسالة ولا سبب استحضارها الحداد إلا بعد عدد من الفصول، فيتضح أنه كان قد شفى سورو من دمامل مماثلة. وفي مرضها تهذي ريبيكا وتسترجع حياتها قبل زواجها: رفيقاتها في المركب وهي تجتاز المحيط من إنكلترا إلى الولايات المتحدة، وكنّ خادمات أو عاهرات عمدن الى تسليتها بقصصهن، وتستعيد حياتها السعيدة مع زوجها التي لم ينغصها إلا موت أطفالهما. إلا أن فلورينس تضيع في الطريق، وتؤويها امرأة أشفقت عليها، ومعها ابنتها التي تسيل الدماء من جراح في ساقيها. ويدخل عليهن رجل وثلاث نساء فتحاول المرأة إقناعهم بان ابنتها ليست ابنة الشيطان بما أن الدم يسيل من جراحها، وهو أمر لا يحصل لو كانت من الشياطين. وبعد ذلك يعتبرون الفتاة السوداء ابنة الشيطان، فتخرج فلورنس الرسالة التي معها لتثبت أنها في مهمة من قِبلِ سيدة بيضاء. بعد أن يخرجوا لاستشارة غيرهم، وتخرج المرأة لتبيلغ الشرطة، تهرّب الفتاة فلورينس وتدلها على الطريق إلى بيت الحداد. تحلم فلورينس بحياة سعيدة مع الحداد حين لن يستطيع أحد أن يضربها أو يسرق ملابسها أو يبيعها. تصل فلورينس وتجد ولداً صغيراً مع الحداد تركه في عنايتها ليسرع إلى السيدة ريبيكا. يحقد الولد على فلورينس، يعاندها، ويسرق حذاءها، وحين لا يكف عن الصراخ تنزعه من ذراعه وتخلعها خطأً. وحين يعود الحداد ويرى ما حدث يطرد فلورينس من بيته، فتدرك أنه يحب الولد أكثر مما يحبها، ولا تنفع معه توسلاتها وإعلانها حبها الشديد له. وبعد أن يتعاركا تعود فلورينس من حيث أتت، وتخفف عن نفسها بأن تكتب سراً إلى حبيبها الحداد مشاعرها وقصة حياتها.
لا يبين هذا العرض الموجز قيمة الرواية، إنما يبين فن الكاتبة في قصها. أولاً، سرد كل فصل من فصول الرواية هو من وجهة نظر إحدى شخصياتها وبلسانها: فلورينس، لينا، ريبيكا، أو راوٍ محايد. ولا تظهر العلاقة بين الفصول إلا حين ننتقل من فصل إلى آخر تفصله عن الفصل السابق فصول مختلفة. تبدأ الرواية بخطاب توجهه فلورينس إلى أمها الغائبة، ذاكرة أنها تحمل رسالة (لا يعرف القارئ إلا بعد ذلك بفصول عدة إلى من ولماذا) وانها تغادر الآن البلد الذي عاشت فيه منذ السابعة من عمرها، وتشكر الكاهن الذي علمها خفية القراءة والكتابة معرضاً حياته لعقاب قاس. ثم في فصل لاحق تستأنف فلورينس ما بدأته في الفصل الأول حين تعطيها السيدة المريضة الرسالة، فتضيع وتسير تائهة في غابة مظلمة خائفة أن يغتصبها الرجال، ولا تعرف إلى أين تتجه. ولا يطلعنا إلا المقطع الأخير من الرواية على سر إصرار الأم على بيع ابنتها بدلاً منها، وقد يكون من أجمل مقاطع الرواية وأبعدها تأثيراً في القارئ، وبه تغلق الدائرة التي فتحها في الفصل الأول خطاب فلورينس. ففيه تقص الأم على ابنتها كيف بيعت عبدةً، «فللمرة الأولى «تعلمتُ أنني لست إنساناً من بلدي، ولا من عائلتي، أنني عبدة في كل شيء: اللغة، الثياب، الآلهة، الرقص، العادات، الزينة، الغناء – كلها كانت ممزوجة بلون بشرتي، وبصفتي سوداء اشتراني سنيور.» (ص194) وما عزّاها عن اغتصابها كان ولادة ابنتها فلورينس ثم طفلها الذكر. وحين عرض جاكوب شراءها توسلت إليه أن يتركها ويأخذ ابنتها بدلاً منها لأنها رأت في عينيه أنه إنسان، ينظر إلى ابنتها كإنسانة، لا كبضاعة. ركعت وطلبت من الله الرحمة، جاءتها الرحمة ذلك اليوم من إنسان. ومنذ ذلك اليوم كانت ترجو أن تفهم ابنتها ما تعرفه هي وتتوق إلى أن تعرفه ابنتها أيضاً: « من القساوة أن يكون لإنسان سلطة على إنسان آخر، وخطأ أن ينتزع الإنسان سلطة لتكون له على آخر، وشر أن تعطي إنساناً آخر سلطة على نفسك. فلورينس، حبيبتي، انصتي إلى أمك.» (ص195-196) وبهذه الوصية تنتهي الرواية.
تلقي نجوى الشخصيات المختلفة ضوءاً إما على ماضيها، كنجوى سورو التي بينت مأساة الفتاة الحقيقية، أو على بعض معتقدات الافريقيين الأميركيين الشعبية، كإيمان فلورينس بأن الأجداد يباركون الموتى إذا ظهر غرابان حين يذكر الأحياء أسماءهم. وأهم من ذلك أنها تصور ما يدور في أذهان الأشخاص ونفسياتهم. مثلاً، حين دخل جاكوب قصر الثري دورتيغا نوى أن يغتني كي يبني لنفسه قصراً مثله، لا طمعاً بالغنى، وإنما ليرتقي اجتماعياً. وحين تفكر فلورينس في إمكان أن تصبح حرة ترفض فكرة الحرية لأنها تخشاها، فهي لا تعرف معناها. أو حين تعكس مناجاة فلورينس خوف العبد الأسود الذي لا يفارقه.
تقول الفتاة وهي تسير وحدها في الغابة بعد أن أخذت منها الرسالة التي كتبتها سيدتها إلى الحداد: «يغادرني شيء ثمين. مع الرسالة أنتمي إلى أحد، يكون وضعي شرعياً، من غيرها أنا عِجل ضعيف تخلّى عنه القطيع، خادمة حقيرة من غير ما يثبت مَن هي. سواد وُلدتُ معه، سواد خارجي وداخلي أيضاً.» (ص135) هل أبلغ من هذا الكلام تعبيراً عن نفسية فتاة ضائعة، لا كيان لها ولا هوية، ولم تعرف غير الذل مدى حياتها؟!
والرواية، إلى ذلك، مشوقة جداً. مثلاً، لا نعرف إلا بعد فصول كثيرة ما محتوى الرسالة التي تحملها فلورينس، ولا إلى مَن، ولماذا. لا نعرف لماذا قالت فلورينس إن الرسالة التي عليها تسليمها ستنقذ حياة. كذلك يفاجئنا ضرب المرأة ابنتها حتى تدمي ساقيها، ولا نعرف السبب إلا بعد صفحات كثيرة إذ تريد أن تثبت للمشككين أن ابنتها ليست حولاء لأنها ابنة الشيطان، فأولاد الشياطين لا تسيل منهم الدماء.
يتجلى من هذه الأمثلة أن الرواية تلقي أيضاً صورة على العصر الذي تجري فيه أحداثها. من ذلك التعصب الطائفي بين المسيحيين في إنكلترا، والكره بين البروتستانت والكاثوليك، حتى في الولايات المتحدة التي كانت أكثر تسامحاً من إنكلترا، وإيمانهم الشديد بالخرافات: فلينا تعزي ريبيكا عن وفاة أولادها بقولها لها أنهم تحوّلوا إلى نجوم، ما يريح المرأة أكثر مما أراحتها الصلوات المسيحية التي تتوعد الإنسان بآخرة يحاكم فيها. وتبيّن الرواية ان لا مستقبل للنساء الفقيرات اللواتي يهاجرن إلى الولايات المتحدة أملاً بحياة أفضل إلا الخدمة أو الدعارة أو السرقة. وتصور تجارة الرقيق وسوء معاملتهم، وتقييدهم بالسلاسل وضربهم بالسياط. ولم يكن جميع العبيد من السود إذ كان هناك بيض بينهم، ولو أنهم أقلية في ما كانت الكنيسة تعاقب رجال الدين الذين يعلمون العبيد الأميين القراءة.
وواضح أن تصوير أحوال العصر يحمل نقداً قاسياً، ومن الطبيعي أن يكون على رأس ما يؤلم موريسون تجارة الرقيق ومعاملة التجار الوحشية لهم، ووضع العبيد الأفريقيين السود في أميركا. يلي ذلك نقد أوضاع المرأة. فالمرأة كانت ضحية الرجل، يتسلط عليها، يحتقرها، يستغلها، يضربها، يغتصبها، «ومن غير أن يكون لها مركز أو كتف رجل، من غير دعم أسرة أو محبين، تكون الأرملة عملياً غير شرعية.» (ص115) إلى جانب ذلك نرى نقداً واضحاً لتدين العديد من الناس. فمثلاً تقول ريبيكا عن أمها إن دينها كان مبنياً على «كراهية عجيبة» (ص86).
تبقى كلمة عن أسلوب الأديبة. حين تكون المتكلمة عبدة شبه أمية تكثر في كلامها الأخطاء، ولكن في غير ذلك نجد شعرية جميلة كقولها، مثلاً، «إن الأشجار التي بدأت تورق تحبس أنفاسها إلى أن يذوب الثلج» (ص48)، أو قول فلورينس الخائفة وحدها في الليل: «الظلام هو أنا. هو نحن. هو هويتي.» (ص 136)
ولكن الرواية تبقى، في النهاية، قصة حب، أو البحث عن الحب. حين نبذت الأم ابنتها فلورينس فتشت الصغيرة عن الحب عند لينا، ثم عند الحداد الأفريقي. إلا أن الأم لم تنبذ ابنتها إلا بدافع حبها لها، أملاً بأن تخلصها من مصيرها التعيس. وظلت الفتاة تحب هذه الأم، وتتوق إليها. ولأنها لم تعرف ما كان دافع الأم ظلت حتى آخر قصتها تحاول التغلب على المرارة التي نغصت عليها حبها.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى