صفحات أخرى

ذلك اللقاء اليتيم مع صاحب الفكرة والحيلة

إبراهيم غرايبة
أدين لصالح بشير بفكرة غيرت حياتي وأفكاري ومواقفي، ففي جدلنا وسؤالنا في التسعينات عن تطبيق الشريعة الإسلامية والمشاركة السياسية للحركة الإسلامية، كتب صالح مقالة مطولة في مجلة «أبواب» (أين ذهبت هذه المجلة، هل ما زالت تصدر؟) أن هناك فرصة كبيرة جداً عملياً وأيديولوجياً لوجود نظام ديموقراطي كامل تقوده أو تشارك فيه الحركة الإسلامية وفق مبدأ «المشروعية الإسلامية العليا» وأن هذا المبدأ يسمح بقيام ليبرالية سياسية واقتصادية كاملة تضمن تماماً أهداف وفلسفة الديموقراطية والليبرالية بلا تناقض، كان ذلك بالنسبة إلي اكتشافاً عظيماً وجميلاً، ساعدني كثيراً بالعبور من النفق المغلق، ولكن صالح جعلني ألاحظ أن باب النفق مغلق باتجاه واحد وأنني أصر على الخروج بدفع الباب باتجاه واحد، فلو سحبت الباب بدلاً من دفعه لانفتح.
يا لها من حيلة جميلة وبسيطة نمضي حياتنا من دونها في متاهة طويلة ثم نكتشف أنها متاهة غير موجودة، دائرة وهمية نعتقد أنها تحيط بنا وتمنعنا من التحرك، ولا نحتاج للمضي في الحياة وملاحظة الشمس والنجوم والهواء ورؤية النهر والجبل سوى أن نخطو خطوة واحدة في الفضاء، … هكذا ببساطة.
ربما أكون قد استغنيت عن فكرة صالح منذ سنوات ولم أعد في حاجة إليها، فبعد سنوات أخرى من السؤال وجدت أن فكرة «الدولة الإسلامية» ليست سوى اختراع بشري قمعي لتعزيز الهيمنة والسلطة والاستبداد، وأن الله لا يريد منا سوى الحرية والانعتاق والعدل والمصالح وأين كانت هذه الحرية فثمة شرع الله ودينه.
ولكن صالح كان أكثر من ذلك، لم يكن بالنسبة إلي صاحب فكرة جميلة أو حيلة لجأت إليها في مواجهة حازم صاغية وهو يعتقد أنه لا يمكن تصور وجود ديموقراطية تضمن حق الأقلية تماماً مثل الأكثرية مع وجود تصور مسبق يصادر حق إنسان في أن يكون ما يشاء أو يعتقد ما يشاء، لقد كان مثل «لص جبران خليل جبران» الذي سرق قناعي، وبعد لحظات من المطاردة والدفاع اكتشفت الشمس والهواء والحياة والجمال، مبارك هذا اللص!
لم أقابل صالح بشير في الواقع (ما هو الواقع وما هو الافتراضي؟) إلا مرة واحدة، ولكني كنت ألتقيه كل أسبوع في الحياة (صحيفة الحياة)، فأجد أننا نلتقي بالفعل في الحياة، ولكن الحياة نفسها في حاجة أيضاً لنعرف ماهي، وكذا الموت أيضاً.
في ذلك اللقاء الأول والأخير الواقعي- الحقيقي الذي ليس عبر الأثير قبل عشر سنوات صدمني صالح بصدقه ووضوحه، لم أكن في تلك المرحلة قادراً على استيعاب رؤيته وطريقة تفكيره، ولكني بعد ذلك بسنوات قليلة حين تغيرت كثيراً وتعلمت بنفسي أشياء كثيرة تذكرته على الفور، ففي سيرته العصامية، وفي تعلمه كيف يعلم نفسه بنفسه أدرك صالح أن الحكمة تقيم في الفضاء والأرصفة وكل مكان حولنا، ولا نحتاج سوى إلى التقاطها، وأنه أدرك أن أهل قريته المعزولة الفقيرة مندمجون في الحداثة، ويفكرون ويحيون بمنهجية «حداثوية» متقدمة بكثير على المثقفين والمناضلين «الحداثويين» الذين قابلهم وعمل معهم وعرفهم عندما ترك قريته «لأجل النضال وسعياً وراء التحديث»، وأنه في الحقيقة كان يبحث عن الحياة الأفضل وإن كان لا يعي ذلك تماماً أو لا يريد أن يعترف به في حمأة «النضال» الذي يريد أن يلغي أو يرفض ما يؤمن به جميع المناضلين ويسعون إليه. وفي الوقت نفسه فإن الجميع يتواطأ على إنكاره ورفضه والتبرؤ منه، ولكن لماذا؟
تقول الأسطورة الهندية إن الإنسان كـــــان يمـــلك قدرات وإمكانات مثل الآلهــــة، فقررت الآلهة أن تنزع منه قدراته ومواهبه، ولكنــها في كل مرة تخفي فيها هذه الطاقة، في البحر أو الفضـــاء أو أعماق الأرض كان الإنسان يجدهـا ويستعيدها، ثم تشاورت الآلهة أين تخفــي موهبة الإنسان وقدراته، فقرر كبير الآلهة أن يخفيها داخل الإنسان نفسه. وهكذا فإننا نبحث عن الحكمة بعيداً من موضعها وهي أقرب إلينـــا بكثير مما نعتقد، وحين نكتشفها لا نقوــى على احتمالها، فنسعى للتخلص منها. ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان، وتلك هي قصة صالح بشير وكل أشقياء المعرفة والسؤال، نحتاج إلى قدر من الغباء كي نكون سعداء وأسوياء، الغباء منحة عظيمة وذكية. مشكلة صالح أنه كان يعتقد بعدم حاجته إلى الغباء.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى