صفحات سورية

في الاستباحة وأشياء أخرى

null


زياد ماجد

يصعب وصف الأداء السياسي لـ”حزب الله” خارج البحث في معنى الاستباحة.

الاستباحة لمعاني التعاقد بين الناس على العيش في رقعة واحدة واللجوء الى نظام سياسي يختارونه لينظّم أمورهم، وترعى مؤسساته شؤونهم، وتطبّق السلطة القضائية فيه قوانين وضعية تفضّ نزاعاتهم.

الاستباحة لمفهوم الحق العام، لمعنى المواطنة ولفكرة الدولة، من خلال فرض جغرافيات أمنية، وتطوير أجهزة مخابراتية، وتكديس أسلحة، وإمساك بقرارات حرب وسلم، وتحديد بوصلة سياسات خارجية، وادّعاء حق في تصنيف الشركاء في التعاقد الوطني (الافتراضي) بين خائن وعميل وقاتل، وشريف ومسؤول ووطني و”رجّال“.

يصعب وصف السلوك الخطابي والإعلامي لـ”حزب الله” خارج البحث أيضاً في معنى الاستباحة. في معنى التحريض على العنف البدائي الحاسم للخلافات في حقبات هي عادة سابقة على نشوء الدول، أو على قيام “المجتمعات”. فمن التهديد بقطع الأيادي والرؤوس وسحب الأرواح، الى التهديد برمي الخصوم في البحر، يرسم المستبيح مشهداً يمزج فيه البداوة وقساوة سيوفها العارية، بالقرصنة ورمي الضحايا الى أسماك البحر ومياهه الهائجة. يزاوج قطع الأيدي ودفنها بالتراب، بقطع الأعناق ورميها في البحر. ذلك أن الأيادي والأعناق، في عرفه، تفاصيل إن قورنت بالسلاح. فـ”حزب الله” يقدّس السيوف والبنادق، ليس “لتزيينها الرجال” فحسب، بل “لهالتها الدينية” أيضاً. وهو يحوّلها من مصنوعات حربية تقتنيها الجيوش لحالات الطوارئ الى كائنات غيبية لفرض السياسات والحصص عبر ما يسمّيه (في استباحة بلاغية) “عمليات موضعية”! يشنّ الغارات أو الغزوات “للدفاع عن السلاح بالسلاح”، فيتسلّط على مناطق وأحياء مدينية “إستباقاً لما تُعدّه ضد سلاحه“.

يستبيح “حزب الله” بيروت، عاصمة السياسة وموقعها في لبنان، محتلاً شوارعها بشعارات حربية وعراضات وخيم ومظاهر لا تشي بانتماء الى المكان أو الزمان، بقدر ما تشي بغرور قوة ريفيّ وثأر من مدينة لم ينتسب إليها ولو عاش على ضفافها – ضواحيها. ذلك أنه في قوله وسلوكه إنتاج ما سميناه في مقال سابق في “الملحق” (في تموز 2002) بـ”الأوزعة” (نسبة الى منطقة الاوزاعي). ريف ينزح قسراً الى المدينة فيحتل مساحات على تخومها. يعيد تشكيل هذه المساحات ويبتني له دياراً فوقها، شكلها موقت. لكن الموقت يطول، فتتحوّل الديار الى أحياء، والأحياء الى حيّز هجين لا هو الريف المهجور، ولا هو تقليد للمدينة المشتهاة. ثم تتغير الأحوال، فيعود النازح المقيم على تخوم المدينة الى ريفه، عودة هي بدورها موقتة، يبتني فيه فوق أنقاض القديم شَبه مبناه الهجين، لتصبح الهجانة سمته وأساس حاجته للبحث عن “أصالة” وعنصر تماسك لا يجدهما في غير “المقدّس”، فيعوّض بواسطته عن تيهه، ويتسلّط به على الناس.

هي “الأوزعة” إذاً للمدينة وللريف على السواء. وهي سمة تشارك الأوزاعي وأهله فيها مناطق وطوائف أخرى على امتداد الخريطة اللبنانية (والعربية)، لكنها في الحال الحزب إلهية تردّنا من جديد الى الاستباحة. الى تجسيد النزوع المعنوي للعنف وممارسته من أجل التحكّم ليس بالحيّز العمراني فحسب، بل وبالمجال السياسي – الأمني لمحيطه أيضاً.

في الردّ على الاستباحة

على أن الرد على “حزب الله” واستباحته يحيلنا على الأزمة الكيانية في لبنان وعلى موقع هذا البلد في المنطقة.

فالحزب بما يصيب الاجتماع السياسي اللبناني من مَقاتل، لا يُرَدّ عليه بالشحن الطائفي (ولو تسبّب هو في جزء منه)، ولا بالرهانات التبسيطية على “الخارج” للتخلّص منه أو من ضغطه (وضغط عرّابَيه الإيراني والسوري). كما لا يُرَدّ عليه بتمكين سمات سلوكه التخويني وقسمته الناس فسطاطين من التسلّل الى النفوس المقهورة منه، ولا بادّعاء مقابل للحقيقة المطلقة وما في ثناياها من عنف رمزي ضد الاختلاف والتمايز، ولا بالمكابرة ورفض الاعتراف بالأخطاء والتقلّب السريع بين المواقف الذي يمدّ الاستباحة بزاد غير قليل.

ذلك أن ثمة أزمة معقّدة في لبنان سابقة على قيام “حزب الله”، ولو عمّقها هذا الحزب وأضفى عليها أبعاداً غير مسبوقة. تتطلّب هذه الازمة خطاباً متجدّداً وخطة إصلاحية بنفس طويل، وبموقف صلب يمنع الاستباحة من التمادي، ويجهد لمنع قيام حالات تشابهها في الاجسام الطائفية الاخرى.

وهي أزمة لا يمكن التركيز على شأنها الداخلي التكويني للوطن من دون قرار صريح بالسعي الى فصله كوحدة سياسية عن الارتباط بالمحاور الإقليمية المتصارعة من حوله. فصل قد لا ينجح في حمايته تماماً في ظل استمرار الرياح العاتية بالهبوب من المنطقة وعليها. لكنه فصل قد يحدّ من شرور التمدّد الإيراني دفاعاً عن برنامج نووي، ومن ضراوة الإجرام البعثي استجلاباً لعروض على محكمة دولية. وفصل قد يبعده عن اهتراء “الاعتدال العربي” وأنظمته البالية، وفصل قد يجنّبه الدخول في حسابات إدارة أميركية ضائعة بين حكم المصالح التقليدي لدولة عظمى واندفاعة الايديولوجيا الحربية لنخبة مصابة بجنون العظمة. وفصل قد يقلّص تسرّب التيارات الظلامية “السلفية – الجهادية” الى عقول بعض أبنائه المهمّشين ومخادعهم.

وهي أزمة لا يمكن التركيز عليها أيضاً من دون اعتماد “الطريق النمسوي” (في الحرب الباردة) في التعامل مع القضية الفلسطينية، أي طريق دعم هذه القضية ديبلوماسياً وسياسياً وثقافياً وإعلامياً من دون التحوّل ميداناً للقتال الذي غالباً ما يرفع شعاراتها لأسباب لا تمتّ اليها بصلة، أو الذي لا يقدّم ولا يؤخر في شأنها.

قد يكون ما ذُكر كلامٌ غير قابل للتحقّق اليوم. المطلوب راهناً اتفاق على الحد الأدنى الضروري لتهدئة الأمور ومنع الانفجار الكبير. وهذا الى حد بعيد صحيح. فأن ننتخب رئيساً، وأن نشكّل حكومة جديدة، وأن نعدّ لانتخابات مقبلة، وأن نقيم الحوار حول تسليم السلاح الى الدولة وتحصينها لتحمي جميع أبنائها من كل تهديد، جميعها أولويات.

لكن الصحيح أيضاً هو أن التأسيس للمستقبل ينبغي أن يترافق معها. والتأسيس يبدأ عادةً بكلام. ببضع أفكار، بتجريد، بنصوص، بقيم، ثم يصبح مع التناقح والتعديل والتطوير والممارسة والتراكم ثقافة سياسية. يصبح مع الوقت إعلاء لفكرة الدولة، لفكرة المواطن الفرد، لفكرة الجماعة وعقدها الاجتماعي غير المقدّس (وغير الطائفي).

عندذاك فقط، نقع على الردّ الفعلي والمستدام على “حزب الله”، وعلى الاستباحة الآتية منه (أو من سواه).

أما أن يبقى الكلام اجتراراً سقيماً ينشد ما ثبت بالتجربة فشله، وأن تكون مصطلحاته فضفاضة لا تدقيق فيها، وأن يكون العمل المنطلق منه تهويلاً حائراً واتهامات عاجزة، فالمدينة ستكون مقبلة على المزيد من الغزوات، والبلد على المزيد من “الأوزعة”، وحدود الكيان السيادية على المزيد من التهتك
ملحق النهار الثقافي



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى