صبحي حديديصفحات مختارة

إدوارد سعيد وتمثيلات انشقاق المثقف

null
صبحي حديدي
في سنة 1993، عُهد إلى إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) بإلقاء محاضرات ريث من إذاعة الـBBC، وهذه سلسلة إذاعية سنوية عريقة وذائعة الصيت، كان قد أطلقها الفيلسوف البريطاني برتراند رسل سنة 1948، وتناوب عليها عدد من كبار مفكّري وكتّاب النصف الثاني من القرن العشرين. (*) وقد ألقى سعيد ستّ محاضرات، حول موضوع “تمثيلات المثقف” Representations of the Intellectual، سوف ستصدر بعدئذ سنة 1994 في كتاب صغير حمل العنوان ذاته، وتُرجم إلى العربية سنة 1996، بعنوان “صور المثقف”. عناوين المحاضرات سارت على النحو التالي: تمثيلات المثقف، لجم الأمم والتقاليد، المنفى الفكري: مغتربون وهامشيون، محترفون وهواة، قول الحقّ في وجه السلطة، وآلهة تفشل دائماً.
وعلى نحو ما، كانت تلك المحاضرات زبدة رأي سعيد في مفهوم، ثمّ وظائف ومهامّ ورسائل، المثقف في عصرنا الراهن، اعتماداً على قراءات سجالية في أفكار عدد منتخب من المثقفين، أمثال أنطونيو غرامشي وجوليان بيندا وميشيل فوكو وجورج أرويل وتيودور أدورنو وجان بول سارتر ونوام شومسكي وسواهم. كبرى الخلاصات تشير إلى واجب المثقف في توطيد الحرية الإنسانية والمعرفة، وضرورة تمثيل قضية واضحة أمام الجمهور، وعدم الإنسياق وراء التعميم واليقين المطلق، وسمات أخرى عديدة ناقشها بإسهاب، ومن خلال أمثلة ملموسة. غير أنّ صفة الإنشقاق، ومستوياتها المتعددة، كانت مركزية في أطروحات تلك المحاضرات، فضلاً عن أنها لازمت سعيد طيلة حياته، وربما قبل أن ينضج وعيه ويستقرّ.
والحال أنّ محطات حياة سعيد كانت، في ذاتها، شواهد صريحة على نزوعه الدائم إلى الإنشقاق عن المألوف، كلما تجمّد هذا المألوف وانقلب إلى قواعد دوغمائية مطلقة مغلقة، وكان ذلك الحسّ يختلط غالباً بمشاعر الاقتلاع والنفي والإغتراب، وهي بعض سمات المثقف في رأيه. ولد في حيّ الطالبية، بمدينة القدس، في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1935، لأسرة فلسطينية مسيحية بروتستنانتية، كان الأب فيها، وديع سعيد، يحمل الجنسية الأمريكية بسبب إقامته فترة من الزمن في الولايات المتحدة وتطوّعه مع القوات الأمريكية أثناء الحرب العالمية الأولى. ويقول سعيد إنّ بذور اغترابه، وبالتالي إنشقاقه، بدأت من هذه التربية المسيحية الملتفة بثقافة إسلامية وثقافة غربية في آن معاً، وهو يروي على سبيل الطرافة أنّ والدته استمدت اسمه من إدوارد أمير ويلز، لكن اسم ابيه وكنيته كانت تحمل حرف العين الذي يصعب لفظه في اللغات الأوروبية.
في سنة 1948، حين وقعت النكبة، غادرت الأسرة إلى القاهرة حيث أعمال الأب، الذي حرص منذئذ على إبعاد إدوارد عن كلّ ما له صلة بفلسطين خصوصاً، وبالسياسة عموماً، فأدخله إلى كلية فكتوريا التي كانت أهمّ المدارس الغربية في مصر، وكان بين زملائه حسين بن طلال الذي سيتولى عرش الأردن، وعمر الشريف الذي سيصبح ممثلاً شهيراً. في الثالثة عشرة من عمره انشق مبكراً عن القراءات التي أرادت الأسرة أن يواظب عليها (روايات “روبنسون كروزو”، “إيفانهو”، سلاسل طرزان، قصص شرلوك هولمز البوليسية)، فسرق كتاب سيغموند فرويد “تفسير الأحلام” من مكتبة والده، وقرأه خفية في الهزيع الأخير من الليل. وفي سنّ السادسة عشرة طُرد من كلية فكتوريا، لأنه “مشاغب” حسب السبب الرسمي، وأمّا الحقيقة فهي أنّ مناهج التدريس الإنكليزية التقليدية كانت أكثر جموداً من أن تتسع للتوثّب القلق في داخله.
وهكذا قرّرت الأسرة إبعاده نهائياً عن الشرق الأوسط، فسافرت به إلى أمريكا سنة 1951، حيث سجّلته في مدرسة “جبل حرمون” الداخلية البيوريتانية ذات النظام الصارم، الواقعة في أقصى الشمال الغربي من ماساشوستس، حيث يروي سعيد أنه قضى حفنة من أتعس سنوات حياته. في سنة 1957 نال الإجازة من جامعة برنستون، ثمّ الماجستير سنة 1960، والتحق بجامعة هارفارد لدراسة الدكتوراه. وهناك درس الآداب الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإغريقية والرومانية، وقادته سجيّته المتمردة إلى قراءة كتابَيْ المفكر الهنغاري الماركسي جورج لوكاش، وهما “التاريخ والوعي الطبقي” في الترجمة الفرنسية، و”الرواية التاريخية” في ترجمتها الإنكليزية. ثم تعمّق أكثر في الفلسفة الأوروبية، فقرأ المفكّرَين الإيطالييَن جيوفاني باتيستا فيكو وأنطونيو غرامشي، والألمان مارتن هايدغر وإرك أورباخ وتيودور أدورنو، والفرنسيين موريس ميرلو ـ بونتي ولوسيان غولدمان وكلود ليفي ـ ستروس وميشيل فوكو ورولان بارت.
هذا التكوين التركيبي، المهاجر أبداً والمنشق عملياً، لم يكن منفصلاً عن التيارات التي كانت تعصف بالمشهد الأمريكي في مجال الأدب والنظرية النقدية بصفة خاصة، مثل مدارس النقد الجديد، والنقد النصّي كما مارسه ر. ب. بلاكمور، والتأثيرات الفردية لأشخاص مثل الشاعر ت. س. إليوت والناقدين نورثروب فراي وهارولد بلوم. ولكن الفلسفة الأوروبية ستكون حاضرة منذ البدء في عمل سعيد، منذ أطروحة الدكتوراه التي ستتحوّل إلي كتابه الأول “جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية” Joseph Conrad and the Fiction of Autobiography، 1966. في هذا الكتاب اعتمد سعيد على منجزات مدرسة جنيف في النقد الفينومينولوجي، ولكنه طوّع مناهج هارفارد وتقاليدها الأكاديمية في الآن ذاته. ومن خلال التدقيق المعمّق في رسائل الروائي جوزيف كونراد، رسم سعيد الخطوط الكبرى لمزاج الروائي البولندي الأصل لكي يكشف كيفية توليدها للأطر الرئيسية في رواياته، ولكي يبرهن على نحو مدهش أن كونراد انشغل دائماً بالتوتّر بين وعيه لنفسه من جهة أولى، وإحساسه بالشروط المتصارعة التي تكيّف وجوده كـ “آخر” فردي ولغوي في التراث المكتوب بالأنكليزية من جهة ثانية.
في الكتاب الثاني، “بدايات: القصد والمنهج” Beginnings: Intention and Method ، 1975، أثار سعيد مشكلة فكرة البداية حين تستحوذ على الذات الفردية وتشارك في ميلها إلى التغيير والتبدّل، وناقش هذه المشكلة في مراحل ثلاث: في الرواية الكلاسيكية، وفي الأدب الحداثي، وفي المفاهيم السكونية التي تهيمن علي الفلسفة البنيوية الفرنسية. وطرح سعيد الطراز النموذجي للبدايات كما عبّر عنه الفيلسوف الإيطالي فيكو (القرن الثامن عشر)، وكيف أن البدايات لا تُكتشف بل تُخلق وتُصاغ وتتفاعل وتتطوّر وفق جدل العلاقة بين المعرفة التراثية والحدود الثقافية وديناميات المخيّلة. كان سعيد قد اعتمد في الكتابين علي الفلسفة الوجودية وميرلو ـ بونتي وهايدغر وفيكو، وكان في مطلع الثلاثين من العمر… وكانت هزيمة 1967 وحرب أيلول الأسود 1970 والعودة من جديد إلى العالم العربي، تضغط كلّها على مناهج وأدوات المفكّر القلق أبداً.
في عام 1969 سافر إلى عمّان، وشهد أيلول الأسود بأمّ عينيه، وتبلور تعاطفه مع حركة المقاومة الفلسطينية. بعدها غادر إلى بيروت وتزوّج من السيدة مريم قرطاس لبنانية الأصل، ثم درس اللغة العربية علي يد أنيس فريحة، وقرأ الغزالي وابن خلدون والفلسفة الأندلسية وطه حسين ونجيب محفوظ، قبل أن يشهد حرب 1973 ويكتشف عيانياً أن ما يجري على الأرض لم يكن يتوافق أبداً مع ما يُكتب في وسائل الإعلام الغربية. وهكذا تبلورت ملامح انشقاق بارز جديد هو التفكير في خطاب الإستشراق والصورة التي ابتدعها الغرب عن الشرق والعلاقات بين المعرفة والسلطة في ذلك كله. ثم صدر كتاب “الإستشراق” Orientalism، 1978، الذي كانت المؤسسة الإستشراقية قبله على حال، ثم باتت بعده في حال آخر مختلف تماماً. وهذا الكتاب سوف يقود إلى عمله الأساسي حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كتاب “قضية فلسطين” The Question of Palestine ، 1979، وكتابه تغطية الاسلام Covering Islam ، 1981، الذي يستكمل نقد الإستشراق بنقد للتنميطات الزائفة التي تلجأ إليها وسائل الإعلام الغربية حين تتناول موضوعات الاسلام والشرق.
وفي كتابه “العالم، النصّ، الناقد” The World, the Text, and the Critic، 1983، طوّر سعيد مفاهيم جديدة تصبّ في دائرة النقد العميق والإنشقاق الدائم، فتحدّث عن النقد العلماني Secular Criticism (الذي سأتوقف عنده بشيء من التفصيل)، والنظرية المترحلة Traveling Theory (حيث الأفكار والنظريات تسافر مثل البشر ومدارس التفكير، منطلقة من شهادة ميلاد، ونقطة بدء، ومسار رحيل، وشروط وصول، ومقتضيات رحيل جديد)، والنقد الديني Religious Criticism(حيث يجري نسخ الثقافة إلى شعائر وشعائر مضادة، وإلى لافتات مطلقة تلغي أي تمييز جدلي بين الإرهاب والمقاومة، والاسلام والليبرالية).
وفي مطلع أيلول (سبتمبر) 1991، أثناء وجوده في لندن للمشاركة في مؤتمر ضمّ نخبة من المثقفين والناشطين الفلسطينيين، علم سعيد أنّ فحوصات الدم التي أجراها في نيويورك قبيل سفره، بهدف الإطمئنان على نسبة الكوليسترول، تشير إلى سرطان الدم. غير أنّ حجم العمل الذي أنجزه سعيد خلال فترة العلاج يعجز عنه الأصحاء، إذْ ظلّ يكتب ويسافر ويحاضر ويساجل حتى رحيله، يوم 25 أيلول سنة 2003. وهكذا، في سنة 1993 صدر كتابه “الثقافة والإمبريالية” Culture and Imperialism، وهو التتمة الكبرى لـ “الإستشراق”، والعمل الذي سوف يستدرك ما غاب عن الكتاب الأول الرائد، سواء في مناقشة نسق الثقافة الإمبريالية أو تجربة المقاومة التي أفرزها ذلك النسق ضمن عوامل أخرى.
ولأن ميدان اهتمام سعيد هو الإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن الرواية هي الشكل الأدبي الأساسي الذي يبحث فيه عن صياغة المواقف الإمبريالية في أعمال جوزيف كونراد، جين أوستن، إي. م. فورستر، كاثرين مانسفيلد، توماس هاردي، روديارد كبلنغ، أندريه جيد، ألبير كامو، أندريه مالرو، وفي عمل أوبرالي مثل “عايدة”. وهو يتناول الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والأمريكية، ويترك النمساوية ـ الهنغارية والروسية والعثمانية والإسبانية والبرتغالية، ليس للإيحاء بأي فارق معياري في الطبيعة الإمبريالية، بل لأن الإمبرياليات الثلاث الأولى اتسمت بدرجة عالية من الإنسجام والوحدة ومركزية المرجعيات الثقافية. المفتاح المنهجي في “الثقافة والإمبريالية” هو ما أطلق عليه سعيد اسم القراءة الطباقية Contrapuntal Reading التي تستمد استراتيجيتها من الطباق الموسيقي، وتُمكّن من بلوغ تقييم معمق للخلفيات والسيرورات والأشكال في أي عمل ثقافي، وتذكّر بمفهوم النقد العلماني وتطوّر تطبيقاته.
وبعد سنة صدر كتابه الصغير الهام “تمثيلات المثقف”، الذي أشرت إليه من قبل، كما واصل شرح مناهجه النقدية في كتاباته عن الموسيقى والسينما والأوبرا، وفي إعادة التقاطه لجوانب حيوية نوعية للثقافة الشعبية في الحياة القاهرية بصفة خاصة (البورتريه الشهير الذي كتبه عن الراقصة الشرقية تحية كاريوكا على سبيل المثال). كذلك جمع عدداً من مقالاته السياسية حول القضية الفلسطينية، في كتابين: “سياسة الإقتلاع” The Politics of Dispossession، و”مظانّ السلام” Peace and Its Discontent.
وفي أواخر العام 1999 صدر كتابه “خارج المكان” Out of Place، الذي يروي فيه بعض سيرته الذاتية، وبعض تفاصيل الإحساس الطاغي الذي نادراً ما فارقه، وكان يفيد بأنه خارج المكان دائماً: من القدس التي ولد فيها، إلي القاهرة التي ارتحل إليها مع أفراد أسرته وفيها درس وأقام، إلى بلدة ضهور الشوير اللبنانية حيث موطن والدته (الفلسطينية، لأمّ لبنانية)، إلى برنستون حيث أنهي دراسته الجامعية، إلى هارفارد حيث تقدّم بأطروحة الدكتوراه، إلى نيويورك حيث عمل أستاذاً للأدب المقارن منذ سنة 1963، دون أن نغفل فلسطين (التي عاد إليها في عام 1992، للمرّة الأولى منذ مغادرته لها في عام النكبة 1948)، فضلاً عن عشرات الأمكنة هنا وهناك.
وبعد رحيله صدرت له الأعمال التالية: “الثقافة والمقاومة”Culture and Resistance وهو كتاب حوارات، “فرويد وغير الأوروبيين” Freud and the Non-European، “النزعة الإنسية والنقد الديمقراطي”Humanism and Democratic Criticism، “حول الأسلوب المتأخر” On Late Style، وسواها.
وبالطبع، ثمة تتمة أخرى في مسار التفكير الانشقاقي الوفي أبداً لحقيقة ما يجري في التاريخ، وعلى الأرض، وفي السطوح الأعمق من المخيّلة، أي ملفات القضية الفلسطينية. وفي زمن مضى كان الإعلام الأمريكي، المنحاز قلباً وقالباً للدولة العبرية، يطلق على إدوارد سعيد لقب “بروفيسور الإرهاب” الذي يريق الحبر دفاعاً عن إراقة الإرهابي الفلسطيني لدماء الأبرياء. وفي عام 1989 نشر إدوارد ألكسندر مقالته الشهيرة “بروفيسور الإرهاب” في مجلة Commentary الأمريكية الليكودية، وقال فيها: يجب أن نتذكر على الدوام أن إدوارد سعيد ليس فقط مجرد بروفيسور وإيديولوجي، بل هو أيضاً عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، والناطق الأبرز باسم منظمة التحرير الفلسطينية في وسائل الإعلام الأمريكية، وواحد من أقرب مستشاري عرفات. من ينسي الصُوَر التلفزيونية لشهر نوفمبر الماضي لهذا المثقف وهو يدنو من ملك الإرهاب، ويهمس (مَن يعرف ماذا؟) في أذن سيّده عند اختتام اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر”.
ورغم أنّ سعيد كان من أشدّ المعارضين لاتفاقات أوسلو، وكانت تحليلاته لآثارها المستقبلية المدمّرة بمثابة الكاشف الأحدث عهداً لذلك النوع الدؤوب من الانشقاق الشريف والشجاع والنبيل الذي يتوقف مطوّلاً عند الحق البسيط والحقّ اليومي والحقّ الثابت في إبقاء التاريخ نصب الأعين، فإنّ المؤسسة الصهيونية لم تتوقف عن تشغيل ألة إعلامية تستهدف تهديم سعيد بالمعنى المادّي الحرفي للكلمة. ففي أواسط العام 1991، نشرت مجلة Commentry ذاتها مادّة مطوّلة للإسرائيلي جستس رايد فاينر، الذي صرف ثلاث سنوات وهو ينقّب في أرشيفات فلسطين أيّام الإنتداب البريطاني، وفي قيود الأحوال المدنية، والصكوك العقارية، وسجلات مدرسة سان جورج في القدس، واستجوب نحو 85 من الشخصيات المعاصرة لتلك الحقبة، وسافر لهذا الغرض إلى عواصم عديدة بينها القاهرة وعمّان، لكي يستخلص أنّ إدوارد سعيد لم يعش في القدس، ولم ينتسب إلي أيّ من مدارسها، وهو ليس لاجئاً!
وبالطبع، كان مطلوباً من هذا الإكتشاف أن يقوّض حكاية إدوارد سعيد المنفيّ الفلسطيني، وهنا مربط الفرس. سعيد، بالتالي، لم يعد رمزاً للظلم الإسرائيلي، وحكايته المؤثّرة التي كانت تُروى وتقتبس في الصحف والمجلات وأقنية التلفزة، ينبغي أن تُطوى اعتباراً من تاريخ هذا الإكتشاف”. أخيراً، هذا الرجل الذي حظي بموقع مدلّل اليسار الأمريكي زمناً طويلاً، لا يمكن أن يستأثر بعد الآن بموقع الرمز الحيّ للشتات الفلسطيني.
والحال أنّ نفوذ سعيد لم ينهض، في أيّ يوم، على استثمار حكايته الشخصية، واعتمد في المقابل على توظيف عبقري، ذكيّ ودؤوب ومبدئي، لكلّ ما في القضية الفلسطينية من أبعاد إنسانية وتاريخية وثقافية وجيو ـ سياسية.
أعود الآن إلى فكرة المنفى، التي كان سعيد بمثابة استعارتها الحيّة من لحم ودمّ: في المحطات الأساسية من سيرته الذاتية، وفي النقلات الكبري لتطوّرات تفكيره النظري، وفي مجموعة المواقف التي اتخذها بصدد مسائل إيديولوجية وفلسفية وجمالية وأخلاقية وسياسية. وفي مقالته اللامعة “ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى”، التي نشرها في عام 1984، حدّد سعيد بعض خصائص المنفى على النحو التالي:
1 ـ المنفى هوّة قسرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الإنقطاع. وأياً كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد.
2 ـ إذا صحّ ذلك، فكيف تحوّل ذلك الإحساس بالفقد إلى دافع غنيّ للثقافة الحديثة؟ يجيب سعيد: “ربما لأن الحقبة الحديثة ذاتها مُتيتّمة ومغتربة روحياً، ويُفترَض أن هذا هو عصر القلق الشامل والحشود العزلاء”. وهكذا فإن المنجز الأساسي في الثقافة الغربية الحديثة صنعه المنفيون، والمهاجرون، واللاجئون. ويضرب سعيد أمثلة من أينشتاين وصمويل بيكيت وفلاديمير نابوكوف وإزرا باوند وسواهم.
3 ـ أنْ نفكّر بفوائد المنفي كباعث على الموقف الإنساني والإبداع أمر لا يعني التقليل من عذاباته الكبرى. وأنْ نرى شاعراً في المنفى أمر آخر غير أن نقرأ شعره عن المنفى. والمبدعون المنفيون يسبغون الكرامة على شرطٍ، كان القصد منه في الأساس حرمانهم من الكرامة. وبهذا المعنى، لكي نفهم المنفى كعقاب سياسي معاصر، من الضروري أن نذهب أبعد مما يرسمه الأدب من ملامح. باريس، على سبيل المثال، اشتهرت باجتذاب عشرات المنفيين الكوزموبوليتيين، ولكنها كانت أيضاً المدينة التي شهدت عذابات الآلاف من النساء والرجال المنفيين المجهولين الذين لا نعرف أسماءهم وحكاياتهم.
4 ـ القوميات تدور حول الجماعات، بينما يدور المنفى حول غياب الجماعة الوضعية المتموضعة في موطن أصلي. فكيف للمرء أن يتغلّب على عزلة المنفى، دون أن يقع فريسة لغة الفخار القومي والعواطف الجَمْعية ومشاعر الجماعة؟ من هنا فإن المنفى “حالة حَسَد”. ولأن المنفيّ لا يملك سوى القليل، فإنه يتشبث بما يملكه ويدافع عنه بشراسة. ما ينجزه المنفيّ هو ذاك الذي لا يريد لأحد أن يشاركه فيه، وهكذا تتنامى مشاعر الإنطواء والاستئثار والتضامن داخل الجماعة الصغيرة. ومن هنا أيضاً تولد تلك الحالة القصوى من مناخات المنفى: أي معاناة النفي على يد فئة منفية أصلاً.
5 ـ المنفى تجربة يتوّجب عيشها بحيث تسمح بإحياء الهوية، وإحياء الحياة نفسها، والإرتقاء بها إلى وضعية أكثر اكتمالاً ومعنى. هذه النظرة الخَلاصية إلى المنفى دينية أساساً، رغم أنها كانت أطروحة للعديد من الثقافات، والإيديولوجيات السياسية، والأساطير، والتراثات. المنفى يصبح شرطاً سابقاً ضرورياً من أجل حالة أفضل، وهذا ما نعرفه عن نفي الأمم قبل أن تحرز كياناتها، ونعرفه أيضاً عن نفي أنبياء مثل موسى والمسيح ومحمد، قبل عودتهم الظافرة.
6 ـ المنفى ليس موقع امتياز يتيح للفرد ممارسة التأمل الذاتي، بل هو بديل عن مختلف المؤسسات الجبارة التي تهيمن على معظم الحية المعاصرة. وإذا اختار المنفيّ أن لا يمارس النقد العميق، وأن يكتفي بلعق جراحه على الخطوط الجانبية للحياة، فإن من واجبه أن يطوّر حسّاً معمقاً بالذات، من النوع الذي فعله الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو في عمله الهامّ Minima Moralia، والذي كتبه في المنفي واختار له عنواناً فرعياً هو “تأملات من داخل حياة مبتورة”. ولقد رأى أدورنو أن الحياة تنضغط في أوطان جاهزة مسبقة الصنع، والموضوعات تنقلب إلى سلعة، والواجب الأخلاقي يقتضي أن لا يشعر المرء بالإستقرار في أي مقام. هذه هي المهمة الفكرية التي يتولاها المنفيّ.
7 ـ والمنفى، كما تحدّث عنه أورباخ أثناء نفيه في تركيا خلال الحرب العالمية الثانية، هو تصعيد للحدود الوطنية أو الأقاليمية. إنه يتعلّق بوجود الموطن الأصلي وحبّه والإرتباط به، ولكن ما هو حقيقي في كل حالة نفي ليس فقدان الوطن وحبّ الوطن، بل أن الفقد موروث في الوجود ذاته للوطن ولحبّ الوطن.
8 ـ وينتهي سعيد إلى القول: “المنفى لا يمكن أبداً أن يكون حالة رضى عن النفس، واطمئنان، واستقرار. المنفى، بكلمات الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز، هو ذهنية الشتاء حيث تكون عواطف الصيف والخريف، مثل العواطف الكامنة للربيع، قريبة ولكنها ليست في المنال. المنفى هو الحياة خارج النظام المألوف. المنفى بَدَوي، غير متمركز، طباقي Contrapuntal، ولكن المرء ما يكاد يتعوّد عليه حتى تندلع من جديد قوّته غير المستقرّة .
أصل الأن إلى مواقف الإنشقاق التي انبثقت من مفهوم “النقد العلماني”، وهو المصطلح الذي كان سعيد قد استخدمه للمرّة الأولى في مقالة تمهيدية لكتابه “العالم، النصّ، والناقد”، حملت عنوان “النقد العلماني” Secular Criticism، وجاءت بمثابة ردّ فعل شجاع على انحدار النظريات النقدية الأمريكية نحو نزعة تجريدية تقدّس النصّ في ذاته، وتعزله عن محيطاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية، بل تجعله بديل التاريخ أحياناً. والمفارقة أنّ هذا الميل إلى عدم التدخّل في شؤون محيطات النصّ الأدبي، كان قد ترافق مع صعود الفلسفة الريغانية، أو عقيدة الحرب الباردة الجديدة وتكريس نزعة التدخل العسكري في شؤون الشعوب الداخلية، والإنفاق الهائل على التسليح، وتعزيز التوجهات اليمينية في مسائل سياسية وفكرية وثقافية شتى.
وكتب سعيد: “ليست ممارسة نقدية تلك التي تُشَرْعن الوضع القائم، أو تلتحق بصفوف طبقة من الكهنة والميتافيزيقيين الدوغمائيين. إنّ كلّ مقالة في هذا الكتاب تشدّد على الرابطة بين النصوص والوقائع الوجودية للحياة الإنسانية، وللسياسة والمجتمعات والأحداث. ذلك لأنّ حقائق القوّة والسلطة ـ فضلاً عن أشكال المقاومة التي يبديها رجال ونساء وحركات اجتماعية، في وجه المؤسسات والسلطات ومراكز الجمود العقائدي ـ هي عينها الحقائق التي تجعل النصوص ممكنة، وتُسْلمها إلى قرّائها، وتجلب اهتمام النقاد. وإني أقترح أن تكون تلك الحقائق هي الجديرة بأن تكون محطّ اعتبار النقد والوعي النقدي”.
ولقد قصد سعيد وضع تلك الحقائق في صلب الممارسة النقدية، بأشكالها الأربعة السائدة: النقد العملي، كما يتجلى في المراجعات وموادّ الصحافة الأدبية؛ وتاريخ الأدب، كما يُمارس في اختصاصات أكاديمية تدرس الآداب الكلاسيكية وفقه اللغة والحضارات؛ والنقد الثالث القائم على تثمين الأعمال الأدبية، وتأويل مضامينها، ودراسة أشكالها؛ وأخيراً، النقد الذي يستولد النظرية الأدبية، في غمرة اشتغاله على النصوص.
وفي جزء لاحق من مقالته، يتوقف سعيد عند مثال الناقد الألماني الكبير إريك أورباخ، الذي وجد نفسه أواخر ثلاثينيات القرن الماضي منفياً في مدينة إسطنبول، التي كان ينبغي لها أن تمثّل في نظره ـ كأوروبي يهودي هارب من النازية الألمانية، ومتمرس بالآداب الرومانية ـ شخصية “التركي المخيف”، و”الإسلام الرهيب”، والسوط المسلط على الكون المسيحي، وتجسيد الردّة الشرقية الكبرى. لكن أورباخ رأى في المنفى التركي فضاء مختلفاً للعيش والعطاء، ولاح له أنّ النأي عن موطنه ألمانيا هو الذي سيهبه فرصة إنجاز ذلك العمل النقدي الرائع، الذي صدر سنة 1946 تحت اسم “المحاكاة: تمثيل الواقع في الأدب الغربي”، وكان ويظلّ واحداً من أعمق المساهمات حول علاقة الأدب بالتاريخ. أكثر من هذا، يقرّ أورباخ أنّ إنجاز الكتاب لم يكن ممكناً لو أنه بقي في أوروبا، بالنظر إلى حجم ما كان سيخضع له من ضغوطات ناجمة عن شبكات الثقافة الغربية السائدة، المهيمنة عليه والمتقاطعة في وجدانه وبصيرته.
وبعد أمثلة أخرى عديدة، من ماثيو أرنولد وت. س. إليوت وأدباء ومفكرين آخرين، يستخلص سعيد أنّ أمام ناقد هذا العصر أن يختار بين موقعين: التواطؤ مع الثقافة الطاغية، في مختلف صلاتها بأنظمة القوّة وأنساق السلطة؛ أو النظر على نحو علماني منفتح ومفتوح إلى الإنتاج الأدبي في صلاته الوثيقة بالعالم الاجتماعي والسياسي والثقافي. وبين هذا الخيار او ذاك، على اليمين كما على اليسار، ثمة دائماً خطر مسخ المنهج النقدي إلى صنم جامد من جانب أوّل؛ وإلى كتلة إيديولوجية صمّاء يمكن أن تقتل في الناقد روح المقاومة والشكّ والموقف العلماني، فتحيل النقد إلى ديانة أو عقيدة، من جانب ثانٍ.
وأختم بالقول إنّ إدوارد سعيد كان ينتمي إلى تلك القلّة من المفكّرين المعاصرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية وانهماكاتهم، ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه. ذلك لأنه نموذج رفيع للمثقف الذي يعيش عصره على نحو جدلي، ويُدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل، ويُخضع مَلَكة التفكير لناظم معرفي ومنهجي مركزي هو النقد. إنه ناقد، ومفكّر، ومنظّر أدبي؛ وهو يساري، علماني، إنسيّ Humanist، حداثي.
ولكنه كتب نقداً معمقاً بالغ الجرأة ضد يسار أدبي يبتذل الموهبة الإبداعية حين يخضعها للسياسة اليومية أو الطارئة، فينتقصها أو يستزيدها قياساً علي ما هو ليس فيها؛ وكان بين أشجع نقّاد العلمانية الكوزمبوليتية، التي لا تبصر أي عنصر تقدمي في المعتقدات المكوّنة للثقافة والذاكرة الجَمْعية؛ ومارس فضحاً منهجياً صارماً وأصيلاً لنزعة إنسيّة مطلقة، تبدأ من مركزية كونية لكي تصبّ في مركزية غربية صرفة، تقصي الآخر أو تهمشه لصالح ذات أوروبية مؤنسنة على نحو تجريدي مطلق.
كذلك غاص سعيد عميقاً في تاريخانية Historicity الحداثة وفي ملفاتها الثقافية ـ الاجتماعية، لكي يكشف الحدود الفاصلة بين التحديث وقسر التحديث؛ وبذل جهوداً مضنية لكي يكون الخطاب الصادر عن مفكّري ونقاد العالم الثالث (من الشباب بصفة خاصة) بعيداً عن ابتداع مركزية جديدة، تضع الأطراف في مواجهة أحادية عدائية مع المركز الإمبريالي بكل ما ينطوي عليه من إنجاز إبداعي وفكري، هو الذي كان في طليعة من فتحوا ملفات الإستشراق وتخييل الشرق، وأعادوا قراءة فرانز فانون بهدف تكوين جدل نقدي لنظريات الخطاب ما بعد الكولونيالي وحقّ التابع في تمثيل الذات.
وليس بلا مغزى أن ذكرى مرور ثلاثين سنة على صدور “الإستشراق”، تزامنت السنة الماضية مع المأزق البنيوي العاصف في النظام الرأسمالي الدولي عموماً، والأمريكي خاصة. وأجدني أعود إلى رأي سعيد في الماركسية، بل أذهب إلى حدّ الحديث عن ماركسية سعيد، فأتذكّر أولاً أنّ استخلاص منهجية الإستشراق” المركّبة اقتضت الحاجة إلى ماركس، إسوة بأمثال ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي وجوليان بيندا وفردريك نيتشه وإريك أورباخ وجورج لوكاش… وربما قبل هؤلاء جميعهم، لأنّ الصفحة الأولى من الكتاب تبدأ باقتباس عبارة ماركس الشهيرة: لا يستطيعون تمثيل أنفسهم؛ ويتوجّب تمثيلهم».
كذلك أعود، ثانية، إلى حوار أجريته سنة 1995 مع الراحل، حرصت فيه على معرفة موقفه من الماركسية المعاصرة تحديداً، فطرحت عليه السؤال التالي: أنت تمتدح كثيراً عمل ماركسيين من أمثال لوكاش وغرامشي وأدورنو ورايموند وليامز. كيف ترى الماركسية اليوم”؟ بعض إجابة سعيد سارت هكذا: “إنني اليوم أجد نفسي في وضع غريب أحاول فيه إعادة طرح مسألة الماركسية، كأمر يمكن إحياؤه علي نحو انتقائي، بهدف إدخاله في الخطاب المعاصر، سواء في العالم العربي أم في العالم الثالث عموماً، فضلاً عن الولايات المتحدة بطبيعة الحال (…) المسألة عندي هي نفخ الحياة في خطاب معارض هامّ، يقع على عاتقه اليوم واجب العثور على بدائل للإيديولوجيا الماركسية، وللوضعية الجديدة كما يمثلها أشخاص من أمثال ريشارد رورتي، وللنظرة القّدّرية التأملية للعالم، والتي تكتسح العديد من المثقفين هذه الأيام”.
وتابع سعيد يقول: “ثمة حاجة ماسة لإحياء الماركسية كمسألة سياسية وأكاديمية ذات صلاحية في الأزمة الراهنة التي تعصف بالتربية والبيئة والقومية والدين وسواها من المسائل. هذا تحدٍّ رئيسي كما أعتقد، وأجد نفسي معنياً به ومشدوداً للغاية إلى النموذج الذي أرساه أشخاص مثل غرامشي ورايموند وليامز. السؤال أيضاً: أما يزال هؤلاء صالحين اليوم؟ وجوابي الحدسي هو : أكثر من ذي قبل”.
.. وأكثر من ذي قبل، سوف يظلّ إدوارد سعيد نموذجاً صالحاً وقدوة سارية المفعول، في نقد الإستشراق كما في تسليح عشرات المناهج البحيثة والدراسية، التاريخية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية والسياسية، قبل تلك الأدبية والنقدية والثقافية.
(*) قُدّمت هذه الورقة في مسقط، عُمان، بتاريخ 5/10/2010، بدعوة من “سبلة عُمان”، في مكتبة بوردرز.

http://portal.s-oman.net/articles/201010/5507.htm

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى