أبي حسنصفحات مختارة

محاولة في فهم حالة النكوص الراهن

null
أبي حسن
كان من نتائج تضييق النظام الشمولي العربي على المجتمع وحصاره له، من خلال حرمانه من تشكيل الأحزاب والمنتديات والجمعيات، ومنعه من المشاركة الفعلية في الشأن العامّ، أن اتّجهت شرائح واسعة من “المواطنين” العرب نحو التديّن. خاصّة أنّ التسهيلات التي يحظى بها التيّار الإسلاميّ “المعتدل” من قبل النظام العربي تكاد لا تُحصى. وغنيّ عن البيان دوافع السلطات العربية في ما تقدم عليه في هذا الخصوص.
ولئن كان في وجهة النظر تلك الكثير من الصواب، غير أنّه بإمكاننا النّظر إليها من وجهة نظر أخرى. مع يقيننا أن حركة الارتداد والنكوص نحو الأصولية، التي تشكو منها المجتمعات العربية والإسلامية راهناً، هي على صلة وثيقة بالفارق الحضاريّ بين الشرق(بغالبيته المسلمة) والغرب(بغالبيته المسيحية)، وما نتج عن مثل ذلك الفارق من هيمنة غربية أوربية- أمريكية على الشرق.
ولتوضيح مرادي لنفترض أننا صادفنا شخصاً شيوعياً في منتصف خمسينات القرن الماضي(أوج الشيوعية) وسألناه أن يعرّف لنا نفسه، لأجاب دون تردد وبفخر: “أنا فلان وشيوعيّ” دون أن يضيف أية صفة أخرى.
الشخص ذاته نجده عام 2003 أو 2006 أو 2007 في الجامع أو الكنيسة؛ وربما سندهش إذ ما رأيناه أكثر تديّناً من رجال الدين! وقد يقول لك في حال طلبت منه مجدداً أن يعرّف نفسه: إنه مؤمن بالله، ورسله، وملائكته، وباليوم الآخر كذلك، وإنه عربيّ أو كرديّ أو شركسيّ أو مسلم سُنيّ أو شيعيّ أو علويّ أو إسماعيليّ أو درزيّ أو مسيحيّ كاثوليكيّ أو بروتستانتيّ الخ..، مضيفاً هُويّته العرقية أو الدينية، وربما الاثنتين معاً، بافتخار تلحظه جيداً من خلال تأكيدها وتشديده عليها بطريقة لافتة للانتباه!
طبعاً من النادر أن يطرح أحدنا السؤال لماذا أصابته هذه التحولات؟، ولماذا يريد هذا الشيوعيّ السابق تأكيد انتماء مّا، محدداً أكبر قدر ممكن منه كالعرق والدين بما فيه من تقوى حقيقية أو مفتعلة، قدر ما سنستغرب متهكمين، غالباً، تديّن(وربما تزمت) هذا الشيوعيّ(السابق) وتقوقعه!
حقيقة الأمر لا غرابة في هذا، لاسيما إذا ما تأملنا مساحة وفسحة إمكان الفعل والحلم التي كانت مرتسمة في أفق هذا الشيوعيّ الذي كان قاب قوسين أو أدنى من امتلاك العالم معرفياً وثقافياً وعسكرياً وفكرياً وربما تكنولوجياً، في مرحلة من المراحل التي سطع فيها نجم الشيوعية، وهو ما كانت يدفعه إلى الفخر بشيوعيته وتبنيها هُويّة، ومعه الحق في ذلك، كل الحق، فمعظمنا يودّ تبني هُويّة منتصرة! وعملياً هذا ما بتنا نشهده من خلال محاكاة الكثير من شباب العالم الشرقيّ لكل ما يصدر عن ثقافة الغرب وهذه الظاهرة أخافت أبناء الثقافات المنهزمة(الشرق) فأطلقوا، وبشيء من العدوانية، على فرض الغرب لنمطه الثقافي(المنتصر)  تسمية الغزو الثقافي! متناسين أن الإسلام كان في أوجه يمارس غزواً ثقافياً(واقتصادياً وسواه من مفردات الغزو) مماثلاً على الحضارات الأخرى!.لا بل إنه حتى الآن، ورغم هشاشة أفكاره، التي تعاني من فوات تاريخي، وتخلفه الماثل على ارض الواقع ما يزال يحاول فرض وتصدير ثقافته الهشة!
وقل الأمر ذاته، بنسب قد تزيد أو تنقص، في الإسلاميّ أو البعثيّ أو القوميّ السوريّ الذين دفعت المحاكاة بجلّهم إلى تقليد هذا الشيوعيّ أو ذاك الليبراليّ، وما ينسحب على من ذكرت من الإيديولوجيات كذلك ينسحب على رجال الدين والمتدينين.
عودعلى بدء، ورغم ما سلف ذكره،  فهذا لا يعني أن ذلك الشيوعيّ(الافتراضي) الذي كان يعتزّ بشيوعيته، مكتفياً بها، أواسط خمسينات القرن الماضي كان شيوعياً حقيقياً، أو لنقل إنه كان شيوعياً في أعماقه، إذ من الصعب -إن لم يكن من المُحال- سحق أكثر من ألفي عام من المسيحية أو أكثر من ألف وأربعمائة سنة من الإسلام المنغرس في وعي هذا الشيوعي أو ذاك، أو لا وعيه لصالح شيوعية عمرها لم يكن يتجاوز الثلاثين عاماً! هذا فضلاً عن أن الشيوعية لا تنطوي على مغريات ما ورائية مثل الدين سواء كان مسيحياً أم إسلامياً.
ومن الملاحظ أن العقل الإسلامي، خاصة حال كان عربياً، فإنه يميل ويجنح، بشكل عام، نحو الغيبيات أكثر من سكونه وركونه إلى الواقع والمعاش وحتى المعقول! وأذكر هنا ما قاله لي ذات مرة أحد المفكرين المعاصرين، إذ قال بما معناه: “مع أن مانفيست الطائرات يؤكد أن الانتحاريين الذين قاموا بتفجير الطائرات في 11 أيلول 2003 هم فلان وفلان من تنظيم القاعدة إلا أن غالبية المسلمين لن يصدقوا هذا. لكن لو أن ابن لادن قال، على سبيل الافتراض: من بعد أن توضأت وصليت، جاءني رسول الله في المنام قائلاً لي هيئ نفسك يا أسامة لضرب برجي التجارة العالميين في نيويورك. فثق تماماً أنه حينها سيصدّق ابن لادن الكثير من المسلمين والعرب، لماذا؟ لأنهم أمة مهزومة، والأمة المهزومة تحب الميثيولوجيا والأساطير”.
إذاً هزيمة الشخص تدفعه لاعتناق غيب ما، أو تشجعه للاكتفاء بالانطواء تحت جناح طائفته الدينية أو شريحة اجتماعية ما قد تحقق له الأمان والاطمئنان الذاتيين، لاسيّما في حال كانت ثقافته آفلة وغير قادرة على النهوض به، كي لا نقول إنها أعجز عن مواجهة الآخر المنتصر. وفي الإجابة سابقة الذكر للمفكر الذي نعني ما يُفسر فعلاً –لا قولاً فحسب- سبباً مهماً من أسباب انكفاء الوعي الإسلامي راهناً، واستكانته واستكفائه بالماضي! ولنا هنا أن نتساءل إن كان الشخص الفرنسي، على سبيل المثال، يشكو من هذا النكوص. قطعاً لا يشكو منه لأنه منتصر، وبهذا المعنى ربما كانت الثورة الفرنسية لا تعني له شيئاً على أرض الواقع راهناً!
ولعل في الحادثة التالية التي رواها لي أصدقاء شيوعيون(سابقون) من سوريا ما يزيل أي إبهام حول الكثير مما نتوخاه. تقول الحادثة، وهي حقيقية، أن سلطات جمال عبد الناصر ألقت القبض على شيوعيّ سوريّ في مدينة حمص إبان فترة الوحدة السورية المصرية(من المعروف أن الشيوعيين كانوا ملاحقين آنذاك)، وقد كان من باب الصدف ان الذي يحقق مع الشيوعي قريبه وجاره في الحي والذي لم يكن على علم بكونه شيوعياً، وعندما سأله في التحقيق وبجدية إن كان شيوعياً أم لا؟ أجابه بطريقة جازمة وحاسمة  بالنفي، بعد لحظة من الصمت نهض المحقق ووضع يده على رأس جاره الشيوعيّ قائلاً له بالحرف: “بصلاة محمد أنت شيوعي وإلا مانك شيوعي؟” آنذاك اعترف له أنه شيوعيّ. وعندما سُئل ذلك الشيوعيّ من قبل رفاقه عن سبب تصرفه ذاك، أجاب ببساطة: “أنا شيوعيّ منذ ثلاث سنوات فقط، لكنني مسلم منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام”!
قد تكون من أشدّ الأخطاء جسامة التي وقعت بها الحركات والأحزاب الشيوعية واليسارية والعلمانية الأخرى، أنها لم تُقم للعصبيّة وزناً في مجتمعات متخلفة تاريخياً ومصابة بالأمراض الاجتماعية والمجتمعية التاريخية التي نعرفها، لكننا عادة ما نغض النظر عنها أو نكابر على الاعتراف بها وبوجودها في أعماق كل شخص منا. فضلاً عن أن نمط إنتاج هذه المجتمعات لم يتغيّر بعد، وهو في مجمله زراعي أو صناعي شبه بدائي أو تجاري ركيزته السمسرة والمحسوبية، وإن تغيّر فتغيّره محدود.
ولم تدرك تلك الأحزاب والحركات مدى تغلغل العصبية وموروثها الهائل القابع في البنية النفسية للشرق وأبنائه، ذلك الشرق الذي لم يتصالح مع العقل بعدُ. ولأنها لم تدرك أهمية العصبية ودورها وحتى فعلها، كان أن وقعت في أخطاء التعميم ومن ثم التضليل، وإن كان تضليلاً غير متعمّد إلا أنه انعكس سلباً عليها وعلى مجتمعاتها التي باتت تعيش حالة انفصام حاد بين موروث يجذبها وحضارة غربية ترنو بناظريها إليها.
وللتدليل على صحة مزاعمنا، حول تجاهل دور العصبية من قبل الأحزاب العلمانية، لنأخذ مثلاً على ذلك الحزبان الشيوعيان العراقي والسوداني(وقد كانا أهم وأكبر حزبين شيوعيين عربيين) ولننظر الآن في ذينك المجتمعين –السوداني والعراقي- راهناً ولنسأل أنفسنا: أين تأثير الشيوعية في وعي أبناء ذينك المجتمعين! لا بل قد وصل التخلف بالسودان إلى درجة أصدرت معها محكمة ابتدائية بتنفيذ “حدّ الرجم حتى الموت على امرأتين بتهمة ارتكاب الزنا” وذلك تماشياً مع قوانين الشريعة الإسلامية السارية في السودان منذ عام 1983.
ومن نافل القول، أن أتباع تلك الأحزاب والحركات العلمانية قد وقعوا أيضاً في خضم من شوفينية قاتلة، لكن، ربما، كانت لها مبرراتها في حينه، كالانتصار وتحقيق الذات وانطواء تلك الذات على إمكانات كانت تبدو هائلة تكاد لا تعرف حدوداً! غير أنه ما إن زالت تلك المبررات حتى عاد “الرفاق” من هنا وهناك إلى قوقعاتهم الأولى. ترى ما السبب في ذلك؟ حقاً ما هو السبب في ذلك؟
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى