صفحات سوريةعباس عباس

المجتمع المدني وثقافة الديمقراطية

 عباس عباس

إذا صحَّ أن من الأشياء ما ليس يوهب، فأهم هذه الأشياء هو الحرية

عبد الرحمن الكواكبي

ما من شك في أن مفاهيم عامة ذات دلالات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأخلاقية وعملية، من مثل الحرية والليبرالية والديمقراطية والعلمانية والمجتمع المدني والدولة والسلطة، وما إلى ذلك من قضايا ذات صلة، كانت وما تزال مثار جدل طويل سواء في حقلي النظرية أم الممارسة. ولعل اختلاف الرؤى والمقاربات وتعددها ناجم أساساً عن عوامل عدة ليس أقلها تنوع المرجعيات والخلفيات التاريخية وزوايا النظر وتفاوت الظواهر والتجارب المعاشة،
خصوصاً وأن كلاً من هذه المفاهيم خضعت لصيرورة تاريخية من حيث النشوء والتطور والمآل. ونظراً للتعقيد الذي تنطوي عليه هذه الإشكالية فثمة تحفظ منطقي، وربما شك، في إمكانية التوصل إلى تعريف جامع مانع  لكل من هذه المفاهيم، وليس هذا هدفنا الآن، إلا أن  ذلك لا يحول دون أهمية الإحاطة بجوهرها والتوافق حول المبادئ العامة. وقد يكون الأهم بالنسبة لنا، في هذا السياق، وفي ظل المتغيرات العالمية والإقليمية الراهنة، الحبلى بالاحتمالات، تناول أهم الأولويات وأكثرها إلحاحاً على صعيد الوضع العربي عامة، وفي كل بلد على حدة، وهي مهمة التحول الديمقراطي، بما توفره من مقدمات لحلول حقيقية، غير سهلة، للكثير من المشكلات التي تواجه مجتمعاتنا على مختلف الأصعدة. ولأن هذه المهمة تعني الجميع، فلابد أن يشارك فيها كل من يعتبرها بديلاً شرعياً لعهود وثقافة الاستبداد المعششة طويلاً في تراثنا الفكري والديني والاجتماعي والسياسي. وإذا ما نظرنا إلى الديمقراطية بوصفها ثقافة ونمط حياة وعملية كلية وجمعية أساساً، نكون قد وضعناها على سكتها الصحيحة، نظرياً في البدء، تمهيداً لإخراجها من الإطار النخبوي، الثقافي والسياسي، إلى فضاء التأميم المتاح للجميع. وفي سياق النهوض بالعملية الديمقراطية، بأثافيها الثلاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد تتقدم إحدى الأولويات على سواها في لحظة تاريخية محددة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة تجميد العمل بالمستويين الأخريين. رب قائل “إن النظام السياسي الديمقراطي يؤدي إلى مجتمع الكفاية”، وآخر: “إن ديمقراطية الفقر والتمايزات الطبقية الحادة لا تتوافر على عوامل الاستقرار والديمومة”، وثالث: “لا تُبنى الديمقراطية في غياب الثقافة المدنية والقيم العقلانية والفردانية والتعددية داخل المجتمع”. في الواقع تستحق هذه المقاربات الافتراضية كلها النقاش والتدقيق والتعميق، إلا أن أياً منها لا يمكن أن تكون كافية بذاتها؛ بل ثمة ضرورة للربط الجدلي في ما بينها جميعاً. لأن التحرر السياسي وحده لن يكفي للتخلص من أشكال الغبن الاجتماعي والاقتصادي؛ بل إن استمرار هذه الأشكال يعتبر بحد ذاته إضعافاً للممارسة الديمقراطية في الحقل السياسي نفسه، من منظور ارتباط المساواة عضوياً بالديمقراطية، وكذلك علاقتها بالإرادة الحرة للمحكومين؛ أي المساواة في جميع الحقوق بغية تحسين الشروط الإنسانية للبشر. فالديمقراطية ليست مجرد شعار يُتغنى به، أو افتراضاً نظرياً في الفراغ، بل هي تعبير فعلي عن مصالح محددة ووعي وقيم وموازين قوى. وتفترض الثقافة الديمقراطية أولاً، الاعتراف بالآخر المتغاير بوصفه كينونة إنسانية وفكراً ومعتقداً وذاتاً بشرية مستقلة، وثانياً، تبنِّي ما أنتجته الحضارة البشرية من أخلاق كونية جديدة تحض على الحرية والمساواة والتعاون والتوافقية. كما تقتضي، بالمقابل، نبذ العنف والتكفير والاستتابة والإقصائية وأحادية الخطاب أيّاً كانت المزاعم والحجج التي تقف وراءها، وأياً كانت تمظهراتها وحواملها، سلطوية أم حزبية أم فئوية أم طائفية أم دينية أم عرقية.

 

لا ضير، كما أعتقد، من التطرق إلى مسألة قد تكون جزءاً من العقبات التي ينبغي مواجهتها، وهي أن غالبيتنا متحدِّر من أيديولوجيات أصولية قومية أو دينية أو ماركسية، أو من تجارب سياسية ـ حزبية أساساً ـ تتسم، وبدرجات متفاوتة، بالمركزية والبيروقراطية وزعم امتلاك الحقيقة ومجافاة العلمانية أو التديُّن بها، كما تنطوي على قدر كبير من الروح العصبوية والإقصائية والاستيعاب القسري والخوف من المختلِف. وإذا كانت السنوات الأخيرة التي تلت انهيار المنظومة الاشتراكية، وسيادة ما يسمى القطب الواحد، وانتشار ظاهرة العولمة وثقافتها والتغيرات الهائلة المرافقة، قد دفعت معظم إن لم يكن جميع النخب الثقافية والقوى السياسية التقليدية في معظم بلدان العالم، بما فيها منطقتنا العربية، إلى التعجيل في طرح وتبني أفكار لم تكن مدرجة سابقاً ضمن أولوياتنا: الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان،  فقد بدا الأمر كما لو أنه ـ ولا ضير في أنه ـ تكفير سريع عن ماض لا ديمقراطي كنا مساهمين فيه إلى هذا الحد أو ذاك، أو اعتراف خجول بغياب الإرث الديمقراطي داخل المجتمع، وبالتعدي، داخل هذه القوى وفيما بينها على السواء. فهل هذه الثمرة سقطت فجأة من تلقاء نضجها، أم أنها كانت محرَّمة علينا فيما سبق بحكم العقلية السائدة التي طالما عبَّر عنها الكثيرون، وفي مقدمتهم أنظمة الاستبداد، بأنها فكرة “مستوردة” و “دخيلة” على مجتمعاتنا التي “لم تنضج بعد” و “تزعزع الوحدة الوطنية” و “تخالف تقاليدنا وأعرافنا” التي جُبلنا عليها. لعلَّ الوجه الآخر لهذه الحقيقة أنها جعلتنا أكثر حساسية لمسألة الحريات عموماً، وربما أكثر شعوراً بأهميتها، جرَّاء التاريخ المديد لطغيان الأنظمة العربية قاطبة وممارسة مختلَف ضروب المنع والتضييق والملاحقة والاعتقال والمحاكم الاستثنائية وفرض حالة الطوارئ بأعتى صورها ضد كل أطياف المعارضة وفي شتى الميادين فكراً وثقافة وفناً وسياسة. وفي ظل المتغيرات إياها، حتى هذه الأنظمة وجدت نفسها مضطرة للتفكير بإدارة أزماتها المركبة بطرائق مغايرة والبحث عن مسوغات جديدة لشرعيتها، مدركة أنها ما عادت قادرة على إعادة إنتاج قوى شمولية مماثلة لتلك التي كانت سائدة في السابق. الأمر الذي أوصل هذه الدول إلى أزمة مركبة: أزمة سلطة، وأزمة ضعف المجتمع المتمثلة في افتقاره إلى أبسط حقوقه الدستورية وغياب المؤسسات المدنية المعبِّرة عنه والأطر القانونية الضامنة لممارسة حقوقه وواجباته. وبقدر ما ينبغي الوقوف أولاً على هذه الحقائق المتعلقة بالسلطات السياسية في بلداننا، يجدر بنا أيضاً الانطلاق من الذات، والنأي بأنفسنا عن التنميط المسبق الذي كان حتى وقت قريب النتاج الطبيعي لتلك القوالب الأيديولوجية الجاهزة. كما أننا معنيون بإعادة إنتاج جلَّ المفاهيم التي حملناها سابقاً، وكذلك التمعن في تلك التي نؤسس لها راهناً والتثقيف بها وتعميقها، ونقلها بالتالي من جلالتها النظرية في الأذهان إلى ميدان الدعاوة والممارسة. فالعمل المباشر بالديمقراطية، لا الحلول السحرية، هو المؤهل للتعامل مع الموروث الاستبدادي والتراكمات التاريخية والراهنة، التي تشكل في معظمها عناصر ممانعة حقيقية في وجه الدقرطة والإصلاح.

 

   واعتقاداً مني بأننا “كلنا في الهوى سوى”، من المحيط إلى الخليج، مع حفظ الفروق الكمية، لكن المهمة أحياناً، بين مجتمعاتنا واختلاف أشكال الحكم بين بلد وآخر، أو طبيعة النظام السياسي في كل بلد، والصيرورة التي تشكلت فيها هذه الدول منذ الاستقلال، فلا بد لنا أيضاًً من تلمُّس ما خلَّفته الأنظمة حتى الآن على مجتمعاتنا من خواء فكري وسياسي وثقافي وأخلاقي، ومن آثار سلبية أتلفت بناها وقواها الحية واخترقت نسيجها البنيوي أفقياً وعمودياً، فأضعفت حس الانتماء والمواطنة لديها، وأحدثت قطيعة ظلامية شبه تامة مع قبس النور الذي ظهر ذات ماضٍ، وجعلتها في أحسن الأحوال أقرب إلى مجتمعات أهلية مفككة، تدين بولائها إلى الرموز والأفراد والعشيرة والطائفة والإقليم، لا إلى الوطن. هذا التآكل التدريجي في روح المواطنة الناجم عن القضم المتواصل لمقومات الدولة، القاصرة أساساً، أحالنا في أحسن الأحوال إلى رعايا في ممالك وجمهوريات وراثية محتكَرة داخلياً ومستباحة خارجياً، أو، حسب تعبير الدكتور الصادق المهدي: “جعلنا عرضة للغلاة والغزاة على حد سواء“.

 

   حين نتحدث عن ’مجتمع مدني وثقافة ديمقراطية‘ فإننا نبدأ من الصفر أو ما يدانيه، وذلك بسبب افتقارنا إلى هذين التوأمين، وإلى رحمهما الصحي: الحرية، وإلى القابلة المولدة لهذا المناخ: الدولة الطبيعية. فالمجتمع المدني ليس ظاهرة عرضية، ولكن كي يعبر عن نفسه، هو في حاجة إلى وجود دولة قانون تتسم بالروح العلمانية ولها دستورها النافذ ومؤسساتها وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية بدرجة من الاستقلال والنزاهة والتكامل والحيادية. أي أن تكون دولة مؤهلة لرعاية المصلحة المجتمعية العامة والدفاع عنها، ومتوافرة على نواظم وتشريعات وآليات عمل من شأنها أن تستوعب الفسيفساء القومية والدينية والطائفية، وتكفل بالتالي تحقيق المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون من حيث الحقوق والواجبات والمسؤولية والحريات العامة وسلامة الأفراد والجماعات وتعزيز أواصر الدمج الاجتماعي والسلم الأهلي. وهي البديل عن سلطة قائمة على الاستثناء والأحكام العرفية والأجهزة الأمنية والحزب الواحد والتفرد بصنع القرار والإلزام والإكراه ونهب الثروات والفساد والإفساد والترهيب والترغيب والمحسوبيات، التي تشكل بمجملها عناصر استمرار بقائها. وبقدر ما تسعى دولة كهذه إلى تنظيم شؤون مواطنيها واحترام حقوقهم وتلبية حاجاتهم ومصالحهم الحيوية المشتركة وإبقاء سلطتها السياسية ضمن الأطر المحددة في الدستور والقوانين، بقدر ما تنشأ علاقات مواطنة فاعلة ويتعزز الانتماء وتتماسك الوحدة المجتمعية بالوعي والمصلحة في آن معاً.

 

   في هذا الصدد، برزت وتبرز دائماً إشكالية ناجمة عن الالتباس، المتعمد لدى البعض، الذي يماهي بين مفهومي الدولة والسلطة، واستتباعاً فإنه يعتبر أن المجتمع المدني بحكم منظماته وهيئاته غير الحكومية ونشاطاته المستقلة عن الدولة، إنما يسعى إلى تقويض الدولة، وفي أحسن الأحوال، يندرج في الخانة العدائية لها!! إن أقل ما يقال عن هذا الرأي إنه مجافٍ للحقيقة، فالمجتمع المدني لا يمكن أن ينشأ ويعيش بصورة صحية في ظل غياب الدولة أو خارجها أو فوقها؛ ولكي يتطور، لا بد من أن يعترف كل منهما بالآخر. ولكن، نظراً للممانعة التي تبديها أجهزة السلطة، خصوصاً في النظم الديكتاتورية، وتحويل مؤسسات الدولة إلى مجرد أدوات في يد السلطة، كما هو قائم حالياً، فإن صيرورة التطور الديمقراطي، جنباً إلى جنب مع ولادة مؤسسات المجتمع المدني وتزايد نفوذها وتقدم أدائها ودفاعها عن حقوق الأفراد ومصالحهم، سيتطلب العمل على تطويع هذه الممانعة أو خلخلتها، وهي مرحلة قد تشهد موجات متتالية من المد والجذر والتعارض والتجاذب والاصطفاف. صحيح أن بنى المجتمع المدني لا تعدو كونها أدوات لخلق فضاء من شأنه تحسين شروط الحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها تشكل في حد ذاتها قوى موازية، متفاعلة مع ومؤثرة في أداء الدولة الشرعية الحديثة، وتسهم في بناء أطر جديدة تلائم هذه الدولة وتستجيب لحاجات المجتمع. كما تمارس رقابة ديمقراطية على الأحزاب والدولة وتعمل على الحد من سيطرة هذه الأخيرة على النقابات والاتحادات والهيئات والمنظمات الخاصة بالمجتمع المدني، وتساعد في رفع سوية التفاعل بين قوى المجتمع، وتقيِّد إمكانية انزياح دور الدولة إلى مجرد أداة سلطوية متحكمة، وبهذا المعنى يبرز تناقضها وصراعها مع تلك الأجهزة.

 

   وبالنظر إلى أن العملية الديمقراطية هي قضية مجتمعية، من حيث الأساس، أكثر منها شأن دولة، فإن صمام الأمان الأهم فيها هو أن تتشكل حواملها من أناس مدافعين قولاً وفعلاً عن هذا البديل، ومتوافقين على مرجعيات متفاعلة وقابلة للتأثر والتأثير، وتوفر المناخ والإدارة الصحيحين للاختلاف والحوار بعيداً عن الثنائيات الحادة والمطلقات والقوالب الجاهزة. وعلى ضوء التعقيدات التي أشرت إليها، والملاحظات التي سأوردها لاحقاً، وانطلاقاً من التباينات النسبية في الساحات العربية التي شهد بعضها خلال العقدين الأخيرين تغيرات ملموسة (انتخابات ديمقراطية نسبياً، قوانين أحزاب، جمعيات ومنظمات غير حكومية، روابط نسائية مستقلة الخ..)، كما في فلسطين والمغرب ومصر والأردن ولبنان وتونس وبعض دول الخليج، أرى أن المرحلة القادمة تتطلب تحديد خطوات أساسية وعملية. وبالتالي، فإن السؤال المطروح أمام كل دعاة الديمقراطية في المنطقة العربية هو: ما العمل؟! واعتقاداً مني بأن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب مساهمات فردية وجماعية على حد سواء، فإنني أطرح الآن ما أعتبره أولويات عامة تندرج في سياق مهمة التحول الديمقراطي بغض النظر عن الطابع الخاص أو الشكل العياني الذي ستتخذه في كل  بلد على حدة:

 

البدء بالخطوات التدريجية الصغيرة والتفاصيل التي تعتبر ملح النشاط الديمقراطي اليومي، وذلك في إطار مهام محددة وملموسة، ومنها إلى حقول أوسع ودوائر اجتماعية أعرض. فقبل أن نضع برنامجاً عاماً للحريات والديمقراطية ينبغي علينا أن نحدد خطة عملٍ ومناهج لتعلم الديمقراطية والحوار والإصغاء والتأسيس لفكرة احترام الرأي الآخر، وكيفية انتزاع الحقوق وصياغة المطالب.

 

في معظم مجتمعاتنا العربية، وبقدر حاجتنا إلى استعادة حقوقنا السياسية، نحن في حاجة أولاً إلى إحياء الدساتير وإعادة الاعتبار لها والتوعية بها، وترسيخ مفهوم المواطنة الذي يعني عودة الناس إلى الشأن العام والارتباط الوثيق بالمجتمع المدني بديلاً عن سياسة التهميش والتجهيل والإلحاق والحلول الفردية والخوف وروح اللامبالاة والتسيُّب.

 

بذل جهد مميز للدعاوة الديمقراطية وتعميم قيمها كي تصبح أكثر ملموسية وتحظى بقبول الناس وتأييدهم بصورة متزايدة، وذلك من خلال التواصل المباشر وعن طريق وسائل الإعلام المتوفرة. وإصدار دراسات وكراريس وشروحات مبسطة قابلة للوصول والفهم، بديلاً عن الوصفات والأطر الجاهزة.

 

من الملاحظ أن غالبية المؤسسات المدنية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان في المنطقة العربية تتعرض لمضايقات سياسية وأمنية ومحاولات اختراق على أيدي أجهزة السلطة، وتعاني من ضعف الخبرة والافتقار للتقاليد المدنية والديمقراطية. كما أن العديد من أفرادها ما يزالون أسرى العقلية الحزبية ومتأثرين بعطالة العمل السري والبراغماتية السياسية وعرضة لوصاية بعض أحزاب المعارضة، الأمر الذي يقتضي الحذر من جهة، والعمل على إعادة التكوين الذاتي والتأهيل والتعلم والتدريب وتبادل الخبرة وعقد اللقاءات وخوض الحوارات مع المنظمات العربية والدولية الأخرى.

 

تعميم الثقافة العلمانية، وبذل الجهود اللازمة لإدخالها في المناهج المدرسية، للمعلم والتلميذ، باعتبارها “انفتاحاً على العوالم المعرفية” ونقيضاًً للامتثالية والخضوع، وظهيراً قوياً للتحول الديمقراطي، بغية خلق ما يسمى “المجتمع المدرسي” المنفتح والمتنوع، لعلَّنا نُحدث قطيعة فعلية مع عقلية التدجين ومنطقه اللذين شكَّلا تاريخياً الماركة الأيديولوجية الشمولية لمعظم الأنظمة والأحزاب العربية. 

 

المبادرة إلى تنويع حقول النشاط في ميادين جديدة، وإيلاء اهتمام خاص لقضايا الطفل والمرأة والبيئة، وتعميم تجربة المنتديات الاجتماعية والثقافية والسياسية، بوصفها قنوات هامة للتواصل واختبار مدى تعلمنا وتقدمنا في حقل الممارسة.

 

  ضرورة التنبُّه إلى ما تروجه بعض الأنظمة، وخاصة على ضوء الحدث العراقي، عن أن الديمقراطية التي يريدها الآخرون، والمتمثلة في الضغوطات الخارجية والمشاريع التي تُطرح بين وقت وآخر (الشرق الأوسط الكبير مثلاً) لن تؤدي إلا إلى تهميش السيادة الوطنية والانفلات والفوضى المجتمعية. وما ينبغي التأكيد عليه من قبلنا هو أن الديمقراطية التي نريد نابعةٌ من أوضاعنا الذاتية وحاجتنا الماسة إلى تطوير بُنانا المجتمعية والإمساك بأقدارنا بصرف النظر عن أية مزاعم، خارجية أم داخلية، فهذه ليست سوى ذرائع للتهرب من دفع الاستحقاقات المطلوبة، بدليل أن الحكومات العربية لم تتقدم بأية برامج أو مبادرات إصلاحية بديلة، ولم تفعل أي شيء سوى مناصبة العداء وكيل التهم لكل دعاة الإصلاح، بمن فيهم أولئك الذين خرجوا من جلدها لا عليها. فالتحول الديمقراطي لا يتناقض مع السيادة الوطنية والتنمية وتحرير الأرض إلا بمقدار تحوُّل هذه الأوطان إلى إقطاعات وملكيات خاصة.

 

إن تخصيب المناخ العام والتحديد الدقيق لخيارات البشر وتحسين شروط نضالهم وتلاقي مصالحهم المشتركة، بوصفهم كلاً مجتمعياً لا مجرد أفراد متضاربي المصالح والانتماءات، كلها تشكل لبنات أساسية على طريق تطوير المعايير الديمقراطية. وبهذا المعنى ينبغي الحذر من “الأيديولوجيا الشمولية الممثَّلة بقوى اجتماعية أو سياسية, ومن أي طبيعة كانت، سواء داخل السلطة أم خارجها، مخافة أن تتحول هذه الأحزاب “إلى مجرد أدوات انتخابية، بحكم ميلها البنيوي إلى السيطرة على آلة الدولة وجعل عقيدتها رسمية واحتكار أجهزتها ومؤسساتها الاقتصادية والتعليمية والإعلامية بذرائع مختلفة: الوحدة الوطنية، الخطر الخارجي، الحفاظ على قوة الدولة وهيبتها بغية إعادة إنتاج نظام شمولي كانت تتنطع لمناهضته سابقاً”. ومن هنا تتأتى أهمية التأسيس لمبدأ تداول السلطة سلمياً عبر صناديق الاقتراع، وضمان حق المعارضة في الوجود والنشاط، واحترام القناعات الضميرية الفردية، ومراقبة الأداء السياسي والتنظيمي للأحزاب، بما في ذلك درجة التزامها بلوائح تضمن ممارسة الديمقراطية داخلها وتسمح، عبر قنوات محددة، لوجهات نظر الأقلية الحزبية بالتعبير عن نفسها دون أية قيود، لأن الحزب الذي لا يتمتع أعضاؤه بحياة ديمقراطية فعلية لا يمكنه أن يكون ديمقراطياً حيال الآخر.

 

اللجوء دوماً إلى ممارسة الأنشطة عبر الوسائل الديمقراطية السلمية بوصفها الخيار الأمثل، ونبذ العنف وثقافته، ونزع الذرائع من الأجهزة الأمنية، كما وقطع الطريق على افتراءاتها وتدخلاتها.

 

التعاون والتنسيق والتشبيك بين المنظمات المدنية غير الحكومية وتنظيم حملات للضغط على الحكومات، خصوصاً تلك التي ما تزال ترفض أي نشاط مستقل عنها، وتقديم تقارير دورية عن انتهاكاتها، مشفوعة بالأرقام والوقائع من أجل إحراجها أمام الرأي العام المحلي والعربي والدولي.

 

إن الطابع العام للنشاط المدني العربي ما يزال تقريباً ضمن إطار النخبة، بوصفها القشرة الثقافية والسياسية المتحركة حتى الآن. هذه الملاحظة تقودنا إلى أولوية، حاضرة نظرياً بقدر غيابها عملياً، وهي ضرورة الدخول إلى فضاءات شعبية وقطاعات اجتماعية جديدة أوسع. فمثلاً، بحكم الهامش المتاح أمام بعض المؤسسات الدينية، (مدارس ومعاهد وجمعيات خيرية وروابط وأخويات وصحافة ومجلات وأحياناً محطات تلفزيونية)، في العديد من البلدان، يمكن لدعاة الديمقراطية والسلم الأهلي من الإسلاميين والمسيحيين على السواء، كما من الأقليات القومية، أن يشكلوا رديفاً حقيقياً للمنظمات المدنية والأحزاب، ولعلهم أقدر من سواهم على اختراق النسيج الاجتماعي اللصيق بهم والتأثير في مواطنيهم، لجهة الدعوة الأصيلة لتقبل الآخر والتعايش معه وإزالة الخوف التاريخي مما يُدعى “خصوماً مفترضين” والتحرر من وهم “الغول” المُختلق، والتأسيس لإعادة الثقة بين مختلف الأطياف، وتحرير الطاقات، وتوظيفها في موقعها الطبيعي كمقدمة ضرورية لاستيعاب فكرة المصلحة العامة و”الشراكة بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات”، بعيداً عن الصراعات الجانبية التي تنعكس وبالاً على الجميع، وتشغلهم عن أولوياتهم الأساسية.

 

التأسيس لمقاربات جديدة تؤكد على ضرورة التعامل مع النتاج الثقافي العالمي بعيداً عن الدونية أو الفوقية، والتنبه إلى خطورة فكرة صراع الحضارات أو الأديان التي تغذيها وتعتاش عليها بعض القوى الظلامية في الغرب والشرق على السواء.  

 

التأكيد على أن مسألة حقوق الإنسان وحمايتها أصبحت قضية عالمية ولم تعد شأناً محلياً داخلياً، وهي جزء لا يتجزأ من الحقوق والحريات العامة للمواطن التي أقرتها، من حيث المبدأ، معظم الدساتير والتشريعات الوطنية العربية، والشرائع الدولية التي صادقت عليها غالبية الدول العربية، وبالتالي فإن الاستناد إليها يشكل خط الدفاع الأول عن النفس، وترجمة فعلية لمشاركة المواطن في الحياة العامة وإدارتها والتزامه تجاه الدولة، ومن جهة أخرى يلزم الدولة بتنفيذ التزاماتها حيال الفرد.

 

 

 

ما قدمتُه في هذه القراءة المكثفة لما يشكل المناخ العام للوضع العربي، والخطوات العملية التي يمكن القيام بها، أعتبره مساهمة متواضعة، تتطلع إلى المزيد من الجهود الجمعية. ولأن “أهل مكة أدرى بشعابها”، فإن المبادرة إلى تقديم مساهمات ميدانية، فردية أم جماعية، عن كل بلد على حدة، تشكل في حد ذاتها إغناء فعلياً وإحاطة أكبر بتشخيص الوضع العربي بمجمله، الأمر الذي يساعدنا جميعاً في وضع اليد على الجرح، لعلّناَ نتوصل إلى ضماد يليق بإنسانيتنا المكلومة ويعيدنا أصحاء إلى سكة القول والفعل كي نساهم في خدمة ما نعتبره حقنا وواجبنا في بناء مستقبل أوطاننا.

 

/ سوريا

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى