صفحات الناس

شوارع سورية (صامتة) من فئة خمس نجوم

null
مازن شريف

قبل عقود قليلة من الزمن تميز الشارع السوري بالنظافة باستثناء بعض الفاسدين واللصوص الصغار في أزقة وحارات المدن الكبيرة .

وكان الشارع أشبه بمحطة لعرض الأزياء وأناقة النساء والرجال حيث يتعرف المجتمع على شخصيات كل مدينة وبلدة من خلال تنزههم في تلك الشوارع التي تفوح منها رائحة العطور كل حسب إمكانياته.

ومن هذا الشارع انطلقت الحركات الاجتماعية والثورات والمظاهرات والاحتفالات بالأعياد والمناسبات الوطنية وكان لها نكهتها الخاصة وبعدها الإنساني والوطني.

واليوم تغير مظهر هذا الشارع ليس بسبب ارتفاع أرصفته ولا بنوعية الإسفلت بل باكتسائه حلة جديدة غابت عنه مظاهر الأناقة ورائحة العطر وازداد فيه عدد الفاسدين واللصوص وتوقفت بهجة الأعياد والمناسبات لتكون كابوسا على أغلب الأسر السورية.

ونتساءل كيف تغيرت الأمور والى أين وصلت؟

يقول الراوي :

لقد انتقل اللصوص والفاسدين من أبناء الشوارع إلى قصور فخمة في أحياء من فئة (5 نجوم) تسكنها (سيدات) ، تلك القصور الممتدة على طول الشوارع في حارات رسمت وخططت لتناسب أذواق هؤلاء.

صاروا في قصورهم الجديدة يخططون ويراقبون تدعمهم قوات حرس كبيرة العدد على بواباتهم لان سرقاتهم لم تعد من الجيوب مباشرة بل من الدخل الوطني من المناقصات ومن الرشاوى وصاروا هم أصحاب القرار، وغيروا أسماء الشوارع حتى غاب عنها الياسمين.

كانت المقاهي مليئة بالمثقفين والكتاب الذين بالكاد يسددون فواتير جلساتهم في تلك المقاهي بما كانوا يتقاضونه من نشر مقالاتهم الأدبية والفكرية، أما اليوم فقد تحول البعض من هؤلاء إلى كتاب لتلك القصور والمؤسسات ولم تعد تهمهم طريقة تسديد الفواتير لأنها أصبحت تدفع سلفا كل حسب جدية ولائه وإطرائه.

ولم يعد هؤلاء الكتاب ينصرفون إلى شاطئ البحر أو إلى المقاصف أو إلى الأماكن السياحية الهادئة لتخلق لهم أجواء مواتية للكتابة والإبداع بل صارت وجهاتهم إلى أوروبا وأمريكا وأماكن أخرى في هذا العالم حيث يقيمون في فنادق من فئة 5 نجوم وما فوق.

وغاب عن هؤلاء الهم والغم في الإبداع لان محتوى الكتابة صار على قدر حجم المدفوعات وكلها آتية من عائدات جيبي وجيبك أيها المواطن (المعتر).

تفاقمت البطالة وصار الأطباء والمهندسين والمدرسين وغيرهم يقفون بالصف أمام مكاتب الهجرة في السفارات الأجنبية بحثا عن لقمة العيش وحياة أفضل.

كنت وصديقي نتمشى في أحد الشوارع الكبيرة في سورية وبالصدفة التقيت شخصا عرفته منذ أكثر من عقدين من الزمن سلمت عليه.. فبالكاد رد علي وهو يسألني من أنا، وعرفته عن نفسي لكنه كان جافا جدا في رده … عندها تدارك صديقي الأمر ليقول لي انه (الدكتور فلان)، فسلمت عليه بصفته الجديدة، فرد السلام بشكل جميل وقال لي نعم تذكرتك أهلا بك أين قذف بك الدهر؟

لقد تحول هؤلاء إلى دكاترة القرن الواحد والعشرين كلهم يحملون شهادات دكتوراه من دول أوروبا الشرقية التي لا يعرفون أين تقع على الخريطة أو حتى اسمها الصحيح حتى أن اغلبهم لم يكلف الدولة بشيء بل قاموا بإرسال تجار الشهادات لإحضارها بأقل تكلفة وصاروا دكاترة آخر زمن.

وتلتقي آخر كان يعرف كل شاردة وواردة في أماكن بائعات الهوى وصار متدينا حتى العظم لحيته تجثو على ركبتيه وتسلم عليه فيرد عليك السلام الذي يستمر لفترة طويلة هي نفس الفترة التي قضاها ليتعلم أصول الدين حتى صار متدينا.

وآخر كان يسير على قدميه حتى يصل منزله قادما من العمل ليوفر أجور وسائط النقل ليشتري لعبة لأطفاله صار اليوم ينتظر سائقه ليفتح له باب السيارة الخلفي وهو يهرول للنزول من السيارة ليسرع في دخول قصره الصغير.

وآخر كان لا يعرف الهاتف حتى صار اليوم يبدل هاتفه (الموبايل) أكثر ما يبدل كلساته تمشيا مع تقنية العصر والطريقة العصرية في تسديد الفواتير التي تكفي لإطعام أسرة بأكملها وتسدد نفقاتها لمدة شهر بأكمله.

وآخر …. وآخرون ….

وكم من حادثة تذكرني بهؤلاء الذين بدلوا (الحمير) بسيارات فخمة ، حتى ملابسهم لم تعد من (البالة) وإنما قادمة على متن طائرات خاصة من باريس ولندن وبرلين وروما ومدريد بعد أن أغلقت بيروت أبواب محلاتها التجارية في وجه هؤلاء.

وكان صديقي يقول لي مكررا لكل من هؤلاء سعر لا تنتهي أرقامه.

وعندما تحدثنا قليلا عن الحرية جن جنون صديقي (الثائر جدا) ليقول لي بحق السماء هل نحن بحاجة إلى ديمقراطية وحرية ؟ إننا نلهث وراء لقمة العيش لإطعام أطفالنا لقد غلب علينا الخوف فتولد فينا الجبن والرعب وابعد عنا كل اثر للتمرد على الظلم الذي صار جزءا مكتسبا في حياتنا فعلينا أن نحافظ عليه إن كنا نريد البقاء.

نعم يا صديقي (الثائر جدا) إننا نعيش أزمة ضمير وأزمة أخلاق ونحتاج إلى أجيال تمتد على امتداد جبالنا وسهولنا وشواطئنا حتى نتخلص من هذه الأزمات ونعود إلى الحضن الدافئ لعقليتنا المسكونة بالأمل والمحبة والتسامح والإبداع حتى ولو كان على جذع سنديانة عتيقة.

فهيهات ننظر إلى احد وهيهات نتوقف عند باب قصر من تلك القصور ونتعجب لهذا المواطن كيف يطالب برغيف الخبز؟ ومن أين سيسدد فاتورة الكهرباء والغاز والماء والمحروقات ؟

لم يعد في هذا الشارع إلا وجوه كئيبة قادمة من كل مكان ارتسم عليها الخوف من الجوع وكأنها تدعو للتمرد على الهواء والنسيم.

لم يتبق من هذا الشارع إلا الإسفلت الرقيق وبعضا مما يخلفه هؤلاء وراءهم من نفايات وروائح كريهة.

لم يبق من الشارع شيئا إلا هيكله ومنظر محلاته القبيح لان لا احد يجرؤ على الوقوف أمامها لشدة الغلاء ولجشع أصحابها وبضاعتها الرديئة نتيجة الغش الذي صار سمة لأغلب التجار الذين يقتدون بأصحاب نعمتهم الحديثة.

كان بائع الفول يبيع ليطعم أسرة بأكملها ويسدد نفقات المدارس وغيرها أما اليوم فقد كسدت بضاعته أمام هجمة أولاد الشوارع لاقتحام كل لقمة يحلم بها المواطن.

وأخيرا افتتحت في بلادي شوارع من فئة 5 نجوم!

ننظر إليها من بعيد ونحن نتحسر على شارع الأمانة وشارع الوفاء وشارع الإخلاص وشارع المحبة وشارع الصداقة وشارع لكل الناس!

لم يعد للياسمين عطره !

لم يعد للفاكهة طعم!

لم يبق لنا إلا شارع أعياد ماتت بهجتها

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى