روزا ياسين

الحلقة السادسة

null

نيغاتيف – من ذاكرة المعتقلات السياسيات –

روزا ياسين حسن

1992

لم يعدم عناصر الأمن وسيلة للضغط على أسرة ضحى.ع(51). جرّبوا مختلف الأشكال: بقوا شهوراً طويلة يترددون عليهم في مدينة الشمال فيما هي متخفية، تخفيّاً احترازياً، منذ سنة 1987 في المدينة نفسها. استدعوا معظم رجال العائلة للتحقيق معهم عشرات المرات. ضربوا خالها وزوج أختها أثناء التحقيق معهما فيما كان أخوتها الثلاثة معتقلين منذ سنوات: أسامة (اعتقل في صيف 1982)، ومازن ونمير (اعتقلا في شتاء 1983). كتكريس لمجموعة الضغوط على أهل ضحى، كي يعملوا على تسليم ابنتهم إلى الأمن، أخذوا أختها الصغرى لينا.ع رهينة عن ضحى لتبقى معتقلة لسنة كاملة من 1987 بفرع الأمن2 بالعاصمة. كان عناصر الأمن يزيدون من الإرهاب النفسي على العائلة، وهم يضغطون على الأم باتصالاتهم أو بزياراتهم المتلاحقة:

سلّمي ضحى نعيد إليك ابنتك الأخرى. على الرغم من عدم تعاون الأم أطلق سراح لينا قبل أن يتم القبض على ضحى، لتذهب الأخيرة متخفية للقاء أختها. ما بقي في ذهني بعد تلك الزيارة هو تعب أختي، نحولها الشديد، شحوبها وخوفها.. كانت نتائج التجربة عليها سيئة للغاية، هذا ما وضح لي تماماً. انقطعت إثر ذلك عن رؤية أهلي لزمن طويل، ثم تزوجت خلال هذه المدة من أحد رفاقي. لكن الأمن استطاع اعتقالي بعد أربع سنوات ونيف من ذاك اليوم.

كان صباح يوم من عام 1992 وقت اعتقلتُ في العاصمة وكنت حاملاً حينذاك في شهري الثالث. الموعد الحزبي كان مقرراً عند أحد الفنادق الضخمة. شيء داخلي غامض يخبرني بأني سأعتقل. إلى اليوم لا أعرف السبب الذي جعلني أذهب إلى الموعد! ربما كنت مقتنعة أن ما سيحصل سيحصل، ربما أحسست بالتعب، بالتعب الشديد، من التخفي الطويل الذي استمر لسنوات طويلة وفي ظروف غاية في القسوة. حملات الاعتقال المتوالية طالت وقتئذ جلّ رفاقي في الحزب، حتى العدد القليل الذي بقي خارجاً اعتقل مؤخراً: أربعة من رفاقنا الشباب، وقبلهم خديجة(52). د، فيما ظللت أنا فحسب خارجاً. فكرت، وأنا أجهّز نفسي للذهاب إلى الموعد، أن عليّ شرب الحليب، ارتداء سترة فضفاضة وكبيرة، وعلي ألا أحمل أية أوراق قد تستخدم ضدي في حال تم اعتقالي. ويجب أن أنزع المحبس من يدي كي لا يعلموا أني متزوجة، وبالتالي يطالبونني بتسليم زوجي أيضاً.. يجب ألا يعلموا بزواجي البتة.

اعتقدت أني لم أنسَ شيئاً، لكني خرجت دون أن أنزع المحبس.. نسيته في غمرة ارتباكي. عند مدخل الفندق حاصرني أكثر من عشرة عناصر، وراحوا يشدونني إلى السيارة. كنت أصرخ، وأنا أحمي بطني بيدي، محاولة معرفة الجهة التي ستعتقلني. بالفعل استجاب النقيب المشرف على الاعتقال وأشهر بطاقته في وجهي: أمن سياسي. كانت فرحة إدارة السجن لا تقدر بثمن وقد اعتقلت المحاربة الأخيرة في الحزب. كنت أشعر بسعادة غامضة وأنا أسمع باسمي بعد كل تلك السنوات: ضحى.ع، وقد قدّر علي ألا أسمع، طيلة سنوات طويلة طويلة، إلا بسلسلة أسمائي الحركية المتتالية. استمر التحقيق مع ضحى مدة ثمانية أيام.

أخفت فيهما حقيقة حملها وزواجها، وظلت كذلك حتى نقلت إلى سجن النساء. حينها كان الضغط قائماً على البلد لتوقيع الوثيقة العالمية لمنع التعذيب في السجون، الأمر الذي أرخى بالقليل من الميزات عليها، إضافة إلى أنهم لم يكونوا يريدون منها تسليم أحد: الجميع كان في الداخل، فالمطلوب هو اعتقالها فحسب.

المشكلة كانت، أول لحظات الاعتقال، هي التخلص من المحبس الذي يشعّ في إصبعها كشاهد لا يقبل التراجع. في الطابق الثالث للفرع أدخلوها إلى غرفة الرائد. لم يكن من ضحى إلا أن ادّعت إصابتها بنوبة ربو مفاجأة، فكرة طارئة خطرت لها، ووسط سعالها المسعور ارتبك العناصر وتبلبلوا، ثم تركوها تخرج إلى الشرفة ريثما يجلبون لها زجاجة بخاخ الأكسجين.

كانت ضحى تفكر بشيء واحد: التخلص من المحبس ومفتاح البيت. فكرّت لهنيهات بابتلاع المحبس، لكنها، حين أصبحت في الشرفة، رمته من فورها إلى الأسفل. إذاً لم يبق إلا مفتاح البيت.

ـ إذا استجبت للتحقيق وكنت إيجابية سنخرجك غداً.

قال الرائد وهو يعتقد أن ضحى ستصدّق أقدم كذبة على الإطلاق.

ـ أريد أن أدخل الحمام.

كان جوابها. هناك في الحمام تخلصت من المفتاح برميه في الحفرة. كل شيء جيد حتى اللحظة. تنفست ضحى الصعداء وهي تخرج من الحمام، وتستعد للقادم الذي كان غامضاً ومظلماً ورهيباً أمامها.

بقيت في الزنزانة مدة شهرين. لم أعرف خلال تلك الفترة الليل من النهار! عندما يفتح باب الزنزانة صباحاً، ليرمي السجان الفطور أمامي، أعرف أن الصباح أتى، فأنسل خيطاً من البطانية العسكرية التي أتغطّى بها، وأخبئه تحت الفرشة إيذاناً ببدء يوم جديد في الزنزانة/ القبر. بدأ الحمل يضغط عليّ، جنيني يحتجّ بشدة على هذا الويل أزجّه فيه: رغبة بالقيئ لا تفارقني. أحسّ بجسدي يتهاوى شيئاً فشيئاً. عفن ورطوبة يستفزان أنفاسي في كل لحظة! لا أستطيع الأكل! كل ما يحضرونه لي يبدو مقرفاً حدّ الغثيان ورائحته منفرة.. خصوصاً قصعات الستانلس تلك. الحرقة تأكل معدتي، تجعلني أعتقد أن سائلاً من أسيد يطحن جوفي، يجعله يتآكل ويتحلّل. والماء بارد. شتاء قاس للغاية.

الجرذان والصراصير تسكن معي، تقاسمني كل دقيقة من وقتي، وكل فتات من طعامي.. كان الوضع جحيمياً. بطني يكبر شيئاً فشيئاً لكنه بقي مخبّئاً تحت سترتي التي مازالت فضفاضة. هذا أفضل ما فعلته قبل الاعتقال: أن ارتدي شيئاً فضفاضاً. حين مرّ وقت لم أقرب فيه طعامي المنفّر صار العناصر يجلبون لي الفواكه الشهية ليتأكدوا من أني غير مضربة عن الطعام. حتى أن إدارة السجن بعثت لي في يوم واحد: أربع تفاحات وثلاث برتقالات! قمت بإعطاء السجان نصفها. تلك الفواكه بدت لي كهدايا مرسلة من الجنة، ذلك أن الفاكهة هي الشيء الوحيد الذي تقبّلته معدتي المتقلبة في تلك الفترة وأنا أدخل شهر حملي الرابع.

في أغلب الكتب التي تدوّن لحظات السجن والاعتقال السياسي يصوّر المعتقل/ المعتقلة نفسه، أو هناك من يصوّره، على أنه بطل لا يقهر! ناسيين، أو متناسين، أنه إنسان، بكل ما للكلمة من معانٍ، وليس صخراً أصماً.

يرى برايتن برايتنباغ(53) أن في الأمر كثيراً من الديماغوجية: ندّعي البطولة والقوة، يصير الواحد منا “سوبرمان” في الوقت يستحيل فيه إلا أن يكون ضعيفاً، ضعيفاً بما تعنيه كلمة إنسان.

لم يكن أمام ضحى في هذا الموقف إلا أن تكون كذلك. أي أن تعترف بلحظات العذاب التي راحت تقهر دواخلها المليئة بحياة جديدة. من هذا المنطلق فأننا نكون أكثر ذكاء حين نشرح للناس تناقضات هذا العالم الفظيع، وما نقوم به في تلك المجاهل الخانقة. الكلام مع الجنين كان تسلية ضحى الوحيدة في شهري الزنزانة. حين نقلوا خديجة.د إلى زنزانتها صار الوضع بوجودها أكثر إنسانية، أضحى هناك إنسان آخر يقاسمها الهواء والطعام والكلام والأوجاع والأمل، لم تعد الزنزانة مجرد قبر يغصّ بألمها ووحدتها وبالجرذان والصراصير.

نهاية نقلت ضحى.ع وخديجة.د إلى سجن النساء وذلك في سنة 1992، لتظلا هناك حتى سنة 1998 حيث أطلق سراحهما.

1978

إنها مليئة بالأحذية.. ومن مختلف الأشكال! أحذية أحذية، وفقط أحذية على بلاط قذر. مشهد ضيّق ومتبدل لم تستطيع روزيت.ع(54) أن ترى إلاه من خلال الطميشة التي يعصبون عينيها بها. كانت تجاهد لتلمّس أثر ما مختلف في غرفة التحقيق، شيء قد يبعث ظلال طمأنينة في روحها المترقبة الخائفة.

ـ أتيت بالتنورة وليس بالبنطلون؟!

صرخ المحقق فيها. جملة كانت تلوّح في داخل روزيت ضاربة على جدران قلبها المرتعب، جملة عنت أن حفلة التعذيب المعتادة ستبدأ. الأمر بدا جلياً أمام ناظريها حين ألبسوها بنطلون بيجاما رجالي له رائحة عفنة، كأن عشرات الأجساد المتتالية لاقت فيه عذابها، وتركت فيه ذاكرتها ورائحة عرقها المتصبب من الألم. ثم راحت أصوات متداخلة، تصدر عن أحذية مختلفة، تكيل الشتائم لها وهي تقف وسط الغرفة في مهب الآتي. مضاضة الانتظار تقتلها، ولا يمكنها سوى أن تتلمّس الأصوات، والأهم كان صوت ارتطام دولاب التعذيب الكاوتشوكي بالأرض وقد أحضروه للتو.

ـ من المؤكد أن الكبل الرباعي معه.

فكرت روزيت وهم يمطرونها بأسئلة لا تنتهي. بعد انتهاء التحقيق نقلتُ وبقية المعتقلات إلى السجن السياسي. هناك في غرفة علوية من السجن، الذي كان يوماً ما قصراً للرئاسة(55)، رمينا لسنوات طويلة. كنا عشر معتقلات وأنا معهن. ثم انضمت إلينا حسيبة.ع لنصبح إحدى عشرة معتقلة: الأختين خلود.ع(56) وهالة.ع(57)، نجود.ي(58)، ليلى.ن(59)، فيروز.خ(60)، سناء.ك(61)، راغدة.ع(62)، رنا.س(63)، وصباح.ع(64). بدا واضحاً أن نوافذ الغرفة/ الزنزانة كانت فيما مضى غاية في الجمال: زجاج قصر بديع مشغول بالألوان وتناغمات القيشاني. لكن كل تلك الألوان طليت بدهان غامق، بشكل فظ وكيفما اتفق، ليمنعوننا من رؤية الخارج، طمست كل المعالم الجميلة لتتحول إلى نوافذ سجن حقيقي، وتتحول كل الغرف الفارهة والممرات والصالات إلى مهاجع وزنازين. لم يعد هناك ما يذكّر بماضٍ عريق وأبيّ للقصر، اللهم إلا أشباح مبهمة تحلّق فوقه، تندب ماضيه وذاكرته المنسية.

خشخشة مفاتيح السجان:

صوت عمل دوماً على زلزلة روحي. أعتقد أنه كان يفعل الشيء ذاته مع المعتقلات جميعهن، خاصة إذا كانت الخشخشة في غير أوقات الخط ومواعيد مجيء الطعام. ذاك الصوت كان كافياً ليجعلنا نتجمد من الرعب، ننتظر حابسات أنفاسنا متوجسات، وقت يتناهى إلينا مع قرع حذاء السجان صاعداً الدرج إلى الزنزانة في الطابق العلوي.. هذا يعني أن معتقلة جديدة أضيفت إلى سلسلة المعتقلات اللواتي رمين هنا. ربما تكون قد عُذبت بوحشية لترمى عندنا في الزنزانة وهي أشبه بجثة حيه متأوهة.. وتعود جروحنا لتتفتح من جديد ونحن نراقب عذابها أمامنا.

لن أستطيع أن أنسى يوماً أصوات التعذيب تزعق طوال الوقت في أذني، أصوات تمزّق هدوء الليل ووداعة الحي السكني المحيط بالسجن.

عذّب معتقل ذات يوم.

كانت الحارة كلها تسمع صراخه وأنينه. أتساءل إلى اليوم كيف لم ينتفض الناس في تلك الأبنية السكنية المكتظة! أرواحهم كانت تجلد في كل وقت على وقع تلك الأصوات. ثم صمت الرجل فجأة، ليرين بعد ضجيجه هدوء غريب ومريب. آخر الليل، من ثقب باب الزنزانة/ الغرفة، رأينا عنصرين من الأمن يحملان جثته الملفوفة بالبطانية، كما يحملان سجادة عفنة، وينزلان الأدراج بسرعة.

أصوات التعذيب كانت تحرمنا النوم لليالٍ طويلة، خصوصاً أن حملة الاعتقالات كانت شديدة ذاك الوقت. لم يمر يوم دون صراخ ألم، أو شتائم مجنونة من العناصر، أو ضجة ولغط الاعتقال والتعذيب. الكثيرات من معتقلات ذاك السجن ما زلن يذكرن صراخ الألم الذي يصدر عن حسيبة.ع وهي تحت التعذيب، يتناهى إليهن حافراً في أوقاتهن وأدمغتهن. تركوها وقتئذ في المنفردة السفلية حتى التأمت جروحها وحروقها، ثم أحضروها إلى الزنزانة المشتركة. لكن آثار الكدمات الزرقاء، حروق السجائر المطفأة على جسدها، كانت ما تزال تضجّ شاهدة على ما حصل في الأسفل، أما صوتها فقد بقي مبحوحاً لفترة طويلة بعدها.

..

كانت روزيت قد حلمت، قبل الحدث الأهم بيوم، بإطلاق رصاص في الحارات الضيقة والمزدحمة المحيطة بالسجن. في ذاك المساء من سنة 1978 كانت المعتقلات جميعاً جالسات في الزنزانة العلوية يتلصصن من فوق المساحة المعتمة، التي تغطي الشبابيك، إلى البيوت المحيطة والسجانة المنتشرين في أنحاء القصر مدججين بسلاحهم، يسمعن صوت فيروز من مسجلة الجيران:

جايين ع الدار.. دار العز كمّلها.

ويحظظن عليها. كانت الأغنية من نصيب روزيت.

والدار بالعيد مضوية منازلها..

يبدو أن النبوءة تحققت، ففي اليوم التالي، وحالما نزلت المعتقلات إلى التنفس في الباحة السفلية، همس أحد الرفاق المعتقلين في الزنازين السفلية، ومن شباكه الضيق المطلّ على ساحة التنفس، بأن أكرم.ب قد اعتقل.

هل كان عليها أن تفرح أم تحزن؟!

مشاعر مختلطة راحت تطوّحها بين جدران باحة التنفس. أن يعتقل أكرم يعني أن الكارثة حلّت. لكن اعتقاله يعني أيضاً أنها ستلمح حبيبها أخيراً وقد مرت شهور طويلة دون أن تراه.

كان للقسم الشرقي من السجن، وهو عبارة عن بيت الخدمة والمونة والمطبخ، شبابيك على ساحة التنفس. الساحة تشكّل جزءاً من الحوش الكبير للقصر اقتطعت منه بمساحة لا تتجاوز 5*4 أمتار. حين كان يأتي وقت تنفس المعتقلات يغطي السجانة شبابيك زنازين المعتقلين بألواح من الخشب حتى ينتهي الوقت المخصص، بذلك يضمنون إجهاض أية فكرة للتواصل مهما قلّت بين الرفاق.

في ذلك اليوم، الذي عرفت فيه روزيت باعتقال أكرم، أخرجه السجان (الصديق) إلى الحمام عبر الساحة، وربما عمل على توقيت الأمر بحيث تكون روزيت في وقت التنفس.

حينها رأته للمرة الأولى. كان بعيداً ومتعباً. لم تستطع أن تلمسه على الرغم من محاولاتها المستميتة لإقناع السجان بذلك. لحظات ومضى أكرم داخل المبنى. مع ذلك كان ذاك السجان عرّاب الحب الذي راح ينضج هناك في المعتقل. بعد مدة من محاولات اللقاء المستمرة، والرسائل عبر السجان وفي فسحات التنفس، استطاع عمي أن يجلب من الكنيسة ورقة زواج كتبها الخوري المتعاون! جلب معها محبسين، محبسين صغيرين كانا يشكلان لي كل أملي. وفي غرفة من غرف السجن تمت خطوبتنا أنا وأكرم في سنة 1979. لكن لم يمض وقت طويل بعدها حتى نقل أكرم إلى سجن آخر. بعد ذلك صار يؤتى به لنصف ساعة كل أسبوع إلى السجن كي يراني، زيارة عاشقين لنصف ساعة لا غير، لكنه في النهاية كان أمراً رائعاً أن أستطيع رؤيته وأنا في السجن! أنتظر الأسبوع دقيقة بدقيقة، ساعة بساعة، كي تأتي نصف الساعة تلك. نصف ساعة فحسب كانت قادرة على تخفيف ضغط الزنازين والاعتقال، نصف ساعة كانت تحملني على أجنحة فراشات إلى حلم جميل رحت أرسمه في خيالي.

نصف ساعة ثم يعاد به إلى سجنه من جديد.

استمر الوضع هكذا حتى بدايات سنة 1980 حين تم إطلاق سراحي وسراح أكرم من الاعتقال الأول لنا.

ستمر سنوات طويلة قبل أن تستدعى روزيت.ع من جديد في سنة 1992 إلى فرع الأمن1. كان زوجها ما يزال معتقلاً منذ سنة 1987، أي بعد ثماني سنوات من إطلاق سراحه الأول. في ذلك الوقت تم استدعاء رفيقاتها، اللواتي سجنّ قبلاً، الواحدة تلو الأخرى وبأشكال مختلفة. إحداهن أخذوها من العمل، الثانية بمذكرة إحضار من البيت، والثالثة ألقوا القبض عليها في الشارع، وهكذا.. هذا ما جعل إحساساً أكيداً بقرب الاعتقال يراودها. كانت تشعر أنها تنتظر دورها كمن ينتظر قرار إعدامه في سعير الحرب. كلما دقّ الباب أو سمعت خطوات مقتربة من مدخل البيت تقول لنفسها: أتوا. كانت تنتظر نهايتها لا غير.

لم يطل الأمر فقد استدعيت روزيت لتراجع فرع الأمن1 وبسرعة. شعور عميق جعلها تحرص في تلك الليلة على توديع ابنتها بيسان، كأن الزيارة القصيرة تلك ستطول. الصغيرة كانت تبكي وتبكي بلا توقف كأنها تشعر بقرب غياب أمها. وروزيت تودّعها متصنعة الهدوء واعدة إياها بعدم التأخر:

ـ ساعات وأعود يا حبيبتي لا تبكي..

حين تركت منزل أهلي، وذهبت تاركة ابنتي هناك، كنت متيقنة أن الأمر سيطول أكثر من ساعات، أحسّ بقلبي يتفتت إلى أجزاء وأنا أرى ملامح بيسان الباكية للمرة الأخيرة. كنت أفكر بالذي تحمّلته تلك الصغيرة دون ذنب، بالذي عانت منه بغياب والدها، والآن بغياب أمها. ابنتي الصغيرة حُمّلت فوق طاقتها دون أي ذنب سوى أنها ولدت في هذا المكان ولهذين الأبوين!.

انتظرت روزيت في فرع الأمن1 حتى المساء. تركوها في المنفردة طيلة الوقت منسية، أو تقصدوا نسيانها، كي يجعلها الترقب أكثر خوفاً وضعفاً. أصوات التعذيب والصراخ تحاصرها من كل صوب. المعتقلون يُضربون ويعذبون في الممرات وبين الزنازين. على الرغم من أن التعذيب، حسب العادة، كان يجري في الأعلى، في غرف التعذيب وليس في الأسفل بين الزنازين.. فرع الأمن1 كان أشبه بجحيم مستعر في تلك الليلة الطويلة الطويلة.

كل حين كانت طاقة الباب الحديدي الضيقة تُفتح، وروزيت تسمع صوت ضربات قلبها الوجل، ينظر العنصر إليها وهي قابعة في الزاوية المعتمة ملتفة على نفسها، ويسأل:

ـ أنت امرأة أكرم.ب؟.

تهزّ برأسها لأن صوتها بعد حين أبى أن يخرج من جوفها، فيغلق السجان الطاقة ويمضي. يعود سجان آخر بعد فترة ليسأل السؤال ذاته، ويمضي.. وهكذا. لم يطل الأمر على هذه الحال، وبعد تحقيق قصير نُقلت روزيت.ع إلى المزدوجات لتسجن مع بقية المعتقلات حتى سنة 1993.

* * *

بإذن من الكاتبة روزا ياسين حسن، خصيصا لصفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى