صفحات ثقافية

نوم أبيض

null
عباس بيضون
لا أنام في سرير، لا أذهب إلى فراشي في الساعة نفسها تقريباً كما يفعل الجميع. لا أذهب إلى فراشي بتاتاً ولا أفكر في أن أذهب، لعلمي أنني إذا فعلت ذلك لا أنام. إذا دعوت النوم وتحضرّت لن يحضر إذا دخلت تحت اللحاف وسوّيته فوقي، بعد أن أكون خلعت ثيابي ووضبتها ولبست البيجاما. إذا وضعت رأسي على الوسادة واطفأت النور بعد أن أكون تأكدت من إغلاق النوافذ، لن أنام. لقد طردت النوم بكل هذه الحركات. جعلته أبعد فأبعد حركة بعد حركة. لو فعلت ذلك سيطير النعاس من عينيّ تماماً. لن يأتي النوم بقدمه إلى هذا الفخ. هذا الترتيب سيجعله يهرب. ما أفعله حين أعود في ساعة غير محددة من الليل هو التمدد أمام التلفزيون بثيابي، وفي الحر بثيابي الداخلية. التمدد لا يخيف النوم فإن اتمدد غالباً وليس للرقاد وحده. أضع رأسي على وسادة فوق ذراع الكنبة واتطلع إلى التلفزيون وانظر في كتاب. اللمبة مضاءة والبيت مشعشع والتلفزيون والع وأنا فقط اتفرج. ليس لدى النوم ما يخشاه إذاً. بوسعه أن يخرج ويتسلل. أنا لا انتظره لكني وسط الفيلم أدير رأسي على الوسادة ولا أعرف كيف أكون نمت. أنا كمن لم ينم. حتى وأنا غاف لست نائماً حقيقياً. لا زلت في ثيابي ولست في فراشي. لا بد أن التعب خطفني. التعب فقط وإن كان نوماً.
في ساعة مبكرة استيقظ، فأجد الليل بدأ ينحل والعتمة مكسورة بظل خفيف. هذه ساعة أخافها كما يخافها مصاصو الدماء. أجد نفسي وحيداً للغاية فيها. انسحب إلى فراشي هذه المرة وألوذ به. أطلب النوم قصداً لكنه لن يأتي. أضع نظاراتي وأقرأ. لست تعباً وإن يكن جسدي متكسّراً قليلاً بفعل الرقاد على الكنبة، بفعل النوم المرائي والناقص. لست تعباً، أنا صاح تماماً ولن أحاول بعد النوم. إذا قرأت بالعربية قد استيقظ أكثر. بالفرنسية هناك خطر أكبر في أن أعاود تعبي. وبدون أن أشعر به، بدون أي بادرة واضحة أو إشارة يسرقني نوم لم انتظره كأنني اختفيت برهة عن الزمن. حين افتح عينيّ يكون النهار قد ملأ العالم وأنا مروي من الصحة والصحو.
في التاسعة أو العاشرة، كنت استيقظ في تلك الغرفة التي ننام فيها سوية، أبي وأمي وأنا وأخي وأختي. كان السقف من ألواح خشبية لم تعد متماسكة بما يكفي، ومن وقت لآخر تهبط نسمة خفيفة من التراب الناعم، بسلام، على سريري، وعلى وجهي. كنت وحيداً في ذلك السرير القديم الذي ارتخى رفّاصه وتجوّر تحتي، لكن ذلك لم يكن شيئاً. لطالما تمتدت بهبوط سريري وحتى بتلك النسمة الترابية. كان ذلك لي وحدي وأنا اتمتع فيه بخصوصيتي كما لو كان امتيازاً. أسوق سريري كما لو كان قارباً وانتظر هبّة السقف كما لو كان سماء. في أخريات العتمة استيقظ وحدي لأتابع تفكيري بالموت، استيقظ في هذا الوقت ليتسنى لي أن أفكر وحدي في هذه المسألة. أشعر بالموت قريباً وارتجف من فكرة الرقاد الطويل تحت التراب، إذ كان الموت يعني لي ذلك أولاً. أظلّ هكذا إلى أن تبدأ الظلمة في الانحلال وتغدو الرؤية ممكنة فيطير رعبي.
مع ذلك لم أكن أخاف من هذه اليقظة المبكرة. لا أحسد أهلي على نومهم ولا أشعر أني هكذا وحيد في أفكاري. كنت أجد في ذلك فرصة إضافية. لم أُعطها، لأواجه قدري. لأفكر في مصير لا يبدو أنهم دارون به. يسعدني أن استيقظ لأفكر وأحسّ أن التفكير في أي شيء سعادة. كنت على سريري أجد سحراً ما في أن أسير مع أفكاري. حتى ارتجافي من فكرة القبر الأبدي كان أيضاً شيئاً لي. لم أشك أن الآخرين يموتون لكن تفكيري في الموت يخصّني وحدي. ربما حسبت هكذا انني قد أصل إلى حلّ. إلى نوع من تسوية أو اتفاق. ربما حسبت أن تفكيري في الموت حوار، بل مساومة، معه، وأنني ربما حصلت على رعاية خاصة منه. كأن تقوم القيامة بعد ساعتين من وفاتي أو حينها. كأن نكون في نهايات العالم. لم يكن هذا حلاً لكن الوقت أمامي. لا زلت طفلاً وأمامي عمر، ولا بد أن هذا لن يكون بلا فائدة. كان الموت موجوداً لكن العمر لم يبدأ بعد. الموت موجود لكن ليس أمامه ما يفعله.
لا أعرف متى علمت أني أفكر، ولم يكن التفكير حتى في أمور مزعجة، شقياً أو مؤلماً. كنت أسافر وأسبح في أفكاري ولا يخطر لي أن التفكير يؤذي أو أنّي قد أتأذّى من فكرة. حتى في أسوأ أفكاري كنت أتقدم ولا يمنعني الخوف. أتابع إذ لا بد من أن أتابع. كنت على ظهر نسمة لا تتوقف وتبتعد باستمرار. أفكر كأني أحلم. كنت مدمن تفكير. متعتي وخوفي يتزايدان معاً وبالقوة نفسها. لم تكن زيارة شبح ولا كابوس. كنت بسهولة عجيبة اتغلغل ولا استطيع أن أتراجع.
لا أعرف ما الذي تأسس في هذه الأحيان. لا أعرف في أي عمر كنت آنذاك. التاسعة أو العاشرة، لا يهم. ليس لهذا أي دلالة إذ لم أكن مرة في عمري ولا أعرف كيف يكون الواحد في عمره. لا أفهم أن يقال أن هذا من عمل الطفولة أو من عمل الشباب. علمت، في ما بعد، أن التاسعة من الطفولة لكني بقيت عمري اجتهد في أن الحقها. لم أكن بالتأكيد صغيراً آنذاك، كنت أفكر بطاقة جبل. في مراهقتي وشبابي سعيت لأفكر أقل. ذكرياتي، على كل حال، بلا تواريخ. حين أجد الناس يقولون إن هذا حدث في سنّ ما، أعرف أنهم يقصدون أنه حدث في وقته وأنهم عاشوا حياتهم كما هي. أما أنا فعشت غالباً خارج عمري. حتى أمراضي لا أعرف لها عمراً. جسدي يتأخر دائماً عن فهم هذه المسألة.
ابتعدت كثيراً عن حديث النوم. سبقت إلى القول إنني لا أنام تقريباً، فما أفعله كل ليلة ليس النوم تماماً. الآن لا يهمني كثيراً أن يكون نومي خالصاً. لا بأس في أن يختلط باليقظة. لا بأس في أن أنام نصف صاح، أن استيقظ بعد كل كبوة نوم وأبدل أماكن وأوضاعاً، طوال الليل، إلى أن يحسم الصباح الأمر. لا يهم ذلك الآن. لم يعد حالي كحال ماكبث الذي يعوي أنه قتل النوم.
قتل ماكبث النوم لفرط ما قتل من بشر ولم يعرف أنه كان يقتل راحته خلالها. عاقبته نفسه وصارحته بأنه قاتل وأجبرته على أن يبقى نصب جريمته. منعته من أن يدخل معها إلى النوم وأن يتخلص منها فيه. أليست هذه هي الفكرة. هذا الأرق ليس أرقي ولا أرق الآخرين. من ينامون لا تحاسبهم أنفسهم على أمر فعلوه بل، في الغالب، على أمر لم يفعلوه، أو لم يملكوا القوة والعزم لفعله. إذا لم يردّوا إهانة مثلاً لن يناموا. إذا أسيء تقديرهم لن يغمض لهم جفن. إذا لم تسعفهم البديهة بجواب صحيح، إذا فاتهم كلام مناسب، فإنهم يقضون الليل في تذّكره وإعادة تذكّره، بتأليفه وإعادة تأليفه. إذا خاطبهم رئيس بعبارة توجسوا أنها تلومهم. إذ خمنوا أن كلام مرؤوسيهم يقفز فوق مقامهم. إذا تناولهم أحد بنكته. إذا كانوا لسبب ما، موضوع ضحكة. إذا أجازوا السخرية بدون أن يصدوها. إذا انصرفت الحبيبة إلى زائر آخر. إذا طغى عليهم في حضورها جليس ثان. إذا أكلهم الانتظار ولم يطيقوا صبراً. لم يكن الأرق بسبب شيء فعلته، كان أكثر بسبب شيء لم أفعله أو لست قادراً على فعله. لو قتلت كماكبث لنمت ملء الجفنين. لو استطعت أن أجد الجواب أو أزيح منافسي، بأيّ طريقة كانت، لنمت فوراً. لا بد أن ما يؤرق ماكبث ليس سوى خوفه من أنه لا يستطيع قتل كل المتآمرين، أو عجزه عن أن يعرف كل من يتآمرون.
يتأرق عشاق الشعر العربي لكن الأرق لا يسمّى. الحب هو الذي يسهر وهو الذي يأرق. يعاني بطء النجوم وسكون الليل. كذلك يذوب عشاق الشعر العربي. لكن التحول ليس شيئاً بذاته. العشق هو المرض والتحول والسهر من أعراضه. ماكبث يعوي “قتلت النوم” الأرق هنا جريمة داخل النفس. جريمة تامة. ليس لاحقا بأي شيء ولا عرضاً من أي شيء. الأرق شر كبير. في عز طغيانه ودمويته يصيح ماكبث أنه قتل النوم. هذه جريمته الكبرى. عشاق العرب يذوبون. أجسادهم وعقولهم تنحلّ وتتلاشى. يصيرون هكذا مادة للحب. الحب يشرب دماءهم ويأكل عقولهم. الجريمة والمرض هنا. أما ماكبث ففي عز أحساسه بقوته يأتيه الأرق كما يجب أن يأتي، بلا انتظار وتكفيراً عن الافراط في القوة. الأرق معادل القوة المسرفة، إنه غول داخلي. الشخصية البروميسية تدخل في صراع مع قوتها. قوتها تقتلها. لقد قتل ماكبث النوم. لم يقتله الأرق. حتى في هذه كان ملكاً.
مع ذلك لنتكلم عن الأرق. إنه في البدء بل لون وبلا مادة. يتكلمون في القصص البوليسية عن سم لا يظهر في التحليل. نتخيل الأرق هكذا، إنه من جنس النوم وهو تقريباً النوم الأبيض. مرة ثانية نعود إلى السم وعلينا أن نتوقف كثيراً هنا. النوم الأبيض، الأرق في الحقيقة نور. نور لا يمكن اطفاؤه وهذه هي المشكلة. يغمض المرء عينيه فلا يستدعي الظلام. يستدعي ضؤاً تحت الأجفان. ضؤاً ؟؟؟ بلا مادة ولا لون. في البداية يقلد النوم، لا يبدو على الأقل، معاكساً له، لذا يتراءى للواحد أنه يستطيع أن يبحث فيه عن النوم. النوم أيضاً بلا مادة وظلامه قد يكون أيضاً أبيض. لكن هذه، مادة خادعة، مع الوقت يظهر الفرق. الأرق يؤاخي السهر لكنه لا يكونه. يحاكي النوم لكن لا يصيره. إنه يحمل مصباحه لكنه لا ينطفئ. محاولات اطفائه لا تنجح إلا في إعادة إضاءته. المحاولات تعدو تعباً فحسب، تعباً متكرراً وفارغاً. في كل محاولة يظهر هذا أكثر. أما الضوء نفسه فيقوى ويصل إلى السقف، ويعم، ويظهر جلياً أنه لا يمكن النفخ عليه أو تهديده.
الأرق يؤاخي اليقظة أيضاً لكنه لا يكونها. إنه كسر في اليقظة. لا يذوبها لكنها معه لا تكون كاملة. سيكون واضحاً أن ليس لهما النور نفسه. يبدأ كدرجة ثانوية من النوم على أطراف اليقظة التي تنتشر فوراً وتعم. درجة ثانوية ودنيا لكنها سرعان ما تغدو سقفاً أو تصير حاجزاً. تقفز من النص إلى الأعلى وتغدو هكذا علواً وهمياً. فظل لذلك نشعر أننا في لحظة معلقة، لكن طويلة وثابتة ولا يمكن زحزحتها. كل محاولة من ذلك اختبار لقوتها. فظلّ نشعر أننا في ضوء اصطناعي، لكن مفروض والاستخفاف به ينتهي إلى إظهار مناعته. باختصار هناك شيء يتسبب عن نوم كاذب ويقظة اصطناعية. شيء يواخي كل شيء ولا يندغم في شيء. هناك في الحقيقة هذا الفرق الضعيف والهش وقد استحال شيئاً. واستحال سقفاً وحاجزاً.
لا أعرف إذا كان هذا الكلام يوضح شيئاً. لا ياتي الأرق عفواً. اننا نشعر به ما أن يبدأ. ثمة شيء ما لا نصدقه وننجح في أن نحاصره. “حدث” صغير فاتنا في لحظته أو فوتناه. تناومنا له عن عجز واستمرينا في التظاهر بأنه لم يحصل أو أنه لا يستحق انتباهاً. إنها مقاومة تزيد في الغالب من مناعته. حين نظن أننا حصرناه لن يتمرد ولن يحاول الخروج فهو متأكد من عنادنا وقد نجحنا بالتأكيد في اخافته، بل وتحييره. لن يواجهنا في وضح النهار، سيكمن. نشعر به كامناً متربّصاً. نحسّه يتنفس تحت الركام. إنه حي هناك ولم ننجح في تذويبه. وسواس صغير ولا نعرف متى يغدو مهيمناً. في النهار نحن أقوياء عليه لكننا نعلم أن قوتنا هذه سترتدّ، بعد قليل، علينا. كان أفضل أن ننحني، أن نسالم. أن نتعارك معه على دفعات، كنّا بذلك شتتناه أو أبعدناه. عنادنا هو الذي يرتدّ ضدنا، فحين يتركنا الجميع وحدنا في الفراش، حين نكون أضعف، لماذا نحن دائماً أضعف في هذه الشاعة، سيتسلل في البداية. سيتظاهر بأنه لا يزال مغلوباً لكنه، مع الوقت، وبدون أن يتظاهر أو يتجسد، سيتحول غولاً. سيستولي على رؤوسنا، بالخفية نفسها، ويمتلك كل أفكارنا، سيصير فوراً فكرتنا السرطانية المتناسلة بلا رحمة. لن نتمكن من مصارعته، فهو الآن كل حقيقتنا. لا يمكننا أن نتخيل شيئاً عكسه. هو الآن كل جهازنا العقلي وليس خارجه شيء.
لا نصارعه فهو لم يأت كخصم أو غريب. لقد خرج من أعيننا واحشائنا كأنه ماؤنا الخاص. إننا نشرب هكذا أنفسنا وما ينتشر فينا طعمنا ونَفَسُنا. يبدو ذلك وكأنه لقاء مؤجل مع أنفسنا، مؤجل طويلاً، وقد حان، ولا فكاك منه. سيكون صعباً أن نجد حداً بيننا وبينه. سيكون صعباً أن نفترق عنه. لقد وقعنا بالكامل ولا نملك أي قوة فصل فعلية. ليس سوى انتظار الصباح. ربما نستطيع أن نرده ثانية إلى مكمنه أو نحصره ثانية فيه.
الأرق يمكن أن يكون هو نفسه كاذباً. يمكن أن يخفي شيئاً أعظم. ما أن يأتي حتى نرتعد منه. ما يمنعنا من النوم عندئذ شيء آخر والأرق حينها ليس سوى رسول أو حجاب. لا ينتهي شيء مع الصباح فالأرق الآن يتواصل في الليل والنهار، إذ عندما توقفت عن النوم بدا واضحاً أن ثمة شيء لا يريد أن ينام فيّ. سقطت في الرعب ولم أعرف إلى أين يقود ذلك لكني خمنت منطقياً أنه لن يكون الانتحار. لست انتحارياً لكن بدا، في حساب منطقي، أنه لا يمكن احتمال ذلك إلى الأبد. لا يمكنني أن أبقى كتلة صاحية إلى ما لا نهاية. في المستشفى نمت فوراً وطويلاً ما أن وضعت رأسي على الوسادة. سعادة عرفت أنها مؤقتة واصطناعية لكني تقبلتها كما هي. عندما توجب عليّ الخروج لم أنم ليلتها ولا بعدها. لم أنم ولم يبد أنني سأنام، وحين جازف طبيب بحقني بـ 10 فاليوم غفوت سحابة قصيرة. كنت حطبة صاحية، وتماماً تحت قدري. كنت مصعوقاً لكن أيضاً متيبساً كأن ما بي أكبر من أن أحسه. ما بي أكبر من أن أفكر فيه. أدرك أن هذا ما لا يمكن الاستمرار فيه لكني لا أملك ألماً يعادله. كأن ما بي درجة من تجمد الألم. من التخشب الداخلي. الألم والاحساس للأحياء والذين يعانون وأنا لم أعد كذلك. ما أصابني ليس الموت لكن شيئاً مثله. شيئاً لا يصيب إلا الآلهة أو الأقدار. لقد انخطفت أو سُلبت. ليست هذه هي الكلمة على كل حال. لقد وُصمت من قوى لا أعرفها. مُسخت، قد تكون هذه هي الكلمة. أنا الآن تحت هذا العقاب ولست أنا إلا بمقدار. لست أنا إلا كمضغة للقدر. كبقية منه. أحمل ختمه أو أحمل الطلسم الذي قذفه فيّ. لم أكن تماماً في هذا العالم، كنت على الحدود. حدود كل شيء وكان عليّ أن انتظر هنا.
يتأرق عشاق الشعر لكن الأرق لا يُسمى. الحب هو الذي يسهر ويأرق والحب هو الذي لا يقبل نوماً ولا طعاماً. ينظر العاشق متعجباً إلى طول الليل وبطء الكواكب وجمود الوقت كأن العلة فيها لا في نفسه. الأرق عندئذ ليس سوى صحوة الحب الذي لا يتعب. ولا يريد أن ينام العاشق. يمتلئ من كلمة، من صفة، من إحساس، من فكرة واحدة. أراح رأسه من أي حساب ولا حاجة حتى لأن يفكر. لا حاجة به إلى نفسه ولا العالم لذا ينتظر ويعدّ إلى أن ينقضي كل شيء. الشاعر هنا يخترع فحسب. لو كان العشق هكذا لما صبر العاشق ساعة عن النوم. ما كان له أن يقضي الوقت في عدّ العالم ولكأن أحسن له لأن يطويه مرة واحدة في الرقاد. حين تزدحم النفس لا نفكر إلا في أن ترتاح، حين يمتلئ المرء ينام ملء جفنيه. كان ماكبث يعوي “قتلت النوم”، لا بد أن نفسه كانت صحراء بسبب ذلك. لا بد أنها فارغة وفراغها ينتشر حوله والنور السام الذي يحيط لا يسمح له بأن يفكر أو يتحرك. الأرق هو الفراغ من كل شيء وماكبث نضب ولم يعد في الإمكان أن تنبت في داخله كلمة أو فكرة أو إحساس من أي نوع. لم يكن يستطيع أن يتقدم شعرة واحدة. لا بد أنه صرحٌ من العدم الذي يتكون فيه. من الجمود الذي لا يستطيع تصريفه. لو وجد فكرة أو إحساساً لما فعل. الأرق يعادل القتل حين لا نستطيع تصريفه ولا يمكننا أن نفكر فيه. حين يأكل الوقت ويغدو وحده ملح السهر واليقظة والنوم محل الأمس والغد. حين يستحيل أن نتحرك فيه ونفكر بحل الرعب. وتقع تلك الجريمة الخرساء في النفس. لقد قتلت النوم، قتل ماكبث الوقت.
في وقت من الليل وأنا على فراشي يبقى لي جسدي وحده. وحده أمامي ولا استطيع أن أهرب منه. أن ابتعد عنه بأي سبيل. جسدي وحده أمامي وكلما تحركت اصطدمت به. كلما قمت بأدنى حركة بدا هذا تشيّخاً وتوتراً عضلياً. كل حركة تقع في داخلي. كل حركة هي تخشب إضافي أو ارتطام داخل الجسد. وربما لن تكون سوى عواء، “قتلت النوم”. الأرق لا يعود حدثاً داخل النوم أو مقابله. إنه يتحول إلى جسد إضافي.
الأدوية التي وصفتها لي الطبيبة ساهمت في تعليق إحساسي بهذا كله. لكن هذا كان بحد ذاته شيئاً آخر للرعب. لم أعد أجد قدرة على الرثاء لنفسي. أتأمل حالي على حافة الجنون بشيء من اللامبالاة. أرى قدري المخيف بدون شعور تقريباً. قتل الأرق قلبي أيضاً. جعلني مسطحاً وصلباً كخشبة. جعلني مضغة له. كان هذا علامة على أنني لن أخرج. لن استطيع الدفاع أيضاً.
هجرت بيتي وانتقلت إلى منزل صديق. كنت أقل وحدة لكن الوحدة استحالت حالاً جسدية. كنت وحيداً إزاء نفسي. وحيداً بهذا الجسد المتخشب الذي لا أعرف كيف اتصرف به إذا كان في وسعي أن اتصرف. ألقي ظهري على السرير شاعراً بأنني لا أقل صلابة عنه. أرقد بدون أن أحس بالداخلين أو الراقدين قربي في الغرفة القديمة التي جعلها تغيير مستجد ضائعة الشكل. لم أكن أنام لكن هذا لم يعد ملحوظاً. اتصل الليل بالنهار وساعد الجو الغائم على تضييع الحدود بينهما فلم أعد أشعر بالانتقال من وقت إلى وقت. أسوأ ما يكون الأرق هو عندما يبدأ الليل بالانحلال وتغدو العتمة ماصلة برشاء. عندئذ يطير القلب لمقدم النهر إذ سندخل إلى يوم جديد بدون نوم. سيتصل يومان بدون فاصل. سيغدو الزمن هكذا طويلاً ممدوداً بدون أي هدنة أو استراحة. سيغدو العالم بلا معالم وكأنه دعوة إلى الجنون. سيغدو خارجياً وبرياً بالكامل. ما أن يبيّض الليل حتى نشعر أن دفاعنا انهار كله. سيدخل الأرق في النهار الجديد، سيمتد فيه، ويكون عندئذ صعباً تمييزه إذ سيبدو مجرد صفحة مقلوبة للّيل.
اتصلت بأهلي. كانت أمي عند أختي في الأردن. ووصلت، أخذني صهري في جولة بالسيارة حول البلدة، ورأيت بدون أن أرى الحقول وكما كان الأمر في باريس، كان الخارج يصغر حولي. وأنا بدون أن أتمايز عن المقعد الذي أجلس عليه انْظر بدون شعور.
لكن النوم، لا أدري كيف، حل أخيراً. حل وافراً وسلسلاً ومحرراً. سبحت فيه. جزت طويلاً في الطمأنينة والأحلام الرفافة. انخلعت من الحطبة التي كنتها وطرت خفيفاً. مع ذلك استيقظت في الصباح متوعداً. كأنما اصطدمت أثناء سياحتي بكتل وحواف لم أشعر بها في حينه.
أربع ليال ونهارات مضت هكذا ثم، بدون حساب، انتهى دوائي الفرنسي. رأيت الحنجور فارغاً لم أكن تحسبت لذلك. بحثنا عن الدواء باسمه التجاري فلم نجده. قال لنا طبيب أنه موجود تحت اسم تجاري آخر. لكنني في حالي لم أكن لأصدق. كان منقذي باسمه وعلبته وحنجوره بدون شعرة تبديل. كل ذلك كان لازماً لهذا الطلسم الذي يخرج منه النوم كما يخرج الجني من القمم. ما كان لذلك أن يحصل بدون نطق الاسم الكريم نفسه. ما كان له أن يحصل بدون ذلك الصنم المتكون من العلبة والحنجور والاسم. لم يكن النوم ولا الأرق مني.

[ فصل من كتاب بعنوان “مرآة فرنكشتاين” يصدر قريباً عن “دار الساقي”
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى