صفحات سوريةمحمد علي العبد الله

صيدنايا: الكثير من القتلى والقليل من الشفافية

null
محمد علي العبد الله(*)
أياً تكن تفاصيل ما وقع في سجن “صيدنايا” العسكري السوري، وبصرف النظر عمّن بدأ العنف والجهة ـ المسؤولة عنه والخسائر المترتبة عليه، فإن “مجزرة” حصلت هناك لا يمكن تجاهل حدوثها أو آثارها.
ثلاثة أيام انقضت على بدء الأحداث في صيدنايا (حتى كتابة هذه المقالة) كانت الأمور لا تزال عالقة وسط أنباء غير دقيقة عن عدد القتلى والجرحى أو عن إطلاق الرهائن أو استمرار احتجازهم.
الأيام الثلاثة مرت داخل السجن مليئة بالـ “أكشن” والإثارة نتيجة سياسة السلطات من استحضار دبابات للسجن وفرق مجهزة ببنادق قناصة، ومرت مليئة بالآلام للمعتقلين الذين حرموا الطعام والشراب مع رهائنهم خلالها وقضوا أيامهم الثلاثة في العراء على سطح السجن، لكن وقعها الأشد كان على الأهالي. فخلالها لم يعرف أهالي المعتقلين معنى النوم أو الطعام، أشخاص هاموا على وجوههم في الشوارع يريدون من يخبرهم عن أبنائهم هل هم قتلى أم جرحى، أحياء أم أموات؟. مصيبة هؤلاء الكبرى أنهم يسكنون “مملكة الصمت الرسمي”، فلم تصدر السلطات أي بيان قبل مرور أكثر من 24 ساعة على بدء الأحداث، وعندما فعلت تحدثت عن “إرهابيين ومتطرفين” دون أن تخبر الأمهات عن أبنائهم، أو حتى أهالي الرهائن عن حال ذويهم. بيان مقتضب لا يمت للمسؤولية بصلة ألقى التهم جزافاً وحاول ذر الرماد في العيون فلم يشف غليل أيّ ممن انتظروا تعليقاً رسمياً على ما حصل.
لعلها المرة الأولى التي تعترف بها السلطات بأحداثٍ ذات طابع أمني تحصل داخل البلاد. فالعادة جرت أن تتجاهل السلطات ما يحصل وكأنه يحصل في بلد آخر. فهي لم تعلق على أعمال العنف التي حصلت في سجن عدرا منذ أقل من عام، ولم تعلق على نشوب حريق ضخم في سجن صيدنايا منذ قرابة شهرين بل منعت الزيارات عن السجن وقتها، ولم تكن لتفعل هذه المرة أيضاً لولا ما أقدم عليه السجناء من استعمال الهواتف المحمولة للرهائن والتحدث لوسائل الإعلام. أمر أحرج السلطات ووضعها في مأزق كبير ظهر واضحاً في بيانها الهش الذي لم ينسب لأي مصدر مسؤول وغابت عنه الصفة الرسمية لولا وروده عبر وكالة الأنباء الحكومية، بيان عكس تخبطاً وإرتباكاً واضحين.
تابع الأهالي المفجوعون ما يحصل عبر وسائل الإعلام. لم يطفىء بيان السلطات نارهم سيما مع استمرار ورود الأنباء عن تزايد عدد الجرحى والقتلى داخل مستشفى تشرين العسكري، فنزلوا إلى الشارع، تجمعوا أمام السجن فأبعدتهم عناصر الشرطة العسكرية إلى مسافة 2 كلم لمنعهم من سماع أي شيء (صراخ، إطلاق نار…)، ثم لم تلبث أن انهالت عليهم بالضرب بالركلات والهراوات فوقعت الأمهات على الأرض في منظر أضحى مألوفاً في “سوريا الأسد”.
توجه قسم آخر من الأهالي إلى مستشفى تشرين العسكري. الدخول للمستشفى مستحيل في مملكة الصمت والتكتم، طالب الأهالي بنشر لائحة باسماء الضحايا، نشرت اللائحة على رؤوسهم بالعصي والهراوات وبكل ما توفر وما لم يتوفر لعناصر الأمن، فسقط أرضاً من الأمهات من لم تسقط من انهيار أعصابها قبل ذلك.
تجمع الأهالي من جديد أمام المقر العام للشرطة العسكرية طالبين إذناً بزيارة السجن أو المستشفى أو أي معلومة من أي كان. وافقت إدارة الشرطة العسكرية وطلبت منهم فقط الإبتعاد عن المدخل الرئيسي للسماح للسيارات المارة بالعبور، وطلب إليهم التجمع عند إحدى الزوايا ففعلوا، ونفذت إدارة الشرطة وعدها وأرسلت العشرات من عناصر الشرطة لضرب الأهالي مرة أخرى واعتقل بعض الشبان ممن حاولوا المقاومة.
لاحقاً طلب إلى الأهالي التوجه إلى وسط العاصمة والتجمع تحت “جسر الرئيس” تحديداً (منطقة معزولة بعيدة عن أعين المارة) وهناك ستأتي الصحافة للتحدث إليهم لتنقل معاناتهم للرأي العام، فعل الأهالي وأتت الصحافة دون كاميرات، بل بعصي غليظة حملها رجال الشرطة والأمن وانهالوا على الأهالي بالضرب. أحد الصحافيين المجهولين يحمل كاميرا تعرض لضرب مبرح ثم اختفى مع من اقتاده…
قليل من الشفافية في التعاطي كانت ستحل أكثر من نصف المشكلة، فبيان يوضح عد القتلى وينشر اسماءهم من شأنه تهدئة الأهالي، والإسراع بتسليم الجثث لأهالي الشهداء أفضل بألف مرة من حفظها في مشرحة المستشفى العسكري. إلا أن السلطات لا تزال تعتم على الموضوع، ولعل أكثر ما هو منتظر عقب إنتهاء الأحداث رسمياً هو منع الزيارات عن السجن للتعتيم أكثر على عدد القتلى أو الجرحى أو عن كيفية بداية الأحداث.
نظم أهالي المعتقلين من محافظة حمص إعتصاماً ليلياً هناك. تعرضوا للضرب ثم وعدوا خيراً، ثم انتقلت العدوى لمحافظة اللاذقية فنفذ أهالي معتقليها إعتصاماً حاشداً طالبوا فيه بالكشف عن مصير أبنائهم، فواجهوا نفس مصير أهالي حمص. بالأمس ليلاً كان الحديث عن تظاهرة عارمة في اليوم التالي في دمشق سينفذها أهالي معتقلي دمشق ينضم إليهم مشاركون من باقي المحافظات، ترى كيف ستتعامل السلطات معهم؟!!
لعلها صورة مختصرة عن وضع أهالي جلهم من الآباء والأمهات الطاعنين في السن وعن كيفية التعامل معهم بطريقة زادت من توترهم وعكست بوضوح توتر السلطات التي لم تجد شيئاً تفعله أكثر من الإعتداء على أمهات ثكالى (أو يكدن) بضرب مبرح لا مبرر له إلا الحفاظ على التعتيم والتكتم في مملكة الصمت.

(*) كاتب وناشط حقوقي سوري.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى