سلامة كيلةصفحات سورية

تعقيب على تعقيب ياسين الحاج صالح: مسألة -بناء الأمة- في سورية

سلامة كيلة

ما دفعني إلى التعقيب على تعقيب الصديق ياسين ( تعقيب على تعقيب سلامة كيلة: لا بل هو نكوص أيديولوجي للماركسية السورية، الحياة عدد 25/11/2007) ليس التعقيب ذاته، بل إحالته في نهاية التعقيب إلى مفهوم الأمة، خصوصاً وأنه نشر مقالاً بهذا الخصوص قبلاً (ياسين الحاج صالح، حول بعض تناقضات عملية بناء الأمة في سورية، الحياة 18/11/ 2007)، وهو الموضوع الذي أشرت في نهاية تعقيبي السابق إلى أنه يحتاج إلى نقاش.

وأولاً أعتذر عن إشارتي في التعقيب السابق إلى أن الصديق ياسين قد وضع كلمة اليسار بين مزدوجين، وأعتقد بأن تحليله لسبب وضعي لها صحيح، لكن ليس دون أساس. ثم لن أدخل في مسائل عديدة تناولها لأنني كنت قد أشرت إليها في التعقيب السابق، منها مثلاً أشرت في التحليل لماذا كان تصنيفه ستاتيكياً، حيث أنه ينطلق من تسميات متداولة في سوريا تعبّر عن تمايزات في “الطيف الحداثي”، لكنها لا تعبّر عن اتجاهات فكرية مختلفة، وينبع اختلافها من مسائل سياسية هي تلك التي عددها (السلطة، أميركا، الإسلاميين). المأخذ الذي أشرت إليه كان في أن الصديق ياسين لم يحدد معنى كل من التنويعات التي حددها: الليبراليون، الديمقراطيون، العلمانيون، واليسار، لأن التحديد هو الذي يُظهر مدى خطأ هذا التقسيم. وهو ما لم يتطرق إليه مجدداً في تعقيبه. حيث أنني أنطلق من ضرورة “كشف” طبيعة هذه التنويعات دون الاكتفاء بما تسمي هي ذواتها.

المسألة الأهم في التعقيب هي إشارة الصديق ياسين إلى النكوص الأيديولوجي “للماركسية السورية”. لماذا؟ “الموقف من الاقتصاد” كما ينقل عما قلت في تعقيبي.لكنني كنت أحاول تحديد طبيعة هذه التنويعات التي ميزها (الليبرالية والعلمانية والديمقراطية) لكي أشير إلى ما يجمعها، وبالتالي لكونها تشكل تياراً واحداً (في الواقع السوري وبما يخص الطيف الحداثي الذي نناقشه). فإذا كانت الليبرالية هي الليبرالية السياسية فأحرى أن يدمج هذا التنويع مع الديمقراطيين. وإذا كانت تعني الليبرالية الاقتصادية فهي في أساس كلا التنويعين الآخرين. ولاشك في أن التنويعات الموجودة في الواقع السوري هي تنويعات تطرح الليبرالية والديمقراطية، وبعضها العلمانية. مما لا يجعل معنىَ تمييزياً للتسميات التي تأخذها. ويبقى الخلاف (في الغالب) منحصراً في الموقف السياسي من السلطة تحديداً، لأن المواقف من أميركا ومن الإسلاميين مرتبطة بذلك. سوى بعض الهوامش التي تركز على العلمانية خشية من الإسلاميين، وبالتالي تميل إلى مهادنة السلطة.

لكن المسألة الأساس هنا هي أن الصديق ياسين إعتبر أن هذه الإشارة إلى الموقف من الاقتصاد، والقول بأن اليسار الماركسي يطرح الدفاع عن مطالب الطبقات الشعبية هو نكوص للماركسية في سوريا، هو إشارة إلى “ماركسية عامية تكتفي من الاقتصاد والمشكلات الاجتماعية باستخدامها شعاراً أو رمزاً يميزها عن غيرها”، ويؤكد على أنها “متراجعة كثيراً، فكرياً وسياسياً، عن مقاربات ماركسية نقدية عرفناها في سورية بالذات قبل أكثر من ثلاثين عاماً”. كيف؟ هل أن طرح المطالب الشعبية أو الإشارة إلى الاقتصاد يعني عودة إلى البكداشية كما يلمح؟ طبعاً يشير الصديق ياسين هنا إلى كل من ياسين الحافظ الذي يذكر اسمه صراحة، وإلياس مرقص. ياسين نقد السياسوية وأشار إلى الوعي المفوت، لكنه لم يتجاهل الاقتصاد. وإلياس نقد الاقتصادوية أيضاً دون أن يتجاهل الاقتصاد. أي لم يقد النقد الماركسي للماركسية الرائجة إلى الليبرالية والديمقراطية والثقافوية. رغم كل الملاحظات التي يمكن أن نقولها في كل من هؤلاء، بل قاد إلى لفت النظر إلى أهمية الديمقراطية والعلمانية والمسألة الثقافية. وما أطرح لم يتجاهل الوعي المفوت الذي أشرت إلى بعضه في تعقيبي السابق، ولا إلى تجاهل الديمقراطية والعلمانية. ومن يتصوّر بأن ياسين الحافظ تحديداً قد تجاوز التحليل الطبقي، والاقتصادي، سوف لن يكون قد أنصفه. لقد بحث في مستوى آخر هو الوعي، وهذه هي إضافته المهمة.

ثم أيها الصديق العزيز، هل تطلب من ماركسي أن لا يشير إلى الاقتصاد، وأن لا يطرح مطالب الطبقات الشعبية؟ هل أن تجاوز بكداش كان يعني تجاوز ذلك؟ وهل أن تجاوز الاقتصادوية هو رفض الانطلاق من التحليل الاقتصادي؟

مؤسف أن يفهم الصديق ياسين الإشارة إلى الاقتصاد والى مطالب الطبقات الشعبية بأنه من باب التميّز والتمييز. وأنه يشير إلى إستعادة الانعزالية الشيوعية القديمة “التي تقرر أننا وحدنا على حق وجميع الآخرين على باطل”. إلا إذا اعتبر بأن التحالف يقتضي التخلي عن أساس وجود الماركسية والماركسيين، أي عن التحليل الاقتصادي والدفاع عن مطالب الطبقات الشعبية. هل هذه إنعزالية؟ لم أفهم بالضبط إلى أين يذهب مخيال الصديق ياسين. هل أن تجاوز الانعزالية، وبالتالي التحالف الواسع، يفرضان التخلي عن دور الماركسيين الذي يجب أن يعبر عن تلك الطبقات؟ أم كانت الإشارة إلى الانعزالية لأن الصديق اعتبر أنني أضع الليبراليين والديمقراطيين والعلمانيين في سلة واحدة؟ أنا لم أضعهم في سلة واحدة، قلت أنهم يعبرون عن تصور واحد، وإن كان بعضهم يركز على الديمقراطية أكثر من الآخرين ، أو على العلمانية، لكنهم أيضاً منقسمون في الموقف من السلطة وأميركا والإسلاميين. كما أنني لم أقل بأن هناك يسار واحد، وأشرت إلى الاختلافات فيه. وبالتالي فإنني لم أشر لا إلى حق ولا إلى باطل، وأميّز بين أطرافهم وفق ما يطرحون، وأدعو إلى التحالف مع كل من له موقف واضح من السلطة ومن الإمبريالية الأميركية.

نأتي إلى مسألة “بناء الأمة في سورية”، حيث يختم الصديق ياسين بالتالي ( وهل هذه بحاجة إلى برهان كذلك ما دامت بالتالي كما يعلق عليّ؟): “أما الواقعة الطائفية فمشتقة، وذات علاقة عكسية مع تشكل الأمة. هذا، مركزية مسألة بناء الأمة، ما لم يدركه سلامة، ربما لأنه أسير فهم اسمي لمفهوم الأمة ذاته”. لكن ما هو مفهوم الأمة الذي يقترحه الصديق ياسين؟ لن نجد تحديداً لمفهوم الأمة لدى الصديق ياسين، فهو ينطلق من مفهوم محوري لكنه يعتبر أنه بديهية، معروفة، لهذا لا يعتقد بأن عليه أن يحدد معناه، رغم أنه مفهوم محوري. إنه يتحدث عن “بناء الأمة” وعن “تكوين الأمة” دون أن يقول ماذا يعني بتعبير الأمة. هذا كان نقدنا عليه حينما انطلق من تقسيم طيف الحداثة إلى تنويعات دون أن يحدد معنى الليبرالية والديمقراطية والعلمانية، ما هو جوهر كل من هذه التنويعات؟ وبالتالي ظل منحصراً في الشكل.

المشكل المطروح:

لهذا سوف ارتب الأفكار التي يطرحها في إتصال بـ “بناء الأمة”، لتحديد المعنى الذي يقصده بهذا المفهوم، كبديل للفهم الإسمي لمفهوم الأمة لديّ. يقول الصديق ياسين في تعقيبه عليّ، وللإشارة إلى ميل اليساريين لتحويل الماركسية “إلى هوية تمييزية” الأمر الذي يجعلهم يعتبرون نقدها “تهديماً لكيانهم بالذات”، يقول “هذا متصل بخصائص التكوين الاجتماعي السياسي السوري، وبالتحديد بواقع غياب حقل سياسي وحقل ثقافي يؤكد فيهما الأفراد ذواتهم كفاعلين مستقلين، ما يغنيهم عن الحاجة إلى هويات جزئية منغلقة على ذاتها. ولهذا بدوره صلة بشرط التفكك الوطني”. بمعنى أن الماركسية هنا هي هوية مثل الطائفة. لن أعلق على صحة ذلك، لكن أشير إلى أن هذه هي نقطة أولى في المسألة التي أتناولها، أي الأمة.

ثم يقول في التعقيب ذاته ” تفككت الأمة (بعد أن لم تكن متماسكة في الواقع) فانقسم الطيف الحداثي” ثم يكمل “إن الطيف الحداثي ليس حزباً أو تحالفاً، وأن وحدته المحتملة أثر لبناء الأمة، جماعة المواطنين المستقلين المتساوين. ولأن المجتمع السوري متعدد دينياً وإثنياً ومذهبياً، ولأنه ضعيف الاندماج، أي لأن تكون الأمة بقي هشاً، فإن تفككها يسير ترجيحاً وفق خطوط التمايزات الأهلية”. هنا يرجح تفكك الأمة وفق التمايزات الأهلية من جهة، ويقرر أن تفكك الأمة يقود إلى انقسام الطيف الحداثي، لكن أيضاً وفق التمايزات الأهلية. وهذه نقطة أخرى في المسألة التي أتناولها. لكن سنلحظ بأن الصديق ياسين ينطلق من وجود الأمة، وأن وحدة الطيف الحداثي هي أثر لهذا الوجود.

في مقالته ” في توازي التفكك الوطني وانقسام الطيف الحداثي في سورية، الحياة 28/10/2007) يشير إلى تفكك “الإجماع التقدمي”، أو “الأكثرية الوطنية السورية التي كانت تكونت على أرضية قومية وتقدمية اجتماعياً في خمسينات القرن العشرين وحتى ربما أواسط سبعيناته”. ولقد تظاهر التفكك في انقسام اليساريين والتقدميين حول الموقف من الأزمة الوطنية والاجتماعية. هذا الانقسام الذي كان “أثراً لإخفاق عملية البناء الوطني”، “العملية التي كان من شأنها أن تتمخض عن قيام وطنية سورية تقدمية، تستوعب أكثرية السوريين كمواطنين متساوين”. وهو الانقسام الذي يقول أنه توازى مع التفكك الأهلي. و “بالنتيجة، أخذت “الأمة السورية” تتفكك”. “وبقدر ما كان الإجماع التقدمي حلاً مبدئياً للانقسام الأهلي، فإن تفككه سيعيد العنصر الأهلي إلى الصدارة”. إذن، تفككت “الأمة السورية” نتيجة تفكك “الإجماع التقدمي”، وبالتالي عودة الانقسام الأهلي إلى الصدارة. وهذا معكوس ما قيل سابقاً، حيث كان تفكك الأمة هو سبب انقسام الطيف الحداثي. طبعاً الصديق ياسين يرفض هذه النتيجة في تعقيبه، رغم أن نصه واضح في هذا المجال. ولقد أكد على الفكرة الأخرى، أي أن تفكك الأمة هو الذي أدى إلى انقسام الطيف الحداثي المشار إليها أعلاه. وهذه نقطة ثالثة في المسألة التي أتناولها، حيث أن هناك ثلاث مسائل لم يستطع الصديق ياسين مسكها جيداً، هي مسألة الأمة، ومسألة الطوائف (الذي يسميه التفكك الوطني)، ومسألة الطيف الحداثي. لهذا لم يستطع الرسو على برّ، فلا يستطيع تحديد الأساس، ولا مسك السبب والنتيجة.

يشير الصديق ياسين إلى “ضعف التشكل الوطني” دون أن يحدد معنى هذا التشكل، هل هو تشكل الأمة؟ يبدو من النص أنه كذلك. وهو في مقالته (حول بعض تناقضات عملية بناء الأمة في سورية، الحياة 18/11/2007) يعود إلى ترجيح القول بتكوين الأمة وليس ببنائها. وهو بالتالي يتحدث “على تكوين الأمة لا على بنائها”. إذن، سنبدأ من تكوين الأمة. كيف تتكون الأمة؟ بعد أن يقسم تاريخ سورية إلى قسمين على ضوء مسألة “بناء الأمة”، ويرصد التناقضات فيهما، والتي هي سيادة ديمقراطية “مقصورة على شرائح ضيقة”، و”ديمقراطية اجتماعية” “في ظل تسلطية سياسية متفاقمة”. وأيضاً “افتقرت إلى الوعي الذاتي المناسب”. بعد ذلك يقول “بوعي غير مناسب، وبإطار سياسي غير مناسب أيضاً، لم تلبث عملية تكون الأمة أن تعطلت” هذه العملية التي هي “موضوعية”، كما أنها “أثر لوجود دولة وحقل سياسي محلي”. إذن تعطل تكون الأمة نابع من وعي وسياسة غير مناسبتين. ولهذا فـ “النقطة الأساسية التي نريد الوصول إليها هي أن “المجتمع السياسي” هو الحل الذي أتيح للمجتمع السوري الفتي والضعيف الاندماج لتجاوز انقساماته الأهلية، وهو تالياً وسيط لا غنى عنها للاندماج الوطني وتكون الشعب السوري”. وبالتالي فإن “حاجة المجتمع إلى الاندماج … تقتضي مجتمعاً سياسياً مستقلاً وفاعلاً”. “فالمجتمع الممنوع من التشكل السياسي، سيتشكل في صيغ عضوية لا تستطيع السلطات القضاء عليها”. ومن ثم “فإن تحطيم المجتمع السياسي سيبعث مشكلات عشائرية وطائفية”. هنا هو يلمس العلاقة بين المجتمع السياسي (المفترض أنه المجتمع المدني الحديث) و”المجتمع الأهلي”. وأنا أتفق معه في هذه المعادلة، لكن ما شأن تكوين الأمة بكل ذلك؟ من النص يبدو واضحاً أن “المجتمع السياسي” يساوي “الأمة”. حيث أن تشكل المجتمع السياسي يقود إلى تشكل الأمة. لهذا أشار إلى “الإجماع التقدمي” ودلف إلى أثر انقسام اليسار والتقدميين على تفكك الأمة. وهنا تبدو الأمة كمسألة وعي وتشكل مدني حديث ،الذي يسميه المجتمع السياسي، والذي يحدده في المؤسسات والتقاليد السياسية المستقرة، ويحدد الأمة في مكان آخر بأنها “جماعة المواطنين المستقلين المتساوين“.

وما من شك في أن هذه المسألة هي التي جعلته يتحدث مرة عن تفكك الأمة (مقال في توازي التفكك الوطني وانقسام الطيف الحداثي)، وأخرى عن تكون الأمة (مقال حول بعض تناقضات عملية بناء الأمة). التفكك نتيجة تفكك “الإجماع التقدمي”، وتعطل تكون الأمة نتيجة الوعي والأطر السياسية غير المناسبين. وكذلك ما من شك في أن النقاط الأربع التي أشرت إليها للتو تتعلق بالوعي وبالفعل السياسي. إذن الأمة إرادة كما كان يقول الفرنسيون. والإرادة أن تكون سورية أمة، فهل من الممكن أن تتحقق هذه الإرادة؟ رغم أن الصديق ياسين يقول بأن هذه العملية “موضوعية”، إلا أنها تبدو من مجمل تحليله مسألة إرادة. سيقول أيضاً “صنع الشعب” ويؤكد على “بناء الأمة“.

عما كان يتحدث الصديق ياسين؟ هل عن الأمة؟ أم عن الوعي “المدني” الحديث، عن الوعي الحداثي؟ عن عجز الوعي والفعل السياسيين عن أن يهيمنا بديلاً عن الوعي التقليدي؟

بناء الأمة في سورية

سنبدأ بما لم أدركه، حسب الصديق ياسين، وهو مركزية بناء الأمة، حيث يشير إلى أنني “أسير فهم إسمي لمفهوم الأمة ذاته”. ما هو مفهمي للأمة؟ لا أعرف إذا ما كان الصديق ياسين قد قرأ كتابي “العرب ومسألة الأمة”، أو من أين يعرف فهمي هذا؟ لكن نحن لا نبدأ من الصفر، لا نخترع مفاهيم جديدة، حيث أن الفكر تراكم. لهذا ليس من الممكن إيجاد معنى جديد لمفهوم الأمة. طبعاً هناك محاولات مستمرة لتجاوز مفهوم الأمة كما تبلور في الفكر السياسي، كما يجري تجاوز مفهوم حق تقرير المصير للأمم. لكن تراكم الفكر يفرض أن ننطلق مما هو متعارف عليه، وهنا لن أنطلق من الفهم الماركسي لمسألة الأمة، بل سوف أنطلق من المعنى العام الذي يرد في الفكر السياسي، حيث تتحدد الأمة في البشر المعينين في لغة مشتركة ويقيمون على أرض محددة، ويتشاركون الثقافة، في صيرورة تاريخية طويلة. وإذا كان الفكر البرجوازي هو الذي توصل إلى هذا التحديد، فإن الماركسية لا تختلف سوى في صيرورة التشكل، حيث يُعطى للعامل الاقتصادي أهمية. وهذا التشكل التاريخي المتبلور في “العناصر” آنفة الذكر، هو الذي كان يجعل التقسيمات السياسية مدعاة للسخط، وبالتالي السعي لتجاوزها وتشكيل الدولة/ الأمة. وما فعلته البرجوازية هو إنهاء حدود التجزئة وتشكيل الدولة القومية، في سياق انتصار الحداثة.

هل نستطيع، إذن، أن نعتبر أن أي جماعة يمكن أن تشكل أمة؟ الصديق ياسين يحدد الأمة في “جماعة المواطنين المستقلين المتساوين”، وبالتالي فإن أي جماعة تستطيع فعل ذلك. وهو على هذه الخلفية يقرر وجود الأمة في سورية كما يقرر ضرورة وجود هذه الأمة. وجود الأمة التي سارت نحو التفكك، وسياق تكوّن الأمة في سورية. لماذا في سورية؟ هل لأنها أصبحت “دولة” منذ نهاية الدولة العثمانية؟ بهذا فهذه “الأمة” تبدأ بلا تاريخ، سوى تاريخ تشكل الدولة السورية. ولهذا يبحث في ميول النخب وأثره في هذا التكوين، وهو يشير إلى وعيها غير المناسب لهذه المهمة الكبيرة. ويأخذ على الفكر القومي أنه “شوش وعي عملية بناء الأمة”، رغم أن هذا الفكر نشأ قبل نشوء الدولة السورية، وارتبط بميل “النخب” (أو البرجوازية الناشئة ومثقفيها) إلى الحداثة. وحين تشكلت الدولة كانت تبدو كصيغة مضادة لطموح التقدم والحداثة ذاته. ولا يمكن لنا أن نفسر نزوع “النخب” القومي إلا بضرورات الواقع، وبالسعي لتشكيل الذات القومية في دولة/أمة. وهو ما جعل الأحزاب القومية القوة الأساس في مرحلة طويلة، وأعطاها ميزة تجاه الحزب الشيوعي الذي كان قد تخلى عن ميله “القومي”، وبدأ في التنظير لـ “أمة سورية في طور التكون” سنة 1937، كما يفعل الآن صديقنا ياسين، ليعيدنا إلى نقطة الصفر، التي هي “خالد بكداش سنة 1937” (وبالتالي فهو الذي يعود إلى البكداشية ولست أنا). وإذا كانت الأهداف القومية قد إستغلت من قبل فئات لتحقيق مصالح خاصة، وسلطة مستبدة، فليس المشكل في الأهداف بل في المصالح، وهي المسألة التي لا يحب أن يلمسها.

إذن، الدولة المتشكلة لا تكوّن أمة، لا تفتح الأبواب لتكوين أمة. حيث يبقى للإرث التاريخي فعله، خصوصاً ذاك المتعلق بالتكوين القومي الذي يعبّر عن هوية البشر، ويتحول إلى قوة حالما يتبلور في حركة/ حزب، وهو الأمر الذي قاد إلى نشوء الحركة القومية بكل نقاط ضعفها وعيوبها، لكنها كانت تعبّر عن “حاجة موضوعية” ولم تهبط من السماء. وهذا هو السبب الذي، ليس يؤخّر تكوين “الأمة في سورية” بل يمنع ذلك. فالأمم لا تتكون على “قفّة” أفكار، ولا انطلاقاً من هلوسات مثقفين. وأيضاً لا تتكون انطلاقاً من مصالح ضيقة لفئات رأسمالية تنزع للتكيف مع النمط الرأسمالي الذي تفرض رأسماليته تقسيم وتفتيت الوطن العربي.

الأمة ليس وعياً، هي أعمق من الوعي لأنها وجود لبشر تشكلوا في سياق التطور التاريخي. لكنها تؤسس لوعي بها، يتداخل مع مصالح الطبقات. ولأنها أعمق من الوعي لا تندثر مع اندثار أيديولوجيات وأفكار. ولقد عبّرت الفئات الوسطى العربية عن مصالحها في الفكر القومي، وفي المشروع القومي، لكن مصالحها انقلبت بعد استلامها السلطة، لهذا حرصت أكثر من غيرها على تكريس “الدولة القطرية”، أو “الدولة الوطنية” كما تنظّر اليوم من قبل العديد من المثقفين، القوميين سابقاً. ليس نتيجة إنكفاء قطري لدى بعضهم، بل نتيجة الفشل في إيجاد حل صحيح للعلاقة بين التشكيل “المدني” في “الدولة الوطنية” وعلاقة ذلك بالأمة. أي كيف يمكن أن يترسخ مفهوم المواطنة في إطار “الدولة الوطنية” بالترابط مع الإنتماء القومي؟ أي كيف يمكن تجاوز الانقسامات الطائفية في “الدولة الوطنية”؟ وهي الإشكالية ذاتها التي تحكم منطق الصديق ياسين، لكن عبر دفعها إلى حدِّ أبعد، هو القول بـ “تكوين الأمة في سورية”. حيث تبدو الدولة القائمة هي الممكن الذي يسمح بتجاوز الطائفي لمصلحة “الوطني”، ما دامت هي الأمر الواقع، وبالتالي تؤسس لإقرار مبدأ المواطنة، التساوي بين المواطنين. لكن لتُدفع هذه المسألة إلى أبعد نحو القول بـ “وطنية”، أو بـ “أمة“.

مسألة الوعي الحداثي

هنا ندخل في المشكلة التي يعالجها الصديق ياسين، ولكن بطريقة خاطئة. مشكلة “التفكك الوطني”. المشكلة الطائفية. حيث تقابل بالوعي الحداثي، الوعي المدني. وعي المواطنة و”المجتمع السياسي” كتجاوز لـ “المجتمع الأهلي”. ولقد أوضح في مقالته حول التفكك الوطني وانقسام الطيف الحداثي كيف أن تبلور ما أسماه “الإجماع التقدمي” أو “الأكثرية الوطنية السورية” كان يفضي إلى “تجاوز” (ولقد وضعت كلمة تجاوز بين مزدوجين لأنه هكذا يُفهم من المقال، حيث يشير إلى أن تفكك ذاك الإجماع أعاد العنصر الأهلي) “العنصر الأهلي”. وبأن فشل “الوطنية التقدمية السورية” أعاد ظهور ذاك العنصر.

نعم، فشل الحركة السياسية بوعيها المفوّت، أسهم في عودة العنصر الأهلي، لأنه أسهم أولاً في عودة الأيديولوجيا التقليدية (الأصولية السنية)، وهذا ما يتجاهله الصديق ياسين، حيث يرى المسألة الطائفية كمسألة أقليات، رغم أنها مسألة أيديولوجيا مفوّتة. لهذا يحق لنا السؤال: ما هي الطائفة؟ هل هي تكوين إثني، أم أنها وعي؟

يقول الصديق ياسين بأن “الواقعة الطائفية مشتقة، وذات علاقة عكسية مع تشكل الأمة”. وهو هنا يميل إلى اعتبار الطائفة إثنية، رغم الفروق الواسعة بينهما. لأن مسافة كبيرة تقوم بين هذه وتلك، حيث أن الأمة تتضمن طوائف وأديان. ويمكن التنازع بين هذه ضمن الأمة، ولا يخرج هذا التنازع هؤلاء من الأمة. فالبشر الذين يشكلون أمة يمكن أن ينتموا إلى أديان وطوائف. وهنا أشير إلى أن الدين هو وعي/أيديولوجيا، والطائفة إشتقاق أيديولوجي في الدين. ولقد كانت الطوائف الإسلامية أحزاباً تصارع من أجل مصالح كما من أجل السلطة. ورغم انغلاقها لم تتحوّل إلى تكوين إثني، بل ظلت جزءاً من تكوين بشري هو الأمة، وبالتالي إختلفت في أيديولوجياتها عبر اختلاف تفسيرها للدين.

المسألة هنا هي هل أن الأيديولوجيا التقليدية (بفرعها الأساس، أي الأصولية السنية، وفروعها الطائفية، وكذلك بكل الوعي الديني) قادرة على تشكيل “المجتمع السياسي” الحديث؟ أم أن أيديولوجيا أخرى يجب أن تتبلور لكي تقوم بذلك؟ المسألة هي كيف يمكن الانتقال من التكوين التقليدي المسيطر، في الاقتصاد وفي الوعي، إلى التكوين المدني الحديث؟ من الوعي التقليدي والعلاقات المؤسَّسة على ذلك إلى وعي مدني حديث، ودولة مدنية حديثة تستند إلى مبدأ المواطنة وتحكمها المؤسسات؟ وبالتالي فإن المسألة هي ليست في “صنع شعب” أو “بناء أمة”، بل في تشكيل مجتمع مدني حديث، تلعب الأحزاب الحداثية دوراً محورياً في تحقيقه. لكن يجب أن تكون “النخب” والأحزاب حداثية أولاً، تقطع مع الأيديولوجيا التقليدية (أيديولوجيا “الأغلبية”، وأيديولوجيا الأقليات). وهنا ما يُكوّن، أو يُبنى، هو الوعي والدولة، وليس الشعب أو الأمة. ويكون مترافقاً مع السعي لتشكيل الدولة/الأمة. حيث أن الوعي الحداثي يفترض تحقق القضية القومية. دون أن يعني ذلك أن لا يتحقق في أيِّ من الدول القطرية في سياق تحقيق الدولة/الأمة.

إذن، يناقش الصديق ياسين، ليس تكوّن الأمة، بل مشكلة الوعي المفوّت لدى الطيف الحداثي، والصيرورات التي منعته من أن يشكل دولة مدنية حديثة. يتحدث عن مشكلة الحركة السياسية منذ الاستقلال إلى حكم البعث. ويلمس فشل مشروع التطور الذي حملته الأحزاب القومية، لكن دون أن يحلل لماذا؟ إنه يرصد فقط، دون أن يفسّر مثلاً لماذا كان حكم البعث دكتاتورياً؟ وما علاقة ذلك بكل الفروقات الطبقية التي يشير إليها مستنداً إلى باتريك سل؟ وبالتالي لماذا فشل مشروع التطور ذاك؟ إنه يناقش المسألة من زاوية “بناء الأمة” لهذا لم يفسّر شيئاً. ليبدو بأنه ضائع بين أمة موجودة تفككت، وأخرى يجب أن تتكوّن. والمشكلة التي سوف لن يجد لها حلاً تتمثل في أن الأمة المتشكلة تاريخياً سوف يتكرر فيها نشوء الوعي القومي، وهو ما يفشل “السورنة”، حيث لن ترى الغالبية سوريتها إلا في إطار عربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى