صفحات مختارةياسين الحاج صالح

الطغيان مخرجاً من صعوبة السياسة

null
ياسين الحاج صالح
الناس متشابهون، لذلك السياسة ممكنة؛ وهم مختلفون، لذلك السياسة ضرورية. على أن السياسة صعبة دوما. فمن جهة هي تتطلب التسوية بين مصالح اجتماعية متعارضة أو اختلافات بشرية قد تبلغ حد التناقض، ومن جهة أخرى تقضي اتخاذ قرارات صعبة تعود آثارها على حياة كتل بشرية قد تعد بالملايين وعشراتها وربما مئاتها، وبخصوص القوى الكبرى في العالم قد يتأثر بقراراتها سكان الكوكب جميعا، بل والحياة على الأرض. ولعل السياسة كانت صعبة دوما، لكنها اليوم “مسؤولة” أكثر من أية أوقات سابقة في التاريخ. مسؤولة أمام المعنيين بقراراتها، ودائرة هؤلاء تتسع حسب موقع السياسي وبلده والسلطات التي يحوزها. وحتى بخصوص الدول الأصغر فإن “ولاية” السياسة تشمل البشرية كلها منذ الآن من الوجهة المعنوية. ولعل السياسة في أزمة عالمية لهذا السبب بالذات، أعني التعارض المتوسع بين الأطر القومية أو الوطنية للدولة وبين عالمية المشكلات وامتناعها على الانضباط بحدود الدول وسلطانها أو سيادتها. ولعل العالم محتاج اليوم إلى اختراقات فكرية تتيح تصور سياسة عالمية وتصوغ إشكاليتها من جهة، وتحرر من الشعور المقعد بالفشل والذنب الذي ربما تملك مثقفين كثيرين بفعل انقلاب الطوبى الأممية للشيوعية إلى كابوس من جهة ثانية. وهذا ضروري بعد كيلا يتحول رصيد إخفاق الشيوعية إلى حساب جهات مثل الإدارات الأميركية وقمة الدول الثمان وما شابه.
وأصعب ما في السياسة الحكم، أي قيادة الدول وسياسة المجتمعات. التسويات هنا أصعب والقرارات أيضا، والمسؤولية أكبر. والصعوبة أخلاقية وتقنية معا، ثقل المسؤولية وعسر اتخاذ القرار المناسب نظرا لاتساع دائرة المشاركين فيه والمعنيين به، ولأن للقرارات في الدولة الحديثة أبعادا فنية وعلمية وأخلاقية وحياتية.. معقدة ولا يحيط بها السياسيون المحترفون. وليس هناك وسيلة لتمسي السياسة الصعبة سهلة. إن أردنا السهولة فربما الأفضل أن نبتعد عن السياسة. وبالأخص عن الحكم.
لكن بلى هناك وسيلة لتسهيل السياسة: العنف، أي فرض مصلحة معينة ورأي معين بالقوة بدل السعي وراء تسويات شاقة. وتسهيل القرارات ممكن بحصرها بيد فرد واحد أو عدد قليل من الأفراد الحاكمين. وعبر فرض قوانين استثنائية وقمع الخصوم والمعارضين ونشر الخوف في المجتمع المحكوم تغدو السياسة سهلة فعلا. لكن هل تبقى سياسة؟ نحتاج إلى “دورة” من أجل الإجابة على هذا السؤال.
السياسة هشة، وهي صعبة لأنها هشة. ورغم أنها قد تتوسل العنف إلا أن هذا مشروط بأن تهيمن عليه، أي أن تكون للسياسة الكلمة الأخيرة. وهذا هو معنى قولة كلاوسفتز الشهيرة التي قلما تفهم على وجهها الصحيح: إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل مختلفة. فهي تنطوي على رهان أكثر مما هي تقرير لواقع محقق، والمقصد منها السياسة تهمين على الحرب وتحتفظ بالتوجيه والتقرير، وأن العنف مهما اتسع نطاقه أداتي فحسب. وهذا التصور يعكس تقدما في عقلنة الحرب عن تصور أسبق يجعل إبادة العدو هدفا أمثل للحرب ومعيارا للنصر. لكن السياسة المروضة للحرب هذه هشة مع ذلك بسبب انحصار مجالها بين الحرب والحب، أي بين حدين تمتنع في مجاليهما التسويات. الحرب وإغراؤها الضمني الأقصى (أي حين لا تضبطها السياسة) هو محق الخصم، والحب حيث تزول فكرة الخصومة أصلا وتسود المجانية وتذوب الحدود بين طرفين. في الحرب التسوية متعذرة، وفي الحب التسوية نافلة. مجال السياسة يقارب في منطقه مجال التجارة واللعب من حيث هي جميعا أنشطة تفاعلية وتبادلية، لا يغويها الحب ومجانيته لكنها لا تنزلق إلى الحرب ومجانيته المختلفة. وهي تتعامل مع الإنسان لا كمحارب يموت أو يقتل خصمه، ولا كعاشق قد يموت كي يعيش معشوقه، بل مع الإنسان المتوسط في وسطيته وعاديته واجتماعيته. وهي مع ذلك أصعب من الحرب ومن الحب لأنهما “طبيعيان” فيما هي صنعية. لا يحتاج المرء إلى مهارة خاصة كي يحب ولا إلى كثير من الفن كي يقاتل، وبالخصوص لا يحتاج إلى إزاحة ذاته جانبا في الحب والحرب، لكنه محتاج إلى مهارة وصبر وحكمة، وإلى وضع ذاته جانبا كي يكون سياسيا. فعلي السياسي أن يتقمص “العام” كذات خاصة له، وإلا كان سياسيا فاشلا. وإنما لأن السياسة دقيقة وهشة وصعبة هكذا فإن “تسهيلها” بالعنف يقضي عليها. والأصح أن نتكلم في مثل هذه الحال، أعني إحلال العنف محل السياسة، على حكم القوة المجردة، أو على الطغيان.
وحين يقضى على السياسة يقضى على السياسيين أيضا، وعلى الدولة. فالطغيان، أي “الحكم بمقتضى الشهوة والغلبة”، هو أيضا حكم بلا سياسيين. الطاغية أو طغمة الطغيان لا يسوسون أنفسهم ولا المجتمعات المنكوبة بهم. والطغيان المحدث في صيغة الشمولية، وكذلك النظم التسلطية، هي نظم بلا طبقة سياسية، أفرادا مستقلين يعيشون للسياسة ولا يعتاشون منها حسب ماكس فيبر. قد يوجد فيها فريق حكم، لكنه طغمة مغلقة على نفسها، متماثلة مع السلطة وغير مستقلة، ولا سياسة لها غير “العض” على السلطة، فإن غادر أعضاء الطغمة مقاعد الحكم فإلى موت سياسي أو حتى موت جسدي. وبدل الدولة هنا ثمة “ملك”، أو إمارة استيلاء، أو سلطة محض متماثلة بدورها مع فريق الحكم، فإن سقط هذا سقط ملكه وربما سقطت الدولة، لا كمؤسسة حكم فقط بل وأيضا ككيان سياسي تاريخي.
***
الأصل في الطغيان هو الأنانية والكسل، أو الميل الإنساني إلى محاباة الذات وبذل جهد أقل. فاجتثاث الخصوم بالعنف أسهل من منازعات صعبة وتسويات قلقة وقرارات غير مضمونة. بيد أن العنف الاستئصالي لا يكفي وحده لرفض السياسة على هذا النحو. يقتضي الأمر عقيدة إجماع تسوغ رفض التسويات السياسية بعدم وجود منازعات وخصومات وصراعات اجتماعية أصلا. فليس غير عقيدة كهذه تظهر أنانية نظام الطغيان كغيرية وتضحية. أو لنقل إن لزوم العقيدة نابع من حاجة الطغيان إلى إظهار نفسه كفعل حب خالص، فلا فرق بين الطاغية والجمهور، إنه ابن الشعب وحبيب الملايين والقائد المفدى. وتسهم عقيدة الإجماع أيضا في توحيد الفريق الطغياني ورصه على بعضه بما يعدم أية فوارق واختلافات داخله، فيكمل بذلك فعل الخوف، خوف أعضاء الطغمة من بعضهم وخوفهم من الطاغية وخوفهم من الجمهور. النظام يقتضي نزع السياسة (أي المنازعة والاستقلال والمبادرة المستقلة..) من هذا الفريق ذاته كي يكون هذا أداة صالحة لجبايتها أو مصادرتها من المجتمع المحكوم. ولا يستطيع الطغيان أن يجرد محكوميه من السياسة دون أن يجرد نفسه منها. إلا أنه بذلك يفقد القدرة أيضا على سوس طغمته نفسه وضبطها والتحكم بها، فلا تلبث أن تظهر عليها أعراض انحلال وتهتك، على نحو ما اتسم به سلوك “النومنكلاتورة” السوفييتية ونظيراتها في البلدان “الاشتراكية” السابقة من فجور وخلاعة وانغماس في الشهوات.
بيد أن الميل إلى تقليل الجهد ميل إنساني عام، فكيف يؤسس للكسل والطغيان في بعض المجتمعات، وللعقلانية واستقلال السياسة في بعض آخر؟ قد يكمن الجواب في المقاومة. السلطات جميعا تنحو إلى التوسع والطغيان ما لم تواجه بمقاومات تحد منها وتضبطها بحدود ثابتة لا تتعداها. ولعل هناك نقطة مهمة أخرى هي فكرة القانون أو الضوابط والقواعد المستقرة الناظمة لعمل السلطات. وفي الغرب الحديث التقى العاملان معا، أو أن المقاومات التي كانت في أصل الدولة الحديثة كانت مسلحة بالفلسفة اليونانية والقانون الروماني وبأفكار مثل الجمهورية والديمقراطية والحرية. في المحصلة دفعت المقاومات التحررية وفكرة القانون إلى تكون السياسة كمجال مستقل لتراكم نوعي، وولدت السياسة بوصفها “نداءا باطنا” أو “سعيا” حسب ماكس فيبر. يتعلق الأمر بـ”قفزة نوعية” في السياسة والسياسي، تتمثل في تشكلها ملكة سياسية مستقلة، أو “عضوا” سياسيا يرتاح إلى الجهد والنشاط. وتلتقي فكرتا المقاومة والقانون في مبدأ فصل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، الذي ينسب لمونتسكيو.
في بلداننا يحصل أن تنهض مقاومات كبيرة وشجاعة، لكنها ضامرة فكريا وروحيا في الغالب، وتجمع بدورها بين استسهال العنف وبين عقيدة إجماع قومية أو دينية، فلا تشكل قطيعة مع الطغيان. وبصورة عامة فإن الإلحاح الحصري على فكرة المقاومة في عالمنا السياسي والثقافي، دون فكرة القانون والحرية، هو بمثابة تعويل على طغيان للتخلص من طغيان.
نعود إلى القول إن الطغيان محكوم بتناقض ذاتي يقوده إلى نهايته: إنه لا ينجح في تحريم السياسة على محكوميه دون أن يحرم نفسه منها، وهذا ما يفضي إلى عجزه عن التكيف المرن أو ابتكار حلول جديدة لمشكلات جديدة يستحيل تجنبها، فيقود نفسه بنفسه إلا الاندثار. هذه باختصار هي جدلية الطغيان المحدث أو الشمولية. وهي تذكر بجدلية الملك عند ابن خلدون وأجياله “الطبيعية”. فهل من العجيب أن الشمولية كما عرفها القرن العشرين اقرب إلى “الملك الطبيعي” بمصطلح ابن خلدون، أو الطغيان بالمصطلح الإغريقي؟ لكن إذا عرف السبب بطل العجب. فبين الملك الطبيعي والشمولية مشتركان: أولهما رفض السياسة، وما تفترضه هذه من أن المصالح الاجتماعية المتعارضة متساوية في شرعيتها؛ وثانيهما أن الفريق الطغياني المفرغ من السياسة هو بمثابة عصبية محدثة مصطنعة، فلا غرابة أن تسري عليه قوانين الملك القائم على العصبية.
لذلك فالقول إن النظم من هذا النوع تحتكر السياسة لنفسها غير صحيح، فهي نفسها منزوعة السياسة كشرط لتمكنها من نزع السياسة من السكان. لكن نزع السياسة يعني نزع المنافسة والمبادرة والتعدد من المجتمع المحكوم لمصلحة الامتثال والخوف، وحرمان النظام ككل من آليات مراجعة وتصحيح يستدرك بها أسوأ أخطائه. وهو ما يفضي إلى فقدان الدافعية على الابتكار السياسي، ويتسبب في تدني مستوى فريق الحكم، سياسيا وفكريا وأخلاقيا. فالكسل لا ينتج إلا مزيدا من الكسل والانحطاط. وهذه نتيجة مطردة نلمسها عندنا بدرجة تتناسب مع نجاح نظمنا في محق السياسة واستئصالها. وليس التدني هذا غير صيغة أخرى للقول إن الفريق هذا أضحى عاجزا عن سوس نفسه، مستسلما لشهواته وفساده وانحطاطه.
لكن هل القانون المفضي إلى انحلال الطغيان حتمي على نحو ما كان الحال بصدد انحطاط الدول الخلدونية؟ الواقع أن الاتحاد السوفييتي مثال على ذلك. لكن الاتحاد السوفييتي كان منظومة كبرى مستقلة، وتفاعلاتها الداخلية تتغلب إلى حد كبير على تفاعلاتها مع العالم. وقد أسهم الحصار الغربي ذاته في تعزيز استقلالها والدور المقرر لتفاعلاتها الداخلية التي أفضت أخيرا إلى انحطاط نخبة السلطة وعجزها عن تسيير شؤون بلد قاري. الأمر ليس كذلك بخصوص الدول العربية. هنا يستطيع الطغيان أن يتجدد لأن المنظومة غير مستقلة، ولأنها تنال أشكالا مختلفة من الدعم والتغذية من خارجها. تفاعلاتها الخارجية لها دور حاسم وقد تتفوق على تفاعلاتها الداخلية، وهذا هو أصلا معنى كونها غير مستقلة. في مثل هذه الحالة الدينامية الذاتية للطغيان تتشوش أو تتعطل بالكامل، فلا تفضي إلا الانهيار رغم تفسخ عياني لفريق الحكم. وفي مثل هذه الحالة علينا النظر في المنظومة الكلية وتبين دينامياتها وتناقضاتها الذاتية. ويبدو لنا أن “الشرق الأوسط” هو اسم المنظومة التي تدرج ضمنها الدول العربية. وهي منظومة تشمل الغرب المعاصر، السياسي والاقتصادي، وقيادته الأميركية بالخصوص.
لا تكفي الدول “السيدة” القائمة هنا إطارا لمقاربة الطغيان ودينامياته المحركة. نحتاج إلى مقاربة أوسع تضع الطغيان في سياق عالمي. على أننا نعتقد أن الطغيان هذا بدوره مخرج من صعوبة السياسة، وإن كانت الأطراف الأخرى هنا دولا ومجتمعات أخرى.
كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى