صفحات مختارةياسين الحاج صالح

في «التفكير العضوي» والأساطير والانحطاط…

null
ياسين الحاج صالح
تبني هذه المقالة على التمييز بين نمطين أساسيين من التفكير: نمط أول متمحور حول ثنائية أنا/ آخر (أو نحن/ هم)، ونمط ثان متمحور حول ثنائية ذات/ موضوع. الأول تفكير منشغل بالهوية والثاني بالمعرفة. ونصادف نمط التفكير الأول في أوساط الجماعات الأهلية والروابط العضوية كالقبائل والطوائف، لكنه واسم أيضا للقوميات بما هي كذلك، أو لكل إطار اجتماعي يتصدر شاغل التماثل مع الذات والاختلاف عن الغير قائمة هواجس نخبه القائدة. ثم إن التفكير هذا ليس نادر الشيوع أيضا في أوساط أية منظمة سياسية واجتماعية حديثة، تميل إلى تعريف نفسها باختلافها عن غيرها أكثر مما بفاعليتها السياسية المفترضة. ومن شأن شيوع ثقافة سياسية خصامية أو حاملة لنظرة صراعية إلى العالم، مثل نظرة الإسلاميين اليوم والشيوعيين في وقت سابق والقوميين العرب غالبا، وكذلك صعود الحساسيات الطائفية في مجتمعاتنا ونظرية صراع الحضارات الأميركية… من شأنها أن تعزز تفكيرا متمحورا حول «الآخر» أو العدو وليس حول الموضوع.
في شروط كهذه تنحو المنظمات الحديثة لأن تتماثل مع الجماعات العضوية أو الطبيعية، فتكون بلا اختلافات داخلها وبلا أي تماثل مع الغير.
وفي بيئاتنا الاجتماعية والسياسية يتحدد «عضو» المنظمة بأنه يفكر ضد وليس بالتفكير بـ. «يساجل» ويجتهد لإبطال خطط الخصم المفترض وإفشال مشاريعه والنيل منه، فيتلون تفكيره بالانفعال والهوى والتعصب. ثم إن تفكير «العضو» ليس شخصيا، فهو ذائب في نحن كبرى وناطق باسمها ومتداول لأساطيرها وخرافاتها عن ذاتها و»الآخر» والعالم. ونسمي نمط التفكير هذا «التفكير العضوي» مستفيدين من ازدواج دلالة كلمة عضوي. فهي من جهة نسبة إلى عضو المنظمة، ومن جهة أخرى تحيل إلى الجماعات العضوية التي تلتئم حول روابط موروثة، قرابية أو جهوية أو دينية. فالكلمة ملائمة للقول إن المنظمة الحديثة تشبه التكوينات العضوية التي تتميز بضيق الأفق والعصبوية والانغلاق على الذات، ولا تصلح أطرا للترقي الأخلاقي والمعرفي. وهي مثلها أيضا جسم عضوي، والمنتسبون إليها «أعضاء» الجسم التي قد تتفاوت موقعا ووظيفة، إلا أن الاستقلال والمبادرة الذاتية ليست من صفاتها.
لكن كيف يحصل أن المنظمة الحديثة تنزلق إلى رابطة عضوية مولدة لتفكير عضوي، لا لمعرفة موضوعية ولا لتفكير نقدي مستقل؟ قد يعود ذلك إلى أن التكوينات العضوية الموروثة توقفت عن التحلل في بلداننا منذ جيل واحد على الأقل، وذلك بفعل التحول الريعي لاقتصايات الدول العربية، سواء الريع الاستخراجي أو الريع السياسي. وبالعكس تحولت التكوينات الأهلية إلى قواعد لدولة سلطانية جديدة، محتواها الوطني والعام والعقلاني متدن في كل مكان في العالم العربي، إما لمصلحة طوائف أو لمصلحة طغم سلطة مغلقة تشبه الطوائف. وقد نضيف أن الثقافة السياسة العربية والإسلامية ذات بنية صراعية، تفكر كثيرا بالهوية والعدو، بهم ونحن، وقليلا بالموضوع، وقليلا أيضا بالفعل العقلاني (الذي يتوافق مع نمط تفكير ينتظم حول محور منهج/هدف). هذه الثقافة وليدة تجارب راضة في العالم الحديث، لكنها مناسبة أيضا لأنماط السلطة الاستبدادية السائدة في العالم العربي. وبالمقارنة فإن نواة وعي الغرب الحديث متكونة حول «السيطرة على الطبيعة»، أي حول الموضوع، وهو ما يقود إلى تكون ذات منضبطة وسيدة في آن، وإلى الامبريالية عبر إلحاق «الآخر» بالموضوع.
وليست منظماتنا الحديثة خارج هذا الشرط المركّب ولا هي في الغالب مدركة له. بل إنها تنحو على العموم لأن تنسخ في بنيتها بنية نظام السلطة القائم. وهي بنية سلطانية تقوم على الطائفية أو على الانتظام المللي للمجتمع وتعالي مركز السلطة فوقه. والسلطانية والطائفية مؤشران على تقدم حاسم للتشكل العضوي في حياتنا العامة على حساب التشكل الوطني العقلاني. وتاليا للتفكير العضوي (الخصامي والطائفي) على حساب شكلي التفكير العقلاني والموضوعي.
لقد أخذ التطييف يغزو المنظمات الحديثة في كل مكان منذ أخذ يغزو الدول في سبعينات القرن العشرين، وإن دوما من وراء قناع حديث. لكن حتى دون ذلك فإن الانسداد الاجتماعي (انتظام أهلي أو عضوي…) والسياسي (سلطانية واستبداد…) والريعية (وما يقترن بها من محسوبية وفساد…) تشل هذه المنظمات وتدفعها إلى توكيد ذاتها عبر الصراع مع مثيلاتها بدل المعرفة والفعل. وهي بذلك تنضم إلى الروابط العضوية التقليدية لتكون إطارا اجتماعيا إضافيا للتفكير العضوي، فيما لا نكاد نميز إطارا اجتماعيا موافقا للتفكير الموضوعي (ذات/ موضوع) ولا للتفكير العقلاني (منهج/ هدف). وبينما يحصل أن يفكر عضو المنظمة أو حتى الطائفة تفكيرا عقلانيا، إلا أنه يفعل ذلك بصورة جزئية وغير متسقة، ودون مرجعية عامة للفعل. أما التفكير الموضوعي فغير متمأسس اجتماعيا، وحتى الجامعات قلما تكون أطر تأهيل أو احتضان فعالة له.
وهيمنة التفكير العضوي والأطر الاجتماعية المولدة له قد تكون العنصر التفسيري الأول في وفرة الخرافات والأوهام والأساطير في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية. فمن ناحية تنزع المنظمات مثل الدول ومثل الطوائف والأديان إلى تغذية أعضائها بالرسالية وشعور بالاصطفاء لا برهان عليه، ما يولد تفكيرا يجمع بين التمركز حول الذات والتعصب والبدائية. ومن ناحية ثانية لا تتماسك المنظمة دون عقيدة مكتملة متفوقة على غيرها ومعادية لغيرها، ومزيج التفوق والعداء مناسب بدوره للتعصب والوهم. ومن ناحية ثالثة لا تتماسك المنظمة إلا ضد منظمة أخرى، فتنزع إلى أبلسة الغير وتقديس الذات، والأبلسة والتقديس من آليات الأسطرة النشطة. فإذا أضفنا إلى ذلك الهشاشة الاجتماعية والمؤسسية لكل من التفكير النقدي والعقلاني تبدى لنا فائض من الأسطرة، وشحّ في المعرفة الموضوعية وفي التفكير العقلاني المتسق، وفي النقد الذي يمكن أن يتأسس عليهما.
نركز أكثر على المنظمات الحديثة لأنها حليفة مبدئية مفترضة للنقد والتغيير. إلا أنه يصح عليها اليوم النقد الذي ينطبق على «الدولة» من حيث تدهور محتواها العقلاني والعام. وهو نقد لا يمكن أن يصدر منها هي ذاتها. فأقصى ما قد يصدر عن المنظمة الحديثة في طور انحطاطها العضوي هو «النق»، أي التذمر من الظروف (صيغة محدثة للدهر) والشكوى من المقادير وثلب الزمان والحنين إلى الماضي.
ومع انحطاط الدولة السلطاني والمنظمة الحديثة العضوي ينحط فاعل حديث ثالث: المثقف النقدي. إذ بينما تزداد فرص التفكير النقدي وبروز المثقفين مع تحلل التكوينات العضوية ونشوء فردية ومواطنة وتنظيمات حديثة، فإن فرص النقد في أوضاعنا الراهنة تتضاءل، ولا يبقى منها إلا ما يقترن بالتحلل القصدي من التكوينات تلك والانفصال عنها. وهو ما يقدم عليه اليوم أفراد يقلون أكثر وأكثر. إن المثقف اليوم هو من يمكن أن يجمع في عمله بين دور «المنشق» على النظام الحاكم وإيديولوجيته الجامعة، وبين دور «الصعلوك» الذي ينفصل عن العشائر والطوائف و»الأهل». أي واحد من هذين الدورين لا يكفي.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى