صفحات أخرى

تاريخ الدولار من بدايته حتى كونه عملة العالم

null
فادي طفيلي
فكرة العملة العالميّة (Global currency) ليست فكرة جديدة. إذ يمكن استحضار أكثر من عشرة عملات مختلفة كان قد تمّ التداول بها خارج حدود قوميّاتها منذ مئات السنين. الدراخما اليونانيّة تعدّ أقدم تلك العملات العالميّة وربّما أوّلها، حيث ظهرت قبل خمسمئة عام سبقت الميلاد. ثم ظهر الـ”ليانغ” الصيني، والنقود الفضّيّة الهنديّة، والدينار الإسلامي في القرون الوسطى، والدوكاتو الفينيتّي في حقبة عصر النهضة الإيطاليّ، ثمّ الخيلدر (gilder) الهولّندي في القرن السابع عشر، والباوند الاسترليني البريطاني من القرن الثامن عشر حتّى أواسط القرن العشرين، وصولاً إلى الدولار، واليورو، هذا الأخير الذي يعتبره البعض المنافس الجدّي الأوّل للعملة الأميركيّة التي تربّعت على عرش الأسواق العالميّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية.
بالترافق مع انطلاق المستكشفين في رحلاتهم حول العالم، بدأ الكلام عن فائدة أن تكون هناك عملة يسهل حملها ويكون التداول بها ممكناً عبر الحدود والبلدان المختلفة. كرايغ كارمين، مؤلّف كتاب “قصّة حياة الدولار” Biography of the Dollar (Crown Business 2008) يشير إلى تقديرين مختلفين حول ولادة فكرة العملة الموحّدة تلك. فمن جهة، بحسب كارمين، هناك رأي روبرت ماندل، الاقتصادي في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل (كان قد نصح الاتحاد الأوروبي باستصدار اليورو)، والذي يشير إلى اقتراح الكونت الإيطالي في القرن السادس عشر غاسبارو سكاروفي الداعي إلى إصدار عملة الـ”ألتيفونو” (معناها “النور الحقيقي”) وتعميمها في العالم. وفي الجهة المقابلة، بحسب كارمين أيضاً، هناك رأي موريسون بونباس، رئيس ومؤسس رابطة العملة الموحّدة، والذي يرى أن تعبير “العالم” في دعوة الكونت الإيطالي سكاروفي لم يكن ليعني أكثر من أوروبا الغربيّة. إلى ذلك يرجّح موريسون بونباس أن يكون الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل (Mill) هو رائد الدعوة إلى “كوكب مثالي” تتشارك أممه بعملة موحّدة جامعة. ففي كتابه الصادر عام 1848، “قواعد الاقتصاد السياسي: مع بعض تطبيقاتها في الفلسفة الاجتماعيّة”، كان ميل (Mill) قد كتب: “دعونا نفترض أن للدول جميعها العملة ذاتها، وهذا ما سيؤدّي إليه التطوّر السياسي في يوم من الأيّام”.
على وقع افتراض جون ستيوارت ميل المثالي ذاك، شرعت الحكومة البريطانيّة بإصدار العملة الورقيّة التي يصعب تزويرها، كما وتنامت لدى المصارف المركزيّة الرغبة في استقبال الودائع من العملات الأجنبيّة، وليس فقط ودائع الذهب. كانت تلك حقبة تبرعم فكرة العملة العالميّة الحديثة، على ما يشير كرايغ كارمين في كتابه “قصّة حياة الدولار”، حيث لعبت مدينة لندن دور مصرفيّ العالم.
في مسيرة عولمة الباوند الاسترليني البريطاني، اعتمدت لندن في مهمّتها على مواقعها الاستعماريّة المتقدّمة والمنتشرة على الخارطة العالميّة، حيث افتتحت فروعاً مصرفيّة في مستعمراتها، كما أخذت مصارف المستعمرات تلك بدورها، تفتتح مكاتب تمثيليّة لها في لندن. وقد تمدّدت خارطة انتشار الباوند الاسترليني آنذاك من أميركا الشماليّة إلى الشرق الأقصى ونزولاً إلى جنوبي آسيا، حيث صار الباوند عملة الهند الرسميّة في عام 1899.
ممّا لا شكّ فيه، أن بريطانيا استخدمت نفوذها وسلطانها الإمبراطوريين في فرض عملة الباوند الاسترليني على مستعمراتها. إلاّ أن الباوند بحدّ ذاته كان له القدرة على الانتشار وإمكانيّة فرض نفسه بطرق مختلفة، إذ كان ذلك الباوند هو عملة بريطانيا بالدرجة الأولى، صاحبة الاقتصاد الأكبر والدولة المانحة الأبرز، بعاصمتها التي شكّلت مركز الأموال العالمي الأهم.
حتى العام 1871 كان الباوند ما زال يعدّ العملة الوحيدة في العالم المغطّاة ذهبيّاً، أي التي تملك ضمانة غير مشروطة في تحويلها إلى معادل ذهبي. المصرف المركزي الفرنسي في المقابل، وعلى سبيل المقارنة، كان طيلة القرن التاسع عشر يرد طلبات الحكومات الأجنبيّة الساعية إلى تحويل مبالغ الفرانك الفرنسي التي بحوزتها إلى ذهب، مقصراً تحويلاته تلك على الفضّة (كرايغ كارمين).
بحلول القرن العشرين كان الباوند الاسترليني البريطاني قد فرض نفسه كعملة عالميّة يمكن التداول بها في جميع البلدان. لكنّ المفارقة ظلّت في أوروبا، حيث تقدّمت ودائع الفرنك الفرنسي والمارك الألماني في المصارف المركزيّة بوسط أوروبا على ودائع الباوند. ثمّ ما لبث الأخير، وعلى وقع الركود الشهير في الثلاثينات، أن أصيب بنكسة كبيرة حين رفع الغطاء الذهبي عنه. إذ كانت المصارف المركزيّة الأوروبيّة خلال فترة الانكماش قد زادت من طلبات شراء الذهب بواسطة الباوند. فقامت بريطانيا عند ذاك بتجميد التبادل الذهبي مع الباوند في عام 1931.
على الرغم من الركود العظيم في الثلاثينات، ومنذ مطلع القرن العشرين، كانت الولايات المتّحدة الأميركيّة قد بدأت تفرض نفسها القوّة الاقتصاديّة الأكبر في العالم، مفسحة بالمجال للدولار الأميركي في أن يلعب دوره العالمي المستمر إلى اليوم.
والواقع أن الدولار، كما يبيّن كرايغ كارمين واضع سيرته، لم يخلف الباوند البريطاني في موقعه العالمي بعد تنافس مباشر معه. فالمنافسة التي خاضها الباوند طيلة القرن التاسع عشر كانت في مواجهة الفرنك الفرنسي والمارك الألماني وغيرهما من العملات الأوروبيّة. انتشار الدولار في ذلك الوقت كان مقتصراً على أميركا الشماليّة. وكما ينقل كارمين عن المؤرّخ الاقتصادي جي لورانس بروز (Broz) فإن الولايات المتّحدة كانت القوّة التجاريّة الكبرى الوحيدة في العالم التي لم تكن عملتها تشغل موقع العملة العالميّة”.
صعود العملة القوميّة إلى الموقع العالمي يتطلّب، على ما يكتب كارمين، شرطين ملحّين. أوّلاً، أن تكون تلك العملة القوميّة هي وحدها المستخدمة في التعاملات المحلّيّة في بلدها الأم. وثانياً، أن يقف خلف العملة القوميّة تلك مصرف مركزيّ يدعمها ويعطي المصارف الأجنبيّة الثقة في التداول بها.
بالنسبة للولايات المتّحدة، فإنّها بالكاد أمّنت الشرط الأوّل في أواخر القرن التاسع عشر.
في مطلع ستينات القرن التاسع عشر المذكور، ومع حلول حقبة الحرب الأهليّة الأميركيّة، أصدرت الولايات المتّحدة مجموعة من القوانين الماليّة عرفت بـ”القوانين المصرفيّة الوطنيّة”، كرّست الدولار كعملة وطنيّة وحيدة وأسّست منظومة من المصارف المركزيّة ساهمت في تمويل قوى الاتّحاد في الحرب الأهليّة. على أن أميركا في ذلك الوقت لم تؤسّس مصرفاً مركزيّاً واحداً.
“مصرف الولايات المتّحدة الأوّل” الذي تأسّس في فيلادلفيا إثر جهود كبيرة من ألكسندر هاملتون، انتقل في عام 1791 إلى واشنطن. وقد عارض الكثيرون في ذلك الحين مساعي هاملتون الهادفة إلى تقوية مركزيّة المصرف، وحلّ المصرف المذكور وأعيد تأسيسه مرّات عدّة، إذ كانت توجّسات الأميركيين من المركزيّة في أوجها وكانت المساعي منصبّة على وضع فواصل آمنة بين سلطتي الولاية والدولة المركزيّة.
الأمر لم يحسم إلاّ في خضم الحرب الأهليّة (1861 ـ 1865). فابتداء من العام 1863، إذ صدرت “القوانين المصرفيّة الوطنيّة”، وحتّى نهاية الحرب، مُنحت الحكومة الفدراليّة المركزيّة سلطة الإشراف على المصارف المركزيّة. كما وصدر في عام 1913 قانون الاحتياط الفدرالي. القانون المذكور منح هيأة الاحتياط الفدرالي، الذي يعيّن الرئيس الأميركي أعضاءها، سلطة الإشراف على ممارسات المصارف المناطقيّة.
تربّع الدولار في موقع الباوند كعملة عالميّة تمّ بعيد انتهاء الحرب العالميّة الأولى. فإلى الدور المحوري للاحتياطي الفدرالي، الذي شكّل صمّام الأمان في تعاملات الدولار بين الأطراف الأجنبيّة وبين المصارف التجاريّة الأميركيّة، ساهمت مظاهر أخرى أيضاً في إعلاء شأن الدولار. من تلك المظاهر قيام المصارف النيويوركيّة بمنح القروض للدول الحليفة، ما أطلق الدولار في أوروبا. ومنها أيضاً الأزمات التي أصابت العملات المنافسة، مثل المارك والين، حين ارتأت السلطات في ألمانيا واليابان أن استخدام المارك والين المذكورين، في الخارج، قد يحدّ من قدرتهما على التحكّم بالانكماش، فقامت تلك السلطات بالعمل على تقنين تداول عملتها في الخارج.
في الحقبة التي تلت الحرب العالميّة الأولى بدأت المصارف المركزيّة عبر الأطلسي بالاحتفاظ باحتياطي الدولار. وقبيل انهيار سوق الأسهم العالمي بدءاً من العام 1928، كان لدى المصارف المركزيّة الرئيسيّة في أوروبا احتياطيّاً يقدّر بـ600 مليون دولار مقابل 2.9 مليار من العملات الأخرى. على أن الركود العظيم الذي ساد في الثلاثينات جعل ذلك الاحتياطي يتراجع بعد أن استبدلته تلك المصارف بمعادل ذهبي.
الانطلاقة العالميّة الأقوى للدولار جاءت مع نهاية الحرب العالميّة الثانية، حيث تفوّقت العملة الأميركيّة على العملات المنافسة بشكل عكس قوّة أميركا في ذلك الوقت. فالولايات المتّحدة التي خرجت من الحرب قويّة متعملقة، على عكس اليابان والقوى الأوروبيّة، أخذت تنتج نصف صناعة العالم، ونصف الفحم الحجري وثلثي النفط العالميين، وقد باشر مصرفها المركزي إشرافه على ذلك الاقتصاد الهائل.
الدور المحوري للدولار في قلب النظام المالي العالمي كرّس رسميّاً ببلدة بريتون وودز، في نيوهامبشاير، عام 1944. فقد جاء إلى البلدة 730 مندوباً من أربعين بلداً وذلك على أثر الكارثة الاقتصاديّة في الثلاثينات حين انهارت التجارة العالميّة نتيجة الضبط المالي والقيود التي كانت موضوعة أمام انتقال البضائع. كان هدف المجتمعين في بريتون وودز خلق نظام جديد يسهّل انتقال الرأسمال الاستثماري عبر حدود الدول.
خطّتان تنافستا في اجتماع بريتون وودز. واحدة اقترحها جون ماينارد كينيس (Keynes)، الاقتصادي البريطاني الشهير، وأخرى اقترحت من قبل مجموعة من الاقتصاديين الأميركيين على رأسهم هاري ديكستر وايت. خطّة كينيس اقتضت بابتكار نظام مالي عالمي جديد، وذلك عن طريق إصدار احتياطي مالي، يعرف بالـ”بانكور”، ويكون ملحقاً باحتياط الذهب. أمّا الخطّة الأميركيّة، التي تبناها المجتمعون في آخر الأمر، فقد ارتأت تثبيت الدولار بقيمة الذهب بمعدّل 35 دولاراً للأونصة، وترتيب العملات الأخرى بحسب قيمتها تجاه الدولار.
اجتماع بريتون وودز جعل الدولار بقيمة الذهب، وذلك بإشراف المصرف الأميركي المركزي. بات الدولار عملة مرغوبة في كلّ العالم، ما أدّى في العام 1971، إلى أن تملك الدول الأجنبيّة ودائع في الدولار تفوق قيمة الذهب الذي بحوزة الحكومة الأميركيّة بمعدّل ثلاثة أضعاف. الأمر الأخير عنى عجزاً واضحاً، واستدعى التخلّي عن التغطية الذهبيّة.
الحقبة المهمّة الثانية في مسيرة الدولار كانت في عام 1989 حين انهارت الكتلة الشيوعيّة وانفتحت الدول الاشتراكيّة السابقة على الأسواق المتعولمة وعلى عملتها الرئيسيّة، الدولار. لكن ومع الألفيّة الجديدة، يشير كرايغ كارمين، كاتب سيرة الدولار، إلى الملامح الجدّيّة الأولى لتراجع تلك العملة الأميركيّة ـ العالميّة. أولى الملامح تلك، بحسب كارمين، هي ولادة اليورو في عام 1999.
ولادة اليورو تشير، كما يقول الاقتصادي العالمي باري إيشنغرين، إلى ظهور منافس حقيقي للعملة الأميركيّة، حيث بدأت هذه العملة الجديدة في تغيير المشهد المالي العالمي. وفي هذا السياق ترتفع احتياطات اليورو بالتدريج من موسكو إلى الرياض، وتتحوّل بعض الدول باحتياطاتها ومعاملاتها الماليّة من الدولار إلى اليورو بشكل كامل. كما يشير كارمين إلى التطوّر التقني الذي طرأ في مشهد المعاملات الماليّة. التطوّر المذكور بات يؤثّر على دور الدولار كعملة وسيطة بين العملات المختلفة، الدور الذي يشكّل أحياناً 90 في المئة من تعاملات الدولار. إذ بات ممكناً اليوم، وعلى نحو أسهل بكثير عما كان يجري في السابق، التحوّل من عملة محدودة الانتشار إلى عملة أخرى مشابهة من دون المرور بمعبر الدولار.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى