صفحات سورية

تقويض النقد والتحايل على الذات كرديَّاً سوريَّاً

null
هوشنك أوسي
وكأنَّ حالة “التعقيد” و”التأزُّم” و”الغموض” والفوضى والعطالة والعطب والتلف…، التي تنتعش بها الحركة الحزبيَّة الكرديَّة، باتت تستجوب نقَّاداً من العيار الثقيل، من الأكادميين والمختصِّين ومن عباقرة النقد وفطاحلته، من الأكراد السوريين، حسب رأي البعض!. وعليه، قبل أن ينبس هؤلاء ببنت شفة، حيال الحركة الحزبيَّة، يطالبوننا بإبراز الصكوك الثقافيَّة والمعرفيَّة التي تخوِّلنا تجشُّم عناء هذه المجازفة والمغامرة غير محمودة العواقب، وهي، نقد هذه الأحزاب العظيمة، ومشاكلها المزمنة العويصة!. هذا هو منطق، البعض من مثقفين الأفاضل، ممن خرجوا عن صمتهم، وبدأوا بنقد الحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية، ونقد من ينتقدها على حدٍّ سواء!، محددين خصالاً معيَّنة للناقد الذي يفترضونه أو يتوخُّون جهده، راسمين خطوطاً وحقولاً ينبغي اجتازها، ومراتب علميَّة ينبغي الوصول إليها، وسجايا ورزايا، ينبغي أن يتحلَّى بها…، حتَّى يمتلك الأهليَّة الكرديَّة والعلميَّة والمعرفيَّة والثقافيَّة والنفسيَّة والتربويَّة والاجتماعيَّة…، التي تجيز له توجيه النقد للحركة الحزبيَّة الكرديَّة العتيدة، التي حالها، “يصعب على الكافر”، كما يقال في المثل الشعبي الدارج!. ولَعمري، إن هذه الحركة، وراهنها البائس، جليُّ للعيان، ولا يحتاج لجهابذة علم النفس التحليلي وعلم النفس السلوكي (فرويد _ يونغ)، أو لتلك الوصفة، شبه التعجيزيَّة التي ينبغي توفُّرها في الناقد المأمول، والذي يُفترض أن يكون على مزاج البعض، ممن آثروا الصمت، وحين تحدَّثوا، طالبوا بأن يكون النقد ملكة النخب، وليس ملكة الشعب، الذي هو الأحقُّ في التعبير عن ذاته، ورفضه لهذا البؤس المتراكم والمتفاقم الذي تنجزه حركته الحزبيَّة التي تعتبر نفسها أداةً للتخفيف من معاناة هذا الشعب، وردَّ المظالم عنه، والدفاع عن قضيته وحقوقه، لا العكس!.
الحقُّ، إن كاتب هذه السطور، قد حار في أمرِ البعض من مثقفينا الأفاضل!!. فحين بدأت بكتابة سلسلة المقالات النقديَّة في الحال المزرية للأحزاب الكرديَّة السوريَّة، بكثير من الحزم والصرامة والصراحة، داعياً للنقاش والجدال الصريح ممَّن يهمُّه الأمر. وإذ بالبعض من مثقفينا، غامزاً إلى أن الجهد الذي بذلته، هو بداعي الحصول على “الشهرة والصيت وإظهار الذات…”!!. وحين قلت لهم: يا سادة؛ لست بعازة واحتياج لهذا الصيت الموبوء الموهوم، لأنَّي قد حققتُ حضوراً معقولاً في الصحافة العربيَّة والكرديَّة، في فترة قصيرة نسبيَّا، أعاد هذا المعشر من المثقفين غمزه من ساقيَّة، أنني التمس من ذكر بعض نشاطي وجهدي، “مدحاً ذاتيَّاً، وأنني مغرور ومتكبِّر، وتمتلكني الخيلاء والتباهي…”!. وبالنتيجة، ماذا أقول لهؤلاء الأفاضل، أكثر من أن يتفضَّلوا ويعينوا هذه الأحزاب المتآكلة بنقدهم إيَّاها، وإعادة النقد لجادة صوابه، وتبوّء هذا المعشر من المثقفين مكانتهم التي تليق بهم، في التأسيس لحال نقديَّة جديَّة، قادرة على تحريك الشارع الكردي والوعي السياسي والثقافي الكردي في وجهة الرداءة السياسيَّة التي تطفح بها الأحزاب الكرديَّة، وخلق سلطة رأي عام رقابيَّة على أداء الأحزاب ورموزها، وردعهم عن أخطائهم، وبل آثامهم التي يرتكبونها في حقّ الشعب الكردي السوري، جهاراً نهاراً، وقياماً وقعوداً!. فليتفضلوا بنقد هذه الأحزاب، ونقد من ينتقدها، إنْ كان هاجسهم النهضة والاستنارة، وفصل الغثِّ من السمين، سياسيَّاً وثقافيَّاً، وتصويب مسار النقد، وإعادته لجادّة أهدافه وأدواته، وليبعدونا عن “أكثر الأكاذيب شيوعاً، التي نوجهها لأنفسنا… أن تكذب على الآخر، فهذه حالة نادرة، مقارنة بكذبنا على أنفسنا”، على حدِّ تعبير نيتشه.
لقد حاول كاتب هذه السطور، إعلان القطيعة عن البؤس والخراب السياسي الكردي، ونقد هذه الحال التالفة المُلتفة، بشيء من الصرامة والجديَّة اللاذعة، مستقصياً عن نتاج وإنجازات هذه الأحزاب، سياسيَّاً وثقافيَّاً، وطنيَّاً وقوميَّاً، ومستجليَّاً فحوى الخطاب السياسي الكردي السوري، ومدى انسجامه مع أداء وإمكانات وخبرات هذه الأحزاب، والإشارة إلى أنه في الخطاب، مهمٌّ جداً المعنى. و”الأهم هي شروط تحقيق المعنى”، على حدّ تعبير ميشال فوكو. فهل السؤال عن ماهيَّة مطالب هذه الأحزاب الكرديَّة، وما تعنيه من الحقوق القوميَّة، وهل تريد الاستقلال أم الفدراليَّة أم الحكم الذاتي…الخ، هل في هذا تطاول على جمهرة هذه الأحزاب، ورداءة أداءها، وأنانيَّة قادتها!؟. هل حين استفسرت عن سقف الحقوق السياسيَّة، أو تحديد أجندة هذه الحقوق وضبطها بذكر رزمة محددة من المطالب، بدلاً من تركها، مبهمة فضفاضة، عير واضحة المعالم، هل في هذا، تطاول على هذه الأحزاب، وتطفُّل على النقد!؟. هل مطالبة هذه الأحزاب، بتحديد ما تريده من الحقوق الثقافيَّة، كي نكون نحن الأكراد السوريين، على بيّنة من سقف حقوقنا الثقافيَّة هنا في سورية، يتطلَّب النقد هنا، صكوك أكاديميَّة، تبعد عنَّا “الحرج”، كما يظنُّ البعض من نقَّاد الأحزاب الكرديَّة، ونقَّادِ نقَّاد الأحزاب الكرديَّة، ممن يبدو عليهم لم يسمعوا بشيء اسمه “نقد النقد”، أو لا يستسيغونه!. فأن يتحوَّل النقد إلى منقود، فهذا من مستوجبات ومستلزمات وبديهيات النقد، وبل أحد مفاعيله ودينامياته، التي ينبغي إفساح المجال لها كرديَّاً سوريَّاً، قد المستطاع، بدلاً من نبذها وتقويضها أو تحجيمها، إو إرجائها، أو إحالتها لمن يتوفَّر فيه “النصاب الأكاديمي” اللازم، بحجَّة منع اختلاط النقد باللانقد، وعدم إثارة البلبلة والفوضى المعرفيَّة أو الثقافيَّة التي تشوش بوصلة نفوس وعقول ساستنا الأفاضل، “المطمئة والمطمئنَّة”، بدلاً من تصويبها وضبطها. وبما أن النقد، ونقد النقد، هي إحدى أدوات التنمية الثقافيَّة والمعرفيَّة، ومحاولة البعض نأي الذات والآخر عن هذه الأداة الضروريَّة للمجتمعات والأفراد، يحضرني هناك رأي لكانط، مفاده: “يمكن لشخص ما، فيما يتعلق به شخصيَّاً، أن يؤجِّل الحصول على معرفة، لا بدَّ له من الحصول عليها. أمَّا أن يُعرض عنها، وأن يحرم منها الأجيال المقبلة، فهذا ما يُسمى بالتجنِّي على الحقوق الإنسانيَّة المقدَّسة ودهسها”.
باعتقادي، ينبغي على المرء أن يكون متصالحاً مع ذاته، ومنسجماً مع قناعاته، وهذه إحدى أهم حقوقه، التي يفترض أن يمارسها دون انتقاص. وإن كان المرء، من المهتمِّين بالشأن العام، (ساسة ومثقفين)، تظهر هنا، جديَّة المسؤوليَّة المناطة به في ما يتعلَّق بحساسيَّة وأهميَّة تعاطيه مع الهمِّ العامّ، ومدى انسجامه مع آمال وآلام شعبه وتطلعاته وطموحاته. ومن أخطر ما يمكن أن يسقط في المرء، أثناء حراكه واشتغاله في الشأن العام، وانشغاله به، هو السقوط في فخِّ الدوغما القوميَّة أو الثقافيَّة أو السياسيَّة أو الاجتماعيَّة. حينئذ، تصبح حياة المرء، ترجمة للوثنيَّة الظاهرة أو المقنَّعة، سياسيَّاً وثقافيَّاًَ!. وعليه، من المؤسف القول: إن الكثير من سياسيينا ومثقفينا الأكراد السوريين، قد سقطوا أو أسقطوا أنفسهم في هذا المطبّ، والبعض على مشارفه، والبعض، استهوته لعبة “السير على الحافَّات السمننة”، بتعبير إبراهيم محمود!. وإذ بنا أمام “أوثان في هذا العالم، أكثر من الحقائق”، بتعبير نيتشه!.
ويبدو أن بعض مثقفينا (من أصحاب الإجازات الجامعيَّة) قد استكثر علينا نقد هذه الأحزاب، إمَّا ميلاً لها، وإمَّا رغبة بأن يكونوا هم روَّاد هذا النقد، ولهم قصب السبق فيه، أو يكون من امتيازاتهم، بدلاً من شاب كرديّ، لم ينل نصيبه من التحصيل الدراسي إلا الإعداديَّة!. وفي هذا المسعى، سعى هؤلاء إلى التلميح بعدم جديَّة أو جدوى نقدٍ كهذا، وألاَّ منفعة منه، ولا أمل فيه!. ويبدو أن البعض قد اختلط أو التبس عليه الأمر بين النقد الأدبي والنقد السياسي. إذ يتطلَّب الأول ضرورة امتلاك مرجعيَّة معرفيَّة منهجيَّة صلبة وميتنة ومحكمة، فيما النقد السياسي، يستوجب الحسَّ والوعي النقدي، وبنية تحليليَّة ومعرفيَّة معقولة. وعليه، ينبغي تنميَّة وتغذية الحسَّ والوعي النقدي في المجتمع من قبل مثقفينا، لا أن يعطِّلوا المجتمع بجعل النقد، منصَّة للنخبة وحدها. وأعني، أن من أهم مهام ومسؤوليَّات المثقف الكردي، هو جعل المجتمع الكردي مجتمعاً ناقداً، فاعلاً، نشطاً، في مسعى تعزيز سلطته الرقابيَّة على ما كلّ هو سياسي واقتصادي واجتماعي وحتَّى ثقافي، من حراك يزعم أنه يخدم الصالح الكردي السوري العام. وإن سعى مثقفنا نحو هذا، واجتهد في ذلك، يكون قد أكسب مجتمعه حيوية وديناميَّة، تبقيه محصَّناً في مواجهة كل المخاطر والتحديَّات الداخليَّة والخارجيَّة المحدقة به.
أعجب من مواقف بعض مثقفينا الأفاضل، حين ينتقدون الأحزاب الكرديَّة، ويطعنون في كاتب هذه السطور، كناقد لها!. وكأنَّه لا يحقُّ لي النقد!، وكأني لست كرديَّاً سوريَّاً!، وكانِّي غير مجرَّد من الجنسيَّة ومحروم من حقوقي المدنيَّة!. وحتَّى لو كان نقدي لهذه الأحزاب، فيه ما فيه من الخطأ، وهذا لا شكَّ أو شبهة لديَّ حوله. لكن، جانب مهم من الصواب أيضاً فيه. ثمَّ أن حجم الخراب والبؤس السياسي والثقافي الذي نعيشه كشعب كردي سوري، بمعيَّة هذه الأحزاب التعيسة المنكوبة، يتجاوز النقد الذي وجَّهته لها!. ثمَّ، لماذا يحاول البعض ثنينا عن النقد السياسي، ويتغافلون قول النبي محمد (ص) “من اجتهد وأصاب، فله أجران، ومن أخطأ فله أخر”؟!. وعليه، حتَّى الاجتهاد الخاطئ، له أجره وثوابه، إلا عند مثقفينا الأفاضل، الذين يتفرَّجون على أخطاء وخطايا وآثام قادة الأحزاب الكرديَّة السوريَّة طيلة 50 سنة، وينتقصون من قيمة ما قدَّمه كاتب هذه السطور، من أفكار وانتقادات وملاحظات ومعلومات موثَّقة حول نشأة وحاضر الحركة الحزبيَّة الكرديَّة السوريَّة، والدعوة للنقاش، والردَّ بالقرينة والحجَّة والبيَّنة الدامغة. وأمَّا ما أتاني من محازبي هذه الأحزاب المنكوبة، أو من بعض السفهاء الحاقدين، من سبٍّ وشتم وإهانة، فهذا ما كان متوقَّعاً من أناسٍ مرضى ومنكوبين بالأحقاد والضغائن والجهالة، ولا ولم يثير هذا عندي سوى الشفقة والأسى عليهم. ولن يقف هذا حائلاً دون مواصلة مسعاي في التصالح والانسجام مع أفكاري ومواقفي الحاليَّة، والتعبير عنها بكل ما أتويت من الوضوح والجرأة والمكاشفة. أما في الآتي من الأيام فـ”لا يهمُّني أن أكون الكائن نفسه دائماً. أنني أحب التجريب، وأكتب بهدف تغيير نفسي، وابتكار أفكار جديدة، تلغي أفكاري القديمة”، على حدّ قول فوكو، الذي انتقد الحداثة الأوروبيَّة وأنساقها ومفرزاتها. في حين، يستكثر علينا البعض من مثقفينا الأفاضل نقد التخلُّف والتلف والعطب والعطالة السياسيَّة والثقافيَّة، التي “تنعش” المجتمع الكردي السوري!.
وأعتقد أنه خير ما يمكن أن أختتم هذا المقال، هو إيراد مقتبس من مقال لعمانوئيل كانط، هو عبارة عن إجابته حول سؤال طرحته مجلة “البرلينيَّة الشهريَّة”، حول ما هي الاستنارة، ويعالج فيه كانط موضوعة قدرة الأفراد على اتخاذ القرارات المستقلة، باستخدام أفكارهم ومعارفهم الخاصَّة، دون الرجوع إلى وصاية المجتمع والدولة أو بعض الأنساق السائدة. ن من شأن ذلك، الإشارة إلى مدى ضرورة وحاجة مجتمعنا الكردي السوري، ونخبنا السياسيَّة والثقافيَّة على وجه الخصوص، للتنوير. ليكونوا على دراية، كم نحن بعيدون عن مستلزمات “النهضة والتنوير والإصلاح، لإنجاز وعي وثقافة وسلوك ديمقراطي”، على حدّ تعبير أوجلان.
ما هو عصر الاستنارة؟ هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر عند الإنسان، خارج قيادة الآخرين. والإنسان القاصر، مسؤول عن قصوره، لأن العلَّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار، وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر الاستنارة.
إن الخمول والجبن، هما السببان اللذان يفسران وجود عدد كبير من الناس، قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من قيادة غريبة عنهم، لكنهم ظلوا قصّراً طوال حياتهم، عن رضا منهم، حتى ليسهل على غيرهم فرض الوصاية عليهم. وما أسهل أن يبقى المرء قاصراً. فإذا كان لدي كتاب، يحتل عندي مكان الفكر، وقائد يعوِّض الوعي فيّ، وطبيب يقرر ليَّ برنامج تغذيتي…الخ، فلا حاجة ليّ في أن أحمِّل نفسي عناء البحث. ولا حاجة ليّ في أن أفكِّر، ما دمت قادراً على دفع الثمن، لكي يقبل الآخرون على هذه المشقة المملة.
إن الأغلبيَّة الكبيرة من الناس… تعتبر تلك الخطوة نحو الرشد عظيمة الخطر. فضلاً عن أنها أمر مرهق. ويساعدهم على القبول بحالة القصور هذه، أولئك الأوصياء الذين آلوا على أنفسهم ممارسة سلطة، لا تطال على الإنسانيَّة. فبعد ان أطبقوا سجن البلاهة على قطعانهم، وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة، حتَّى لا تسمح لنفسها بالمجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حُشرَتْ فيه، أظهروا لها الخطر الذي يهددها، إن هي غامرت بالخروج وحدها. لكن، الخطر ليس كبيراً في حقيقة الأمر، لأنها، لو أقدمت عليه، فسوف تتعلم السير، بعد عثرات قليلة. إلا أن مثل هذه الكبوات، تولد الاحتراز. وعادة ما يحملنا الخوف، الذي ينتج عن ذلك، على العدول عن محاولة أخرى. لذلك فإنه من العسير على أيّ شخص بمفرده الإفلات من حالة القصور التي كادت أن تصبح طبيعيَّة فيه، إذ صار يرتاح إليها، غير قادر في هذه الفترة، على استخدام فكره الخاص، وقد حرم من فرصة المحاولة. فالمؤسسات والصيغ الجامدة، أيّ تلك الآلات المختصة باستعمال العقل، أو بتعبير أدقّ، باستعمال سيّء للمواهب الطبيعيَّة، هي الأغلال التي علقت على أرجل القاصرين، في حالة القصور التي ما زالت قائمة. وحتَّى إذا تخلَّص أحدهم من هذه الأغلال، فهو لا يستطيع القيام إلا بقفزة غير واثقة من فوق أصغر الأخاديد، لأنه لم يتعود بعد على تحريك ساقيه بحريَّة. لذلك فإن قلَّة من الناس، توصلت، من خلال إعمال ذهنهم الخاص، إلى الانعتاق من حالة القصور والقدرة على السير بخطوة ثابتة. أما أن يستنير جمهور بنفسه، فهذا يدخل أكثر، (من ان يستنير شخص بمفرده كما تبينه الفقرة السابقة)، في حيز المحتمل. بل أن هذا الاحتمال، لا يمكن تجنُّبه إذا ترك للجمهور قدر كاف من الحرية. إذ لا بد من وجود عدد من الناس يفكرون بأنفسهم ضمن الأوصياء الرسميين على الجموع. أولئك الذين تخلَّصوا من نير حالة القصور، وطفقوا ينشرون بين الناس روحاً تجعلهم يقدِّرون قيمتهم الخاصة، وجنوح كل إنسان إلى التفكير بنفسه. وعلينا أن نلاحظ، أن الجمهور الذي كان تحت سلطة هؤلاء الأوصياء، سوف يجبرهم، بعد ان تحرر منهم، على البقاء في وضع أدنى، حين يدفعه بعض من الأوصياء الآخرين، ممن عجز على التمتع بمزايا الاستنارة، إلى الانتفاضة العنيفة. وذلك يدلنا على مضار الأحكام المسبقة، والتي تنتقم ممن زرعها، أو ممن سيأتي بعده، لأن الجمهور لا يصل مرحلة الاستنارة، إلا على مهل: فبإمكان الثورة ان تسقط الاستبداد الفردي، والاضطهاد المستغل أو الطموح، ولكنها لن تأتي أبدا بإصلاح حقيقي لطريقة التفكير. بل تولد، بالعكس، أحكاماً مسبقة، جديدة، تشكل مع الأحكام المسبقة القديمة، تخوماً تفصل الثورة عن الجموع الكبيرة المحرومة من التفكير.
أما بالنسبة للاستنارة، فلا شيء مطلوب غير الحرية، بمعناها الأكثر براءة. أيّ، تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين. إلا أنِّي أسمع الآن، وفي كل اتجاه من حولي، صيحة تقول: “لا تفكروا. فالضابط يقول: “لا تفكروا، عليكم ان تنفذوا…”، (هناك سيد والمسؤول المالي يقول: “لا تفكروا عليكم ان تدفعوا”، ورجل الدين يقول: “لا تفكروا عليكم ان تؤمنوا” واحد في العالم يقول: “فكروا قدر ما تشاؤون، وفيما تشاؤون ولكن عليكم ان تطيعوا). في كل مكان يوجد تحديد للحرية. ولكن أيّ تحديد، يناقض الاستنارة؟. وما هو التحديد الذي لا يناقضه، بل والذي يمكن أن يكون لصالحه؟ أجيب، فأقول: إن الاستخدام العام لعقلنا، لا بد ان يكون حراً، في جميع الحالات. وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالاستنارة إلى البشر. غير أن الاستخدام الخاص لعقلنا، لا بد ان يخضع لتحديد صارم جداً، دون ان يكون ذلك من الموانع المحسوسة في طريق الاستنارة).
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى