صفحات ثقافية

كأني صديق لي

null
زياد خداش
اعتدت بين الحين والآخر او بين بضعة نصوص واخرى، ان أجلس بهدوء وبصخب معي ،أناقشني فيما اكتب، احبني او اكرهني، أشتمني أو أعانقني، أتوعدني بعزلة بيتية اجبارية، او اكافئني بوجبة فاخرة، في بيت امي، هكذا اتفقد بوعي وألم بقعي المخزية والمشرفة، الكاذبة والصادقة، أوبخني اذا لزم الامر، وانخزني بأسئلة مخيفة ورحلات استجواب مميتة احيانا: أين تنازلت عن صفاءغيومي تحت ضغط اصطخاب ذهني ما؟، اين كتبت لأني مضطر لأحشو فم عمودي بالكلمات والصور الشعرية المجانية؟ اين تورطت في مديح مجاني لشخص او كتاب، احساسا بذنب ما او خوفا من روحي الاغترابية المدمرة او تكفيرا عن عدم ثقتي بالجنس البشري؟ أين بالغت في ذم شخص أو كتاب لأنني ناقم على ظاهرة او حالة ثقافية محيرة؟ أين كنت رائعا وحقيقيا لأني قلت ما يجب أن يقال في وجه شخص او مؤسسة او رأي ثقافي عام؟ أين خنت مخيمي وهربت من شخوصه الذين يلاحقونني بثراء مشاعرهم واحلامهم، وأين اعطيته ما لا يستحق من البطولة، واين سرقت منه وجهه وبعته لوجه المدينة الخاوي الساحر،؟. أين كتبت لالفت انتباه امرأة احببتها؟ اين فشلت في استخدام تجربتي الحياتية الشخصية في اضاءة حالة وجودية او انسانية عامة؟ اين وكيف كسرت حاجز الخجل والخوف وكتبت اعترافاتي وتجاربي وخساراتي، بشجاعة وجمال في زمن ثقافي فلسطيني لا احد يعترف فيه، امام الاخرين الا ببطولاته وانجازاته؟. اين كتبت الجنس الغرائزي، اين وظفته بشكل جيد، أين هربت الى غموض مفتعل لأتخلص من انسداد طرق احداث قصصي؟ الى اي حد كان استخدامي لتقنية الاستبطان موفقا؟ لماذا اكتشفت (او هنري) (وريموند كارفر) متأخرا؟ هل انا قريب بما فيه الكفاية من الناس لاكتب عنهم؟ هل يجب ان اكون قريبا منهم؟ ومن هم الناس؟ هل اقرأ بما فيه الكفاية؟ هل اتعمق بما اقرؤه؟ الى اي حد اضرت لغتي القصصية الشعرية بالبناء الفني لقصصي؟ كيف نجحت بامتياز في اخفاء مصادري ونوع قراءاتي عن قرائي؟ هل نصوصي نسيج وحدي؟ هل من أثر لآخرين؟ كيف كنت ذكيا وقويا حتى امنع لغة الصحافة من التسرب الى مفرداتي وعباراتي؟ هل آذت مهنتي مخيلتي؟ كيف استطعت ان اقاوم احداث حياتي المبتذلة واصدها عن فضائي الفني؟ هل قصرت في الكتابة عن فلسطين؟ من هي فلسطين؟ ما مفهومي لها؟ هل حقا انا كاتب مرفه وارستقراطي المخيلة وبعيد عن الارض كما وصفني احدهم؟ لماذا معظم شخوصي يعانون من الاغتراب؟ هل لانهم بالفعل يعانون من ذلك ام لانني انا الذي اعاني، فأعكس ازماتي عليهم واجبرهم على النطق باسمي؟ أين واين وهل ومتى وكيف، واين، هأنذا أشدني من شحوبي (أريتم هأنذا اسقط في غواية البلاغة ومصائد الشعر)، وأجرجرني على أرض الكلمات، حتى يدمى بطني، فاشعر بسعادة نادرة غامضة، فقد اغتسلت بالقسوة المطلوبة، وحصلت على انارة مناسبة لطريق الجنون الذي تورط فيه كياني كله جسدا وروحا، اسمع داخلي صوتي يقول لي: لولا المخزي ما كان المشرف، كأني شخص آخر،كأني صديق لي، شيء يشبه أن اتمدد على طاولة في بهو روحي،ثم انحني دون قفازات وبمحبة بالغة وقوة ناعمة وعيون صريحة ومفتوحة، على جسدي، افتش فيه عن ندوب جديدة او التهابات او انتفاخات او تجعدات هنا وهناك، لأراجع طبيبا فيما بعد او اعالج نفسي بالرياضة و الأمل والغذاء.
في جلستي هذه، أرى من نافذتي شبح القارىء النخبوي المثقف الذي يجلس منذ الفجر في حديقتي مبتسما، منتظرا اياي لابتكر جديدي، ما ان افتح الباب حتى يهب في وجهي : أين أنت؟ ما زلت أنتظر وقاحتك وعذريتك وعمقك،فأمتعه بهذياني وصوري الغريبة وشخصياتي المركبة،وغموضي الصغير،وبخضي للفكرة الملعونة المنتظرة واليقين المدجج بطمأنينة مزيفة، وبجانبه تماما ارى قارئي الذي لا يقرأ الا ما يخدم همه الآني، القارىء العادي السطحي المتذمر الذي يبحث عن تفسيرات وحلول لهمومه اليومية، ينتظرني باعتباري صحافيا في نظره، وظيفتي ان ادافع عن المظلومين، في المؤسسات والوزارات، ليسبني ويركلني لاني لا أتحدث عن هموم المعلمين او هموم بائعي البسطات، وغلاء اسعار الدواء، الخ…
أفهمك ايها النخبوي وايها العادي، لكني لن اخضع لما تنتظران مني، سأكتب احساسي وعفن خبزي وأكياس قمامتي الطافحة و المرمية من ايام في مطبخ غرفتي، سأكتب ألمي وسخافتي وكراهيتي وخارطة جيناتي الابداعية ولن انتظركما ، سأقدم لكما القهوة على ان تغادرا حديقتي بعد قليل، فثمة موعد لي مع طائري الاسود ذي المنقار البرتقالي.
تعالي يا أخطائي لاشمك وأعشقك، ففي جوفك أجد بهاء الكتابة، كم أحب أن ألمس جلدك المجدور، وأغرق في اعاقة بصرك، اعتدت أن أعلقك على مسمار في حائطي،ثم أحملك بين يدي وألوح بك لي او امددك بجانبي و انام معك لاستجوب جذورك، اسمع نفسي اقول لي: انظر كم مرة وقعت في هذا الخطأ، لا تشفق على جملة جميلة تتوسل اليك بدموعها النبوية والانيقة ان تدخل نصك، حتى لو كشفت لك عن نهدها الذي لا يوصف، اذا قال لك نصك لا فصدقه فورا، ثق به، وبقدرته على الفهم والفرز، لا تثق بك، لانك ضعيف امام ما تخلق. هم بمثابة اطفالك وهم ينادونك لنزهة برية او عشاء سخي في متنزه او ناد يعج بالموسيقى والاطفال والعائلات، أعرف، لكن نصك ايضا يحتاج حياته ونسغه الخاص ونزهاته وعشاءه وشبابه ومخياله ورسالته ومشروعه، فلا تخيب ظنه فيك، لا تقع في اغراء رنين لغوي ما حتى لو ملأ لحظتك الجافة بالمتعة والماء والرقص، اذا تعارض ذلك مع سياق النص، تذكر الروائي الامريكي الجميل توماس وولف، كيف كان يقتل فصولا جميلة جدا احبها ووقع في غرامها. تذكر كم بكى في غرفته الكئيبة لانه اضطر الى قصف عنق جمل عشقها وذهل بها، فقط لانها لقيطة ولا مكان لها في النص.
ثق بنصك، يا صديقي، اكتب ما تحسه بالضبط، دع الكلمات تأتي اليك، لا توقظها قبل اوانها، دعها تنام كفايتها، لا تمارس معها الحب دون موافقتها، ستجيء لوحدها، تعانقك او ترفضك، لا تجبرها على المجيء. لا تستخدم العصا او الجزرة لاستدراجها، فتت لها احساسك كما تفتت لطائرك الاسود ذي المنقار البرتقالي ارغفة الخبز المبلول على جدار حديقتك، وكن هادئا وأنت تنتظرها، لا تتوتر اذا تأخرت، اذا كان احساسك بالمعنى حقيقيا، اذا كنت تعيش المعاني، تتنفسها، فستأتي الكلمات المناسبة لها لتلبسها فورا، ويتحقق الانبهار. لا تستعر عبارات الاخرين، اياك ان تستخدم الجمل المعتادة مثل: عريض المنكبين، او هائما على وجهه، او سحبني من ياقتي، او كان الطقس ممطرا الخخخ.
افرح كثيرا يا صديقي، يا أنا، وانت تتعارك مع نفسك، وانت تنحت اخطاءك، على شكل أيقونات، وتضيء لها شموع الامتنان، في معبد الكتابة، اذ لولاها ما كان توت مخيلتك الاحمر يسقط ناضجا داخل فمك الأعزل في صحراء الليالي، قد كنت منسجما مع نفسك وجسورا ووحيدا، حين تعريت في الشارع، وصحت في الناس: انظروا ندوبي، انظروا ندوبي. هل فعلها احد قبلك؟ أجبني هل فعلها احد قبلك؟، كأني صديق لي، كأني صديق لي.
كاتب من فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى