صفحات سورية

أدوات الهيمنة والدفاع الصاروخي

null
نعوم تشومسكي
في معرض تعليقه على زيارة الرئيس بوش إلى دول الخليج في شهر يناير 2008، كتب السفير الأسبق “شاس فريمان” المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط أنه “من عادة العرب الترحيب بزوّارهم، حتى ولو أنهم لا يكنّون لهم المودّة ...لكن عندما تحدّث الرئيس الأميركي أثناء زيارته عن الموضوع الإيراني، حصد مقالاً في أبرز صحيفة ناطقة بـ”الإنجليزيّة” في المملكة العربية السعوديّة تأسّف لعدم تجسيد “السياسة الأميركيّة مساعي دبلوماسيّة بحثاً عن السلام”. إلى جانب ذلك، فإن التطورات الحاصلة في أوروبا محفوفة أيضاً بالمخاطر، إذ يعتقد قادة حلف شمال الأطلسي أن حقيقة تجسيدهم لقوة السلام الوحيدة في العالم هو من أبسط الأمور البدهية. أما معظم الدول التي لها ذكريات متباينة عن مبرّة الغرب، فترى الأمور من منظور مختلف، وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا.
كانت هناك آمال في أوروبا حول إمكانيّة التوصّل إلى سلام طويل الأمد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ووافق “ميخائيل جورباتشوف” على السماح لألمانيا الموحدّة بالانضمام إلى “الناتو”، وهو تنازل تاريخي مذهل، لا سيما وأن ألمانيا أقدمت وحدها على تدمير روسيا فعلياً مرّتين خلال القرن الماضي، وأصبح باستطاعتها الآن المشاركة في تحالف عسكري عدواني بقيادة القوى العظمى العالميّة. لكن حصل في تلك الفترة تبادل متساو بعض الشيء إذ وافق الرئيس بوش (الأب) على عدم توسيع حلف شمال الأطلسي ليضمّ الدول الموقعة سابقاً على ميثاق “وارسو”، مما منح روسيا مجالاً للمناورة على الصعيد الأمني. غير أن الرئيس كلينتون عدل عن هذا الاتفاق، ولم يتمّ توسيع عضويّة “الناتو” باتجاه الشرق فحسب، بل رفض الحلف أيضاً اقتراح روسيا (مع أوكرانيا وروسيا البيضاء) لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية تمتدّ من القطب الشمالي إلى البحر الأسود، مروراً بأوروبا الوسطى. ورداً على هذا القرار، سحبت روسيا تعهّدها بالامتناع عن استخدام الأسلحة النووية التي قطعته بعد الاتفاق بين بوش وجورباتشوف وقرّرت اتّباع سياسة اللجوء إلى هذه الأسلحة التي لم يتخل “الناتو” عنها يوماً.
وتصاعدت حدّة التوتّرات بسرعة عندما انتُخب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة على ضوء سياسة التهديد والوعيد التي انتهجها والتعزيز الكبير للقدرة العسكريّة الدفاعيّة لأميركا، والانسحاب من أهم المعاهدات الأمنيّة والاعتداءات المباشرة. وكما كان من المتوقّع، ردّت روسيا على ذلك بتعزيز قدرتها العسكريّة، وتبعتها الصين في فترة لاحقة.
نظم الدفاع ضدّ الصواريخ العابرة للقارات تُشكل خطراً كبيراً هي الأخرى، ومن المُعترف به أن هذه النظم تُستخدم في إطار العمليّات العسكريّة الوقائيّة والمفاجئة، وذلك ضمن الاستراتيجيّة النووية، وهي على الأرجح قادرة على إبطال أي ردّ ثأري، وبالتالي التقليل من أهميّة قوّة الردع. وتصف مؤسسة “راند” شبه الحكومية نظم الدفاع ضدّ الصواريخ البالستيّة بأنها “ليست بمجرّد أداة وقائيّة، بل هي وسيلة تمكّن الولايات المتحدة من الدخول في حرب”.
ويتّفق المحللون العسكريون في كتاباتهم المنشورة بالصحف كافة حول نظم الدفاع ضدّ الصواريخ البالستيّة. وكتب “أندرو باسيفتش” في صحيفة
(National Interest) المحافظة أن “نظم الدفاع ضدّ الصواريخ لا تهدف إلى حماية أميركا، بل إنها أداة للهيمنة على دول العالم”. أما “لورانس كابلان”، فقد كتب في صحيفة “نيو ريبابلك” (New Republic) الليبراليّة أن نظم الدفاع ضدّ الصواريخ البالستيّة ترمي إلى صون قدرة أميركا على ممارسة سلطتها في الخارج، ولا علاقة لها بالدفاع عن أميركا، بل بالاعتداء على الآخرين، وهذا بالضبط السبب الذي يفسّر حاجتنا إليها”.
وتوصّل الاستراتيجيّون الروس إلى الاستنتاج نفسه. ويقول المحللان الأميركيان “جورج لويس” و”تيودور بوستول” إنه لا يسع روسيا النظر إلى التجهيزات الدفاعيّة ضدّ الصواريخ البالستيّة في شمال بولندا والجمهوريّة التشيكيّة إلا على أنها تشكّل خطراً محتملاً وجسيماً على أمنها.
ولطالما اعتبر صانعو السياسة في الولايات المتحدة أننا نملك العالم، لكن اليوم اختلف الوضع وباتت هيمنة واشنطن تتآكل يوماً بعد يوم، ومن صميمها. وضمن هذا الإطار، اتخذت دول أميركا الجنوبيّة خلال السنوات الأخيرة خطوات للإفلات من سيطرة الولايات المتحدة. وباتت هذه الدول تسير باتجاه مفهوم الاندماج الذي يمثّل شرطاً مسبقاً للاستقلال، في حين أنها تعمل في الوقت عينه على معالجة اضطرابات داخليّة خطيرة، أهمها النهج التقليديّ الذي تسيطر بموجبه أقلية ثريّة من ذوي البشرة البيضاء على بحر من البؤساء والمعذّبين. كذلك، فإن العلاقات بين دول الجنوب تزداد متانةً اليوم، وأصبحت تربط ما بين البرازيل وأفريقيا والهند، بين جملة من العلاقات الأخرى. وكما هي الحال في أفريقيا والشرق الأوسط، فإن تنامي القوة الاقتصاديّة للصين يقدّم بدائل للهيمنة الغربيّة.
منذ عدد من السنوات، أضحى الاقتصاد العالمي ثلاثي الأقطاب، وباتت أبرز محاوره تتركز في أميركا الشماليّة وأوروبا وشرق/ شمال شرق آسيا. لكن اليوم، ازدادت هذه المحاور لتضمّ جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا أيضاً.
وتهيمن الولايات المتحدة اليوم على العالم بسلطانها المطلق في مجال واحد فقط ألا وهو أساليب العنف، وهو مجال تخصّص له أميركا من الأموال ما تخصّصه كافة دول العالم الأخرى مجتمعةً، وتتمتّع فيه بتفوق تكنولوجي لا مثيل له. غير أن تركيبة العالم في المجالات الأخرى تزداد تنوعاً وتعقيداً يوماً بعد يوم.
في شهر مارس 2008، حذّرت وزارة الخزانة الأميركيّة المؤسسات المالية حول العالم من التعامل مع أبرز المصارف المملوكة للدولة الإيرانيّة. لكن يجب التنبّه إلى أن هذه التحذيرات قد لا تبقى حبراً على ورق بفضل بند في القانون الوطني لمكافحة الإرهاب يُمكّن واشنطن من منع أي مؤسسة مالية تقدم على خرق أحكام التوجيهات الصادرة عن الدولة الأميركيّة من الولوج إلى النظام المالي الأميركي.
ويشكّل هذا الواقع خطراً قد لا يجرؤ سوى القليل من الدول في العالم على مواجهته، حتى الصين. ولا يبالغ المحلل الاقتصادي “جون ماك جلين” عندما يصف التحذير الذي أطلقته وزارة الخزانة في شهر مارس بإعلان للحرب ضدّ إيران من شأنه عزل الجمهوريّة الإسلاميّة بصورة ملموسة عن الاقتصاد العالمي.
تلقى التحليل الذي قدّمه “جلين” دعماً من مصدر غير متوقّع، وهو بيان حول “استراتيجيّة جديدة وشاملة” أصدره في شهر يناير 2008 خمسة قادة عسكريين سابقين ورفيعي المستوى في حلف شمال الأطلسي ونصحوا فيه بأن “الأسلحة النووية وكذلك خيار استخدامها ضروريان على ضوء غياب أي معطيات واقعيّة عن احتمال زوال الأسلحة النووية من العالم”.
ومن بين “أعمال الحرب” المحتملة التي ينبغي لنا التحوّط ضدّها، يذكر هؤلاء القادة “استغلال النفوذ” الذي يقدّمه “سلاح المال”. ولا شكّ أنهم اتّبعوا العقيدة التقليديّة القائلة إن التلويح بهذه الأسلحة يصبح “عملاً حربياً” فقط عندما تكون هذه الأسلحة بيد الآخرين. لكن عندما نعمد نحن إلى اللجوء هذه الأسلحة فعلياً لا من باب التهديد، فتكون هي الأخرى بمثابة أداة للدفاع عن النفس، كما كان الحال بالنسبة إلى أي أعمال عدائية قامت بها الدول التي تحظى بقاعدة شعبية واسعة في حقبات التاريخ المختلفة.
إنه لمن العجب أن البشريّة نجحت في البقاء على قيد الحياة لهذه الفترة الطويلة في حقبة تطغى عليها الأسلحة النووية. ويجب ألا يستخفّ أحد بخطر “اقتراب موعد زوال العالم” كما قاله روبرت ماكنمارا إذا واصلنا نهجنا الحالي. والإخفاق في مواجهة التحديات التي تنتظرنا في المستقبل قد يثبت صحّة قول “إرنست ماير”، أحد أهم العلماء في مجال البيولوجيا العصريّة، ألا وهو أن الذكاء المتفوّق هو خطأ حصل في عمليّة تطوّر الإنسان، وهو غير قابل للاستمرار إلا لفترة وجيزة من زمن تطوّر البشريّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز”.

جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى