صبحي حديديصفحات الجولان

روح سيطان الولي

null
صبحي حديدي

بعد 23 سنة قضاها في سجون الإحتلال الإسرائيلي، عاني خلالها مرارات الأسر وآلام سلسلة من الأمراض (المعدة والمفاصل وتآكل العظام وأوجاع الظهر، فضلاً عن داء عضال)، نجمت في الإجمال عن ظروف احتجاز بربرية، استجابت سلطات الإحتلال إلي التقارير الطبية الخطيرة التي قدّمها المحامي مجد كمال، فأفرجت عن الأسير السوري الجولاني سيطان نمر الولي (42 سنة)، مختصرة بذلك أربع سنوات فقط من مدّة حكمه. وكان الولي قد اعتُقل يوم 23/8/1985، بتهمة المشاركة في تأسيس حركة المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وهو من أبناء بلدة مجدل شمس البديعة العريقة، وأحد أبرز الأسماء في صفوة من السوريين الجولانيين الأسري (بشر المقت، صدقي المقت، كميل خاطر، شام شمس، محمد عبدو شمالي، وئام عماشة، جولان أبو خير، لؤي مرعي، نديم قضماني، عاصم الولي، محمود الخطيب…).
وإذْ أهنّئ ابن بلدي بملاقاة الأهل والصحب والحرّية، متمنياً له الشفاء والعافية، واثقاً من أنّ تضحيات أمثاله لم تذهب هدراً، ولن تكفّ عن صناعة الأمثولة، وترسيخ الجولان السليب في صميم الوجدان الوطني السوري؛ فإني لست علي الثقة ذاتها من أنّ النظام الذي يحكم بلدنا سوف يحفظ القيمة السياسية والأخلاقية لهذه التضحيات، حين سيفاوض، ثمّ يقبل، ما ستعرضه عليه الدولة العبرية من أراضٍ في الجولان. والأرجح أنّ بلدات وقري وينابيع ومزارع وبساتين الجولان لن تعود تماماً إلي أهل الجولان الذين كانوا هناك قبل السادس من حزيران (يونيو) 1967، حتي إذا رفرف العلم السوري في ما ستطلق عليه آلة إعلام النظام صفة الأراضي المحرّرة . وهذا الإفتراض الأليم ينهض علي حقيقة بسيطة قاسية تقول إنّ الجولان سوف يكون إقليماً منزوع السلاح ومنزوع الحياة في آن معاً: مساحات من الـNo Man’s Land، مقفرة إلا من عناصر حفظ ومراقبة السلام .
وللمرء، في هذا الصدد، أن يتخيّل ما يشبه المعجزات السوريالية في إدارة الجولان ما بعد أيّ إتفاقية سلام سورية ـ إسرائيلية، كأنْ تصير الأرض سورية دون أن تعود تماماً إلي السيادة السورية؛ وأن تنتقل مواقع مثل جبل الشيخ و تلّ أبو الندي و تلّ الفرس إلي سورية إسماً فقط، علي أنّ تكون تحت التدويل الأمريكي أو الياباني أو الفرنسي. هذه دُرَر الجولان الأهمّ ستراتيجياً، وبافتراض أنّ إسرائيل سوف تتنازل عنها تحت أيّ ثمن، فإنّ المعضلة لن تتوقف عند إصرار الإسرائيليين علي تحييدها وتجريدها من السلاح ووضعها في قبضة فريق ثالث ضامن وحليف، بل علي أن تواصل هذه الجبال والتلال خدمة الأمن الإسرائيلي.
ولدينا مثال مدينة القنيطرة، التي حُرّرت ، بعد توقيع اتفاقية سعسع سنة 1974، ولكنها بقيت مدينة أطلال وخرائب وأشباح، تماماً كما تركتها القوّات الإسرائيلية عند الإنسحاب منها وتسليمها إلي السيادة السورية. وقد يجهل الكثيرون أنّ أبناء القنيطرة ممنوعون من زيارتها، لأسباب أمنية وعسكرية كما يُقال، وزوّارها الوحيدون كانوا ضيوف سورية الرسميين العرب والأجانب، الذين كان النظام يستطيب اصطحابهم إلي المدينة الشهيدة لكي يشهدوا علي البربرية الإسرائيلية، ولكي يتبرّعوا، والله يحبّ المحسنين!
القري الأخري التي أعادتها الدولة العبرية إلي سورية بموجب اتفاقية سعسع، مثل الرفيد و خان أرنبة و نبع الفوّار و مزرعة بيت جان ، لا تقطنها اليوم سوي أعداد من السكّان تُقدّر أحياناً بالمئات وليس بالآلاف. وفي ظلّ غياب أيّ برنامج لإعادة إعمار قري الجولان المحرّرة هذه، لم يبق أمام عشرات الآلاف من النازحين سوي خيار الإستيطان (نعم، ولا مناص من استخدام هذه المفردة!) في مخّيمات ومدن صفيح علي هوامش العاصمة السورية. ولقد مرّ زمن كانت فيه أحياء كاملة، مثل برزة و جرمانا ، موطناً للنازحين من الجولان.
وفي مناسبة إطلاق سراح سيطان الولي، ابن مجدل شمس، أستعيد حكاية سبق لي أن سردتها أواخر العام 1999، حين لاح أنّ اتفاقية سورية ـ إسرائيلية تُطبخ علي نار هادئة، وقد تنضج في أيّ وقت قريب، آنذاك. ففي أواخر السبعينيات، وبحكم عملي مع الأمم المتحدة حينئذ، أتيحت لي فرصة نصف شهرية للإطلال علي مجدل شمس، من خلال الطقس العجيب الذي يدعي لقاء العائلات ، والذي تشرف علي تنظيمه (حتي اليوم) قوّات الفصل والصليب الأحمر الدولي. كان أبناء البلدة المحتلة يحتشدون علي أطرافها السفلية، حاملين مكبرات الصوت اليدوية، فيتحاورون مع أهلهم المحتشدين علي الهضبة الثانية المواجهة في الأرض السورية، وتختلط الموضوعات والأخبار والحكايا والهموم، ويتحوّل المشـــــهد إلي جوقة صوتية معقـــــــــدة لا يستطيع فرزها والتقاط تفاصيلها سوي المعنيّ بالجملة المنطوقة علي الجانبين.
ولكن كان يحدث أن تتوقف الأصوات بغتة، وتحلّ محلها أهزوجة مشتركة تؤديها النساء علي الطريقة الدرزية الفريدة. وذات مرّة سألني ضابط نمساوي، كان قد انضم حديثاً إلي قوّات الفصل: لماذا يصـــــدرون أصوات الفرح هذه فجأة ؟ فأجبته: كلما زفّت أسرة البشـــري بأنّ أحد أبنائها بلغ سنّ الرشد، وأحرق الهوية الإسرائيلية في احتفال جماعي أقرب إلي تدشين طور الرجولة . آنذاك أطرق الضابط النمساوي، ثمّ غامر بالتخلّي عن الحياد الدبلوماسي المفروض عليه، وقال: أيّ غباء يجعل الإسرائيليين يعتقدون أنّ في وسعهم تقويض هذه الروح؟ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى