ما يحدث في لبنان

لبنان: ولادة في عكس التيار

null

سعد محيو: الخليج 8/5/2008

السير في عكس التيار هواية ممتعة. لكنها قد تكون خطرة، أو مكلفة، أو بلا جدوى، إذا ما كان التيار جارفاً، فيما عزيمة السابحين واهنة.

التجمع العلماني الوطني”، الذي ولد مؤخراً في بيروت، يوحي بأنه قد يكون من هذا النوع الثاني من السباحة، أي سباحة أقل إمتاعاً واكثر خطراً. الأسباب؟ إنها تكاد لا تحصى وجلّها موضوعي: في الداخل، درجة حرارة العصبيات الطائفية والمذهبية وصلت إلى درجة الغليان، وهي تهدد بصهر وسحق أي فئة اجتماعية – طبقية تعمل خارج ملعبها. وفي الخارج، العربي، بات القانون هو التفكك والتفكيك الوطني والقومي على أسس قبلية وطائفية وإثنية، والاستثناء هو الاندماج الوطني والقومي على أسس الحداثة والمواطنة والعروبة الديمقراطية.

في مثل هذه الظروف، يبدو أن أمل التجمع بأن يتطور ليصبح قوة سياسية فاعلة هو ك”أمل إبليس بالجنة”، وأن الفرص لن تتوافر له ليكون ما يصبو أن يكون: رافعة تاريخية تشطب “العنصرية الطائفية”، وتقيم الدولة على أساس المواطنة والمساواة الديمقراطية؛ وتبني لبنان – الوطن لا لبنان- الساحة، على قاعدة الاقتصاد الإنتاجي؛ وتحل الإشكالية الخطيرة بين مفهومي المقاومة والدولة، وبين الوطنية والعروبة.

لكن هذا الذي يبدو، قد لا يكون بالضرورة هو الذي سيكون. والتاريخ، الحديث منه والقديم، يعج بالتجارب عن سباحات ناجحة في عكس تيارات أكثر عنفاً، بدءاً بثورة الإسلام التي حققت معجزة تاريخية مجلجلة حين هزمت أعتى إمبراطوريتين “حديثتين” وغنيتين في القرن السابع على يد قبائل عربية مفقرة ومعدمة، وصولاً إلى “سباحات” حفنة من الرجال المصممين كلينين وماوتسي تونغ، والمهاتما غاندي، وجمال عبد الناصر، ونيلسون مانديلا.. إلخ.

ثم، هناك نقطة أخرى لا تقل أهمية: ثمة حاجة موضوعية-تاريخية لمثل هذا التجمع، تنبع أساساً من المخاطر الموضوعية- التاريخية التي تحيق بلبنان والأمة العربية. لنتلمس طبيعة هذه الحاجة، يكفي أن نضع أرجلنا في أحذية “الإسرائيليين” (كما يقول أصدقاؤنا الأمريكيون) أو أن نقرأ البيان التأسيسي للتجمع بنظارات “إسرائيلية”. حينها، سنكتشف سريعاً أن هذا التيار (إذا ما تطور ليصبح تياراً) هو بالتحديد ما تحتاجه المرحلة التاريخية الراهنة:

فهو، بحكم برنامجه المتجاوز للعصبيات ما قبل الحديثة، يتصدى لجوهر المشروع المشترك للحركة الصهيونية ولعصبة المحافظين الجدد الأمريكيين، القائم على رعاية هذه العصبيات وإطلاقها من عقالها.

وهو، بدعوته إلى بناء وطن منتج ومتقدم، يضرب القانون الذي يقوم عليه كل مفهوم “الشرق الأوسط الجديد”، وهو أن التفوق النوعي “الإسرائيلي” الدائم في شتى المجالات العسكرية والعلمية والاقتصادية، يتطلب التأخر النوعي الدائم للعرب في كل هذه المجالات مجتمعة.

وهو، بدعوته إلى تجديد فكرة العروبة، عبر إعادة إكتشاف علاقتها العضوية بمسألة الحريات والديمقراطية، يشّكل تحدياً حقيقياً لخطط “إسرائيلية” عمرها نيف ومائة عام هدفها ضرب الرابط القومي العربي الديمقراطي، تمهيداً لإعادة رسم خرائط المنطقة على أسس لا عروبية، ولا قومية، ولا وطنية، ولا بالتأكيد ديمقراطية (لا ديمقراطية مع العصبيات الطائفية والمذهبية، كما يقول البيان التأسيسي للتجمع).

هل هذه الرؤى السلبية “الإسرائيلية” كافية لتبرر وجود رؤى إيجابية وواقعية حقيقية لهذا المولود الجديد؟

أجل، حتماً. فلينين كان على حق حين قال إنه “يحين يضّيع المناضل بوصلة الطريق، ليس عليه سوى ان يدرس ما يفعل أعداؤه، ثم يتصرف عكس ما يفعلون”.

و”التجمع العلماني الوطني” اللبناني، هو العكس تماماً لما تريده “إسرائيل”، ولما تعمل من أجله. ولذا، سباحته في عكس التيار ليست ممكنة فحسب، بل هي ضرورية أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى