صفحات العالمما يحدث في لبنان

عن مأزق تشكيل الحكومة اللبنانية

خالد غزال
على الرغم من مرور أكثر من شهرين على تكليف النائب سعد الحريري تشكيل الحكومة الأولى بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، تشهد عملية التشكيل مخاضا عسيرا في الولادة، على غرار ما عرفته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، بعد توقيع اتفاق الدوحة في العام الماضي. لم يكن هذا التعثر ذا معنى في الفترة الممتدة بين 1989و2005، أي الفترة التي كان لبنان فيها خاضعا للوصاية السورية التي كانت تتكفل بحسم عملية التوزير والتشكيل. تخضع المراوحة اليوم لعوامل يتصل بعضها بالعنصر الخارجي المؤثر، فيما تقوم القوى الداخلية بوضع العراقيل سعيا لتحقيق أكبر المكاسب في الحصص والمراكز.
يجري الحديث عن إنجاز تحقق حتى الآن في تعيين الصيغة الحكومية لجهة حصص الرئاسة والقوى المنضوية في 8و14 آذار، بعد توافق سعودي- سوري على هذه الصيغة. لكن التعثر عاد إلى الظهور عند تعيين الحصص والأسماء، ما أعاد الأزمة إلى نقطة الصفر تقريبا، بانتظار توافق لم تنضج ظروفه إقليميا حتى الآن. ضاعف من التعقيد، إلى حد ما، خروج أحد أقطاب 14 آذار، أي وليد جنبلاط من التحالف، من دون أن يؤدي ذلك إلى تفشيل مهمة الرئيس المكلف حتى الآن. على رغم صحة ما تقوم به العوامل الخارجية من تسريع أو تعطيل في التشكيل، إلا أن العنصر المقرر في الحسم يعود الى طبيعة المتغيرات الحاصلة على الأرض منذ ثلاث سنوات لجهة التوازن المختل لصالح طرف محدد، يملك المقومات المادية المسلحة. وهو أمر ترتب عليه تعديلات جوهرية في عملية تكوين السلطة، جرى بناء وقائعها على الأرض منذ عدة سنوات، ويجري تنفيذها بشكل «عرفي» إلى أن تتحول مواد دستورية لاحقا.
صحيح أن انتخابات نيابية قد حصلت في يونيو (حزيران) الماضي، وأنتجت أكثرية نيابية وأقلية وفق عملية «ديمقراطية» أقر بها الجميع وبنتائجها الدستورية، بصرف النظر عن التحفظات الشكلية هنا وهناك، خصوصا ما جرت الإشارة إليه من أكثرية عددية شعبية. وقد سعت الأطراف جميعا وبقوة استثنائية لكسب هذه المعركة، واستخدم فيها الطرفان المتصارعان كل أنواع «الأسلحة» الشرعية وغير الشرعية لكسبها. ربح فريق وخسر آخر، وهو أمر طبيعي عند الاحتكام إلى العملية الديمقراطية، ويجب أن ينعكس في عملية تشكيل الحكومة وتوزيع الحصص، بانتظار انتخابات جديدة تعيد فرز القوى وتحتكم مجددا إلى الشعب في اختيار ممثليه في الحكم. هذا من حيث الشكل.
في لبنان، النصوص القانونية والشكليات الدستورية شيء، والممارسة على الأرض شيء آخر، بل ومناقض كليا للوقائع الدستورية. منذ اعتصام العام 2006 وسط البلد من قبل أطراف المعارضة والمالكة الأقلية النيابية في البرلمان، تجري ممارسة للسلطة خلافا لكل الشكليات الدستورية. فالبلد يحكمه قانون عنوانه: «أكثرية حاكمة، وأقلية متحكمة»، وهو أمر ينفي عن الأكثرية أكثريتها، ويعطي للأقلية السلطة الفعلية، سواء ارتضت الأكثرية ذلك طوعا، أو عبر القوة المتعددة الأشكال. انطلاقا من هذا القانون الجاري تكريسه تباعا، يجب أن نقرأ مجريات تشكل الحكومة الحالية.
ترتفع أصوات من الأكثرية تدعو إلى احترام نتائج الانتخابات لجهة الفوز والخسارة، وهذا حقها، من الزاوية النظرية. لكن السائد والحقيقي الذي على الأكثرية إدراكه اليوم ولاحقا، وكما بدا في السنوات الأخيرة، أن هذه الأكثرية، حتى ولو فازت بتسعين في المئة من مقاعد المجلس النيابي، فانها ستظل أكثرية «نظرية» إذا لم نقل «أكثرية وهمية»، وستخرج قوى المعارضة بمطلب «المشاركة الحقيقية» في السلطة، بما يعني بالنسبة إليها تسلم الحكم عمليا والتحكم بمجريات الحياة السياسية. على امتداد السنوات الثلاث، انحكم البلد عمليا بقانون «الأكثرية الحاكمة والأقلية المتحكمة»، وهو أمر خضع إلى موازين القوى على الأرض الذي يشهد رجحانا كاسحا لما يعرف بالمعارضة أو الأقلية، وهو ميزان قوى لا يقوم على القوة الشعبية لهذا الطرف، بمقدار ما يستند إلى عناصر القوة المادية الجاهزة للنزول إلى الأرض، واستخدام هذه القوة، مسلحة وغير مسلحة، في حسم الأمور، ولو أدى ذلك إلى وضع البلد أمام حرب أهلية طائفية ومذهبية ساخنة، إذا ما جرت محاولات ردع هذه القوى وإلزامها اتباع الوسائل القانونية والدستورية في تحقيق مطالبها. وهو أمر لم يعد يدور في مجال الاحتمالات والتكهنات على غرار ما كان سائدا لدى بعض القوى السياسية سابقا، بل بات ميزان القوى هذا المترجم على الأرض هو الذي يتحكم في تشكيل السلطة، وتكوّن الحكم. إن إدراك هذا الواقع الجديد يفسر لماذا حصلت أحداث آيار العام 2008، ولماذا تعثر تشكيل حكومة الرئيس السنيورة، ولماذا عاد التعثر إلى حكومة سعد الحريري راهنا.
على غرار الصراعات السابقة، بل وبشكل أفدح، يشهد التشكيل الراهن للسلطة إزاحة واستبعادا «للأحجام الصغيرة» المتكونة ضمن الأكثرية والأقلية، والتي كانت من لزوميات «الاستعمال» لفترة سابقة، وهو استبعاد شاءته القوى «المركزية» ضمن الطوائف، بحيث ترفض اليوم المحاصصة ضمن حصتها. صحيح أن المحاصصة الطائفية ظلت تحكم تشكل السلطة بشكل واسع منذ اتفاق الطائف، وكانت هذه المحاصصة تراعي القوى التي تتكون منها كل طائفة، بما لا يلغي مواقع معروفة. الجديد اليوم، وبعد إجراء الانتخابات، وفي انتظار أربع سنوات قادمة، لا يجد «أمراء الطوائف» حاجة لمقاسمتهم نعمة السلطة من «الصغار» في هذه الطوائف. يترجم هذا الواقع نفسه انطلاقا من تسليم القوى المتحكمة بالبلد في اعتبار الشكل الجديد هو «فيدرالية الطوائف» الرئيسية، والتي لا تتجاوز الأربع، والتي وحدها، تقرر الحصص، من يجب أن يدخل الحكم أو يخرج منه. إذا كان هذا التحول في تكوين السلطة قد امتد عقودا، وسلك مسلكا متدرجا، إلا أن السنوات الثلاث الأخيرة قد أفرزت تحولا نوعيا جرى بموجبه الحسم في اقتسام السلطة من قبل أقطاب الطوائف وحدهم وتهميش الآخرين فيها، وهو تحول تشهد عليه الطوائف وقواها ممن ينتمون إلى الأكثرية – الموالاة أم إلى الأقلية- المعارضة.
لن يكون من السهل التوصل إلى توافق سريع ينجم عنه تشكيل حكومة لن يكون باستطاعتها سوى إدارة الأزمة. ما يجعل منطق الابتزاز ووضع الشروط والعوائق أمام التأليف أسلوبا تعتمده الأقلية لمنع تشكل الحكم، إلا إذا كانت الكفة راجحة فيه لصالحها. ستستمر هذه المراوحة إلى إنجلاء الأفق الإقليمي والتوصل عبره إلى تسوية تجد الأطراف الداخلية نفسها ملزمة القبول بها على غرار ما حصل في مرات سابقة. سيظل اللبنانيون يعيشون تحت هاجس العقد والاحتقان الناجم عن الخطاب السياسي المتصاعد في تشنجه، والذي يدرك اللبناني أن «تصريف» هذا الخطاب قد يأخذ شكلا عنفيا متجددا.
أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى