صفحات ثقافية

سمعة افتراضية

null
عباس بيضون
جاءه الرد بالرفض. يكفي ان يكتبوا اسمه ولقبه على الشاشة حتى تأتيهم (غوغل) بمعلومات غير مناسبة عنه. لقد سبق أن اشترك في حفل بورنو في واحدة من اندفاعات الشباب، ومنذ ذلك الحين جثمت هذه «المعلومة» وربما مرفقة بصورة على سمعته لا تتحرك. ويكفي ان يعلم بها اصحاب العمل حتى يركز في أذهانهم انه طائش وغير مناسب. انها «معلومات» صحيحة او مخترعة لا نعرف مصدرها ولا نستطيع ان نتوصل اليه. لقد وضعت هكذا في التداول ومنذ ذلك الوقت «علقت» على اسم صاحبها وغدت جزءاً من سيرته الشخصية (CV). لن يتحقق منها احد ولن يعرف صاحبها سبيلاً الى دحضها او تكذيبها او إزالتها، هذه المرة ثمة معلومة مرسلة في الهواء وليس لها معيار ولا ميزان ولا تعد ولا تذكر، لكنها رغم ذلك تلطخ سمعته، فالسمعة شفافة ورقيقة كالهواء وتتلون بأي شيء ويعلق عليها أي شيء وتتلطخ بأي شيء. انها السمعة الافتراضية كما تسمى، وهي قد تكون مصنوعة مخترعة، وقد لا يكون لها أصل ولا أساس، وقد تكون لغير صاحبها. لكنها مع ذلك تعلق، بل هي تغدو سمعة أخرى، إذ للمرء منذ الآن سمعتان، واحدة حقيقية وواحدة افتراضية. لكل منهما مجرى مختلف، السمعة الحقيقية معروفة المصادر محسوبة النتائج، وليست هذه حال السمعة الافتراضية، لكن لتلك مجراها بل مجراها الذي لا يمكن توقعه او رصده او حسابه، مع ذلك هي سمعة أخرى وستدخل في تقرير أمور قد لا تستطيع السمعة الحقيقية أن تجاريها فيها، ليست السمعة الافتراضية جديدة بالطبع، كان للثرثرة والنميمة والشائعة باستمرار مكان، لكن الانترنت جعلها سيارة ومنتشرة وجعل لها جسماً وكياناً ومرآة، لقد غدت السمعة الافتراضية معلنة مجسمة هي الأخرى، لا بد أن جزءاً من الدعاوة والتحريض السياسي يقوم، منذ الآن، على ذلك، صناعة السمعة الاعتراضية واستعمالها، كما نرى في جزء اساس من حملاتنا السياسية, كلما صعب التفريق بين السمعة الافتراضية والسمعة الحقيقية غدت السياسة اكثر واكثر قائمة في الغرض، لم تعد «الحقيقة» شاهدة اساسية بعد ان صارت هناك حقيقتان واكثر.
ثمة شركة لمعالجة ذلك. تدفع 15 دولاراً كل شهر فيتم محو كل ما يتعلق بك عن الشاشة، كل شيء لكل شهر. من يدري ماذا يحصل في الشهر التالي. المبلغ قليل كما ترى، لكن الشركة استطاعت، مع ذلك في وقت قصير ان تجمع 5,5 مليون دولار. يمكنك ان تدفع اقل من 15 دولاراً اذا كان المراد اقل من محو سمعة كاملة. هناك سعر لكل شيء. للكذب ومحو الكذب، لكن السؤال الذي يبقى هو أين صارت حقيقة المرء او كيانه او اناه او فرديته. ما دام ممكنا اختراع حقيقة أخرى او كيان ثان او أنا مقابلة؟ ما الذي يبقى حمى خاصاً للمرء اذا كان يمكن اختراعه مجدداً؟ وهل يستطيع المرء، مع الوقت، ان يميز بين حقيقته الحقيقية والافتراضية؟ هل يمكن بعد للمرء ان يعرف حدود أناه او كيانه، لطالما كان الكلام على المجتمعات التوتاليتارية قائماً في انعدام المساحة الشخصية. في قدرة النظام على النفاذ إلى الحياة الخاصة. لطالما قيل إن دخول النظام السياسي إلى غرفة النوم الشخصية هو المثال؟ الآن، اين هي غرفة النوم؟ لقد تم اختراقها بسهولة هائلة. لقد تمزق العالم الشخصي كما هو لم يكن موجوداً. اما الرعب فهو ان يضيع المرء بين حياته الحقيقية والافتراضية، ان يتوقف هو عن وعي حقيقته، أي عالم سيحصل عندئذ؟ عالم من كائنات افتراضية، من حياة ليست حياة، يمكننا عندئذ ان ندخل جميعا الى صالة الجنون، اذا عاد للجنون اسمه. اذا لم يكن عقلاً افتراضياً.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى