صفحات سورية

الإقامة العربية في الخوف

null


خالد غزال

يحمل الإنسان العربي إرثا من الخوف يعود إلى زمن قديم، ويتجسد في التراث العربي متعدد الميادين. يخشى كوارث الطبيعة، ويخاف الأشباح والشياطين والجن، يرعبه الموت وما بعد الموت واحتمال ذهابه إلى الجحيم. حتى الإله يتمثل له في صورة “طاغية”، فتقرع أذنيه آيات الترهيب من جهنم وبئس المصير إذا ما خالف التعاليم.
تتجاوز قضايا الخوف هذه الإنسان العربي لتطاول البشرية في كل مكان، رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يفترض أنه أزال الكثير من مكونات الهلع عند تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية، لكن كشف المجهولات لم يؤد بعد إلى الاطمئنان الكافي.

تبدلت موضوعات الخوف لدى الإنسان العربي منذ عقود، لتشمل شؤونا اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية، مما وضعه في درجة أعلى من الهوس والاضطراب على وجوده الراهن ومستقبله القادم في آن.

يقلق الإنسان العربي اليوم على مصيره الشخصي، وهو قلق وجودي بكل معنى الكلمة. ترعبه الأرقام التي يقرأها عن الأوضاع الاقتصادية في عالمه، والتي تصدر في تقارير رسمية، محلية كانت أم دولية. يقرأ أن عدد سكان العالم العربي يصل إلى حوالي 312 مليون نسمة، بينهم 113 مليون عامل، منهم 25 مليونا لا يجدون مجالا للعمل، مما يضع العرب في خانة البطالة الأعلى في العالم. ويرتجف خوفا عندما تخبره التقارير أن أكثر من نصف سكان العالم العربي يعيش تحت خط الفقر، وبمعدل دخل فردي لا يتجاوز الدولارين في اليوم، في وقت يعلم جيدا أن العرب يملكون ثروات وموارد يمكنها أن تؤمن وضعا معيشيا جيدا لجميع السكان. لذا عليه أن يتحمل ذلك المنظر المحزن لمئات الآلاف من الجياع ولحالات الوفاة الناجمة عن النقص في الغذاء.

يخاف الإنسان العربي الجهل المتفشي في الأجيال العربية، ومن الأرقام المذهلة عن حجم الأمية داخلها، حيث تصل نسبة الأمية إلى حوالي 100 مليون، أي ما يعادل %45 من سكان العالم العربي، في زمن وصل التطور العلمي في العالم إلى مستويات متقدمة جدا. ويزداد الخوف أكثر عندما يلمس يوميا ارتباط الفقر والبطالة والأمية بالجريمة والعنف، وبما يشكل أرضا خصبة تغرف منها حركات الإرهاب والتطرف فتفاقم هذه المعضلات وتزيد من عوامل البؤس والقلق.

يخاف هذا الإنسان من الإصابة بمرض ما، فلا يستطيع دفع فاتورة الطبيب أو ثمن الدواء، ناهيك عن مترتبات الاستشفاء إذا ما اضطر إلى ذلك. يتطلع إلى نظام الرعاية الصحية في معظم الأقطار العربية فيرى تخلفها وفقرها عن الحد الأدنى المطلوب في هذا المجال، فلا يعود مستغربا لهذا الحجم الكبير من الوفيات في وقت يواصل الطب في العالم تقدمه ووضع حد للكثير من الأمراض. يتأسف الإنسان العربي على واقع عربي لايزال يسجل أعلى النسب في وفيات الأطفال والشيوخ، فيما تسجل البلدان المتقدمة نسبا متطورة جدا في الشيخوخة العائدة إلى حسن الرعاية الصحية.

يمتد الخوف على المصير الشخصي ويتضاعف بعد دخول العالم العربي مرحلة الحروب الأهلية، والصراع على الموروثات والرمزيات المتجلية في أبشع مظاهرها عنفا وتطرفا وإرهابا. تتراجع الاضطرابات ذات الطابع الاجتماعي السلمي الهادفة إلى تحسين أوضاع معيشية، وتعديل مسار سياسي وطني أو قومي، وترتد الصراعات إلى أوليات جرى الظن أنها باتت من الماضي بعد قيام الدولة، ليرى انبعاثها صراعات طائفية ومذهبية وعرقية وإثنية، وقد غزت المجتمعات العربية كلها من دون استثناء. باتت الطائفة قاعدة الانتماء والهوية بديلا من الوطن، مما يقض مضجع المواطن ويتسبب له بمصائب عديدة، وهو الذي لم يكن له خيار فيها بما جعل اسمه وكنيته عنصرين محددين لمصيره، موتا أو حياة، بعدما ارتفعت وتيرة الهوس في التطهير العرقي والمذهبي والطائفي.

صارت المنطقة التي يسكنها مصدر خطر في ضوء تشكلها أو فرزها الطائفي والمذهبي. يزيد في الرعب تصاعد نسب ميادين المقدس وشموله أنواعا واسعة من الماديات والمدنسات في كل طائفة ومذهب. فالقائد مقدس، والسلاح مقدس، والمقاتل مقدس، والزي الذي نرتديه دخل عالم القداسة بأشكال مختلفة. وفي ظل سيادة التقديس هذه، لا يعود غريبا ارتفاع أصوات التكفير والتخوين ورفض الآخر، وأن تتحول الكلمات والخطب والشعارات بالتالي إلى رصاصات قاتلة تطال من يخالف المذهب وقادته. والأغرب من ذلك إصرار زعماء الطوائف والمذاهب على رفض الحروب الأهلية وهم الذين يصنعونها ويرفعون مداميكها يوميا. هكذا يصبح الدين أداة في الصراع السياسي، ووسيلة لتقسيم المجتمع، ومفتاحا للحروب المذهبية، بعدما جرى حرفه عن وظيفته الأصلية في قيادة الإنسان إلى الحب والخير والتسامح والرحمة وعبادة الإله الواحد. إن ما يشهده العراق ولبنان على سبيل المثال لن يكون فريدا في بابه. فالخوف المشروع لدى الإنسان العربي هو امتداد لما يشهده هذان البلدان إلى أقطار عربية أخرى تحمل في جوفها من عوامل الانفجار ما لا يقل صخبا عن الحالتين العراقية واللبنانية.

بالإضافة إلى هذا الخوف الذي يتسبب به الانهيار المجتمعي، لايزال الإنسان العربي يقبع في خوف مزمن من السلطة السائدة وأجهزة أمنها ومخابراتها. عاش حلما مديدا خلال معركة التحرر من الاستعمار وبناء دولة الاستقلال بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم، وبمستقبل لأبنائه ينعمون فيه بالعلم والعمل، فإذا بأحلامه وقد تبخرت ليجد نفسه في قبضة ديكتاتوريات وأنظمة استبداد تتحكم في رقاب الشعب فتنهب ثرواته وتعيث به فسادا، بدلا من الحرية والكرامة والرأي الحر والتمسك بقيم العدالة والمساواة، يجد الإنسان العربي نفسه مقيما في السجون يعاني التعذيب وانتهاك أبسط حقوقه في الحياة. وغير المقيم في السجن يرعبه ما يقرأه عن الحياة في السجون العربية، أو ما يسمعه من الذين أتيح لهم الاستمرار على قيد الحياة بعد الإقامة سنوات طويلة في سجون الاستبداد. هل يلام الإنسان العربي إذا تجلبب بالخوف عندما يقرأ رواية أحد الخارجين من سجن عربي “كيف أدخل السجانون فأرا في فم سجين، أو كيف أمسك عسكريان السجين في يديه ورجليه ثم راحا يؤرجحانه بحركة بندولية متصاعدة، وما إن يرتطم جسمه بالأرض حتى يمسكاه من جديد ويكررا اللعبة ذاتها حتى يتحول السجين إلى جثة هامدة”.

كانت الوحدة العربية أحد أحلام الإنسان العربي، لكن ما تحقق منها أتى خلافا لرغباته في الديمقراطية والتقدم والتحرر القومي والنهوض الاجتماعي. تحققت “الوحدة العربية” ماضيا وراهنا عبر تسليط الاستبداد والقمع والقهر على الشعوب العربية، ومن خلال ممارسة أبشع أنواع الإذلال لها. إنها وحدة الجلادين والمستبدين تتوطد كل يوم وتجد لها قنوات تواصل بين أجهزة التسلط والقمع.

لا يقتصر خوف الإنسان العربي على حاضره، فقد اعتاد العيش في ظل هذه الأوضاع، كما بات مقتنعا باستحالة تغييرها. لكن خوفه الأكبر يرنو به إلى المستقبل فيؤرقه انعدام وجود بصيص نور في هذا النفق المظلم الذي دخله العالم العربي. يحمل قلقا من هذا المسار الانحداري المتواصل انهيارا سياسيا واقتصاديا وثقافيا وقيميا، فيما يرى الأفق مسدودا وغير مرئي القعر.

قد يكون عنصر الخوف الأكبر لدى الإنسان العربي في سيادة الغيبيات والخرافات على حساب العقلانية والمنطق، وتحكمهما بمفاصل الحياة من دون استثناء. يبدو زحف الغيبيات هذا كرأس جبل الجليد حيث الخطر القادم منها قد يكون هو الأسوأ، فهي تترسخ عميقا في المجتمعات العربية محمية هذه المرة بقوة لا تقهر، إنها قوة “الإلهيات”.

كاتب من لبنان

الأحد, 24 فبراير 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى