صفحات مختارةمازن كم الماز

من تحليل البيروقراطية إلى سلطة العمال

null
إعداد و ترجمة : مازن كم الماز
مقدمة
يشكل فهم الأنظمة “الثورية” و الموقف منها : الستالينية ثم البريجنيفية , و عندنا أنظمة عبد الناصر و حافظ الأسد و صدام حسين , جزءا أساسيا من إعادة صياغة فهم العالم و الواقع , فهم ثوري , أيضا , لكنه يطمح إلى تغيير  جدي و جذري راديكالي في الواقع السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي للجماهير , فهم يرفض التبسيط الذي انتهى إلى خطأ محاولة تفكيك الظلم السياسي و الاجتماعي و الإقرار بانتصار الرأسمالية خاصة مع التهافت السريع لوعود عولمة السوق و تصاعد النضالات العالمية ضد الرأسمالية و مخططاتها لتسليع كل شيء في كل مكان و انكشاف أن الديمقراطية البرجوازية التمثيلية لا يمكن أن تكون إلا نظام لتأكيد استلاب الناس و اغتراب المنتجين عن إنتاجهم و إعادة إنتاج سيطرة و سلطة الطبقات السائدة اجتماعيا..إن تحديد طابع هذه الأنظمة و طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في ظلها , التي أعترض بقوة على تسميتها بالاشتراكية أو الثورية من واقع المعايشة اليومية لا المناكفة المجردة , له نتائج حاسمة على صعيد الموقف من هذه الأنظمة و صيغة البديل , تماما ذات الهواجس التي حركت تروتسكي و كاستورياديس اللذين أستنجد بهما هنا للاستزادة من تحليلهما لنظام البيروقراطية..إن اعتبار هذه الأنظمة تقدمية كان يبدو أكثر فأكثر متهافتا سخيفا و مدعاة لتأبيد هذا الغباء السياسي الذي يصر على تجاهل الواقع و حتى حقائقه البسيطة  قبل الانهيار و بعده , كانت البداية الحقيقية في عدوان 56 , هناك تحولت قضية تأميم قناة السويس التي كانت طارئة مثلها مثل تأميم النفط العراقي مثلا عام 71 إلى نقطة الانطلاق في ظهور هذه الأنظمة و تكريسها كسلطة مطلقة و في نفس الوقت قيام اليسار العربي استنادا إلى تعليمات موسكو أو استنادا إلى الموقف السائد في الحركة الشيوعية من الدولة و تعريف الدولة التقدمية بتعريف هذه الأنظمة على أنها تقدمية , هذا الموقف جعل من السهل جدا فيما بعد , مثلا في نيسان ابريل 2003 قبول منطق التغيير بالدبابة الأمريكية لسبب بسيط هو أن مبرر اعتبار هذه الأنظمة تقدمية قد سقط دون المفهوم نفسه , سقطت دلالة أو معنى التقدمية الاجتماعي أو السياسي أما المفهوم ذاته فقد استمر بذات الجوهر أي تعريف التقدمية كقوة ذات سلطة مطلقة و فعل “إيجابي” إجباري أو حتمي تاريخيا و قبل كل شيء معزول عن واقع الجماهير , و أصبح اليسار المتلبرل يرى التقدمية هذه المرة في حكم الملالي في بغداد أو الإقطاع السياسي اللبناني “الديمقراطي” مع قيامه ب”نقد واقعي” لهذه الديمقراطية استنادا إلى ضرورة انتظار تحقق أكثر كمالا لهذه الديمقراطية مع الوقت , هذا النقد و الانتظار الذي لا يعني شيئا أبعد من تدجين الناس و تخفيف أو احتواء الغضب الشعبي لا أكثر..بعيدا عن هذا التحليل الستاليني الجوهر الليبرالي الظاهر و الذي وجد في نفسه الجرأة أن يعلن الرأسمالية ضرورية , بمعنى الغزو المعولم الفكري الاقتصادي السياسي و الظلم الاجتماعي السياسي و حتى الروحي , و حتى الحديث عن تقدميته تماما كما في الحديث الماضي عن تقدمية أنظمة ستالين , عبد الناصر , الأسد , صدام , هذا الأمر الذي دفع إلى الخلف الحديث عن الحرية نفسها أو جعل هذا الحديث يقتصر على مجرد تعبئة الناس ضد هذه الأنظمة أو ضد الأصوليين و دون أن يكون للجماهير مرة أخرى أي علاقة بهذا كله , لا من قبل و لا بعد , هذا في تأكيد لاغتراب كامل عن جوهر أي تغيير و تشييء هذا التغيير و اقتصاره على مؤسسات البنية الفوقية شكلا بالأساس مع الحرص على دفنه مجددا تحت شعارات دوغمائية معدة لقتله قبل أي شيء آخر , و دوما إنكار الواقع أمام مرجعية الدوغما و مناقشة العقائد و محاورتها من وراء ستار كثيف يعطي الأولوية لإعادة الإنتاج النخبوي الثقافي للواقع على الواقع نفسه تماما كما كانت من قبل علاقة الماركسية السوفيتية بالواقع , لا أهمية إذا لو كانت الرأسمالية قد حولت حياة البشرية لأول مرة إلى سؤال وجودي أبعد من الحديث عن استمرار الاستلاب الجماعي لضحايا هذا النظام ناهيك عن سخافة الربط بين الحرية و تسليع كل شيء و إقامة نظام التحكم القائم على الاستعراض السلعي الرخيص الذي يحول البشرية إلى متفرجين سلبيين “سعداء”..و كالعادة يريد الجدل أن يناقش أخطاء الآخرين وحدها تاركا أخطاء “الحلفاء” ليصححها التاريخ أو الآليات الذاتية التي تثبت كل الملاحظات أنها في أفضل أحوالها تستجيب لضغوط المستغلين الاحتجاجية و تتحرك بقصد الحفاظ على النظام القائم فقط و تعمل في تكامل كامل مع آليات التدجين الأخرى لا أكثر…البداية عند تروتسكي , أورد هنا مقاطع من كتابه الثورة المغدورة الفصل 11 المأخوذ من موقع ماركسي.دوت.كوم مترجم إلى العربية , حيث يتحدث عن البيروقراطية و عن الستالينية , ستجدون أن كل ما قاله يمكن بكل سهولة أن ينسحب على أي من هذه الأنظمة , لا توجد فروقات جدية بينها في الحقيقة..لكن المقال المرفق للتروتسكي المنشق كورنيليوس كاستورياديس (الذي قمت بترجمته ) سيجعل الجدل أكثر حماسة عندما ينتقد عدم قدرة تروتسكي على تقديم مقاربة أكثر عمقا و جرأة أو حتى أكثر جدية لقضية البيروقراطية و النظام الشمولي , و يكشف عن أن هذا الخطأ ليس فقط نقيصة فكرية , إنه عائق جدي أمام الانتقال إلى الحل المنشود : الحكم الذاتي للجماهير , هذا الذي يشكل نقيضا حقيقيا لكل من ديمقراطية البرجوازية التمثيلية و لشمولية النظام البيروقراطي..هل كانت هذه الأنظمة “تقدمية” في لحظة قيامها مثلا بتأميم قناة السويس أو النفط السوري أو العراقي أو الإصلاح الزراعي , و فقدت هذه الصفة في مرحلة لاحقة , السطور التالية تحاول الإجابة على هذا السؤال….

تروتسكي , من الثورة المغدورة
يقول تروتسكي في الثورة المغدورة , الفصل 11 “البيروقراطية تشبه كل الفئات المغلقة الحاكمة فيما يتعلق باستعدادها لإغماض العينين عن أشنع أخطاء قادتها في السياسة العامة إذا كان هؤلاء القادة أمناء كليا في الدفاع عن  امتيازاتها…إن الديكتاتورية الثورية تشكل بحد ذاتها تقييدا للحرية لهذا لم تكن المراحل الثورية في التاريخ ملائمة للإبداع الثقافي الذي لا تفعل أكثر من تمهيد الأرض له . و ديكتاتورية البروليتاريا تفتح للعبقرية الإنسانية آفاقا تتسع و تمتد كلما توقفت هذه الديكتاتورية عن أن تكون ديكتاتورية . و لا تتفتح الحضارة الاشتراكية إلا مع زوال الدولة . و يستطيع هذا القانون البسيط و الصلب إدانة النظام السياسي الحالي للاتحاد السوفيتي إدانة لا تقبل المراجعة. فالديمقراطية السوفياتية ليست مطلبا سياسيا مجردا أو أخلاقيا لقد أصبحت مسألة حياة أو وت بالنسبة للبلاد . فإذا لم يكن للدولة الجديدة مصالح أخرى غير مصالح المجتمع فإن زوال واجباتها القهرية يصبح تدريجيا و بدون أي ألم . و لكن الدولة ليست متجردة من المادة…و البيروقراطية تهتم بالإتاوة التي تدرها عليها الوظيفة أكثر من اهتمامها بالوظيفة نفسها و تهتم الفئة الحاكمة بتخليد أجهزة القهر و تثبيتها و إطالة أمد بقائها…إن تأليه ستالين بصورة أكثر فأكثر وقاحة عملية ضرورية للنظام رغم كاريكاتوريتها . فالبيروقراطية بحاجة إلى حكم أعلى لا تنتهك حرمته أو إلى قنصل أول في حال عدم وجود إمبراطور و هي ترفع على كتفيها الرجل الذي تجاوب بشكل أفضل مع مطامحها في السيطرة . إن القيصرية أو شكلها البرجوازي المتمثل بالبونابرتية تأخذ مكانها على مسرح التاريخ عندما تحتدم معركة شرسة بين خصمين فترفع المعركة السلطة فوق الأمة و تؤمن للحكام استقلالا ظاهريا حيال الطبقات و لا تترك لهم في الواقع إلا الحرية التي يحتاجونها للدفاع عن أصحاب الامتيازات…و كانت البونابرتية إحدى أدوات النظام الرأسمالي في مراحله المتأزمة بينما الستالينية نوع من أنواع البونابرتية و لكنه يستند إلى سلطة عمالية مزقها الصراع بين البيروقراطية السوفياتية المنظمة و المسلحة و الجماهير العاملة العزلاء من السلاح…إن البونابرتية السوفياتية ناجمة في التحليل الأخير عن تأخر الثورة العالمية . فتأخر هذه الثورة قد ولد الفاشية…إن الستالينية و الفاشية رغم اختلاف قواعدهما الاجتماعية ظاهرتان متماثلتان…
كان الحزب في الأيام الأولى من النظام السوفيتي بمثابة الموازن للبيروقراطية , فقد كانت البيروقراطية تدير الدولة فيما الحزب يشرف عليها و يراقبها . و كان الحزب على الدوام يخوض معركة سافرة أو خفية ضد البيروقراطية حيث سهر بتيقظ و حماس حتى لا تتجاوز “عدم المساواة” الحدود المعقولة . و كان الدور التاريخي للمجموعة الستالينية هو تدمير هذه الازدواجية عبر إخضاع الحزب إلى مكاتبها الخاصة و دمج مكاتب الحزب بمكاتب الدولة…
إن الوشاية و التفتيش يلتهمان المجتمع و تصف البيروقراطية خصومها بأنهم أعداء الاشتراكية…
لقد كتب لينين في موضوعة زوال الدولة و ضرورة تلاشيها أن الاعتياد على إتباع قوانين الجماعة قادر على استبعاد كل ضرورة للعنف “إذا لم يكن هناك شيء يثير السخط و الاحتجاج و التمرد و يستدعي القمع بالتالي” . و هذه “إذا”تشمل كل شيء . فالنظام الحالي للاتحاد السوفياتي يثير لدى كل خطوة من خطواته احتجاجات تزداد مرارتها بقدر ما يتم خنقها..
العلاقات المتبادلة بين الدولة و الطبقة العاملة هي أكثر تعقيدا عما يظنه الديمقراطيون “المبتذلون” . فبدون اقتصاد مخطط يتأخر الاتحاد السوفياتي عشرات الأعوام إلى الوراء . و البيروقراطية بحفاظها على هذا الاقتصاد تستمر في القيام بوظيفة ضرورية…
إن عملاء الكرملين و أصدقاؤه يتحدثون عن توقف الصراعات السياسية المرئية كما لو كان “استقرارا” للنظام و الحق أنه لا يعني إلا استقرارا مؤقتا للبيروقراطية على أساس أنه تم كبت استياء الشعب…
نقلا عن www.marxy.com/trotsky/revolution_bertrayed/appendix.htm  ( باللغة العربية ) .

من تحليل البيروقراطية إلى سلطة العمال
كورنيلوس كاستورياديس

كيف يمكن للمرء أن يصف نظاما كهذا من وجهة النظر الماركسية ؟ إذا تكلمنا في حدود علم الاجتماع من الواضح أنه يجب أن يعرف بنفس طريقة تعريف النظام الروسي . و هنا تصبح نواقص و سخافة المفهوم التروتسكي واضحة . لأن التعريف الذي أعطاه للنظام الروسي لم يكن اجتماعيا , كان مجرد وصف تاريخي بسيط : كانت روسيا “دولة عمال منحطة” . و هذه ليست قضية تعابير فقط . بالنسبة للتروتسكية فإن نظاما كهذا ممكن فقط كنتاج لانحطاط ثورة بروليتارية , لقد استبعدت من وجهة نظرها إمكانية أن يتم “تأميم” الملكية , و أن يجري “تخطيط” الاقتصاد و أن يجري القضاء على البرجوازية من دون ثورة بروليتارية . هل يجب إذا وصف أنظمة الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية على أنها “دول عمالية في حالة انحطاط” ؟ و إذا كانت كذلك بالفعل يجب على الإنسان أن يعترف أن الاستيلاء على السلطة من قبل حزب شمولي و منظم عسكريا هو في نفس الوقت ثورة بروليتارية – تعرضت للانحطاط في نفس الوقت التي حدثت فيها . هذه الشذوذات النظرية – التي لم يتراجع عنها أبدا “المنظرون” التروتسكيون – بقيت رغم ذلك ذات أهمية ثانوية . تعلم التجربة التاريخية , فيما يتعلق بماركس و لينين , أن تطور الثورة هو بالضرورة تطور أجهزة مستقلة للكومونة الجماهيرية , سوفيتيات , لجان المصانع , أو المجالس , و أنه لا يجمعها أي شيء مع عبادة ( فيتشية ) الأشكال التنظيمية : فكرة ديكتاتورية البروليتاريا التي يمارسها حزب شمولي كانت عبارة عن سخرية , وجود الأجهزة المستقلة للجماهير و ممارسة السلطة الفعلي من قبلها لم تكن مجرد شكل , كانت الثورة نفسها و كل الثورة .
بالمثل ففقد تبين أن فكرة تروتسكي مزيفة فيما يتعلق بالنقطة المركزية التي كانت لتشكل و التي كانت وحدها لتعطي التروتسكية الأساس في حقها في الوجود التاريخي كتيار سياسي : الطبيعة الاجتماعية و التاريخية للستالينية و للبيروقراطية . لم تكن الأحزاب الستالينية إصلاحية , إنها لم تحافظ على البرجوازية بل دمرتها بالأحرى . إن ولادة البيروقراطية الروسية في و من خلال انحطاط ثورة أكتوبر , الضروري من جوانب أخرى , كان عرضيا طارئا بالنسبة للأخيرة ( أي للتروتسكية ) : بيروقراطية كهذه كان يمكن أن تولد بشكل آخر , و ألا تكون نتاجا , بل أساس النظام الذي لا يمكن وصفه لا بأنه نظام الطبقة العاملة و لا أنه ببساطة رأسمالي بالمعنى التقليدي . إذا كانت ذات مرة بعض المراوغات البائسة فيما يتعلق بوجود الجيش الروسي في أوروبا الشرقية كسبب لوصول الأحزاب الشيوعية إلى السلطة ممكنة , فإذا إن تنصيب أوتوقراطية بيروقراطية إمبراطورية فوق عدة مئات من الملايين الإضافيين من الصينيين يجب أن تحل قضية أولئك الذين لا يحاولون أن يغمضوا أعينهم .
لذلك علينا أن نعود إلى “المسألة الروسية” و نضع جانبا الاستثنائية التاريخية و الاجتماعية لفكرة تروتسكي . على عكس تنبؤات الأخير , فقد نجت البيروقراطية الروسية من الحرب , التي لم تؤد إلى الثورة , و لم تعد “بيروقراطية في دولة واحدة” , حيث أن أنظمة مشابهة قد شقت طريقها بالقوة إلى السلطة في كل أوروبا الشرقية . لذلك لم تكن البيروقراطية الروسية استثنائية و لا تحولا “انتقاليا” بأي معنى غير حاذق لهذه الكلمة . و لم تكن مجرد “طبقة طفيلية” بل على الأصح طبقة مهيمنة , طبقة تمارس سلطة مطلقة على مجمل الحياة الاجتماعية , و ليس فقط في المجال الضيق للسياسة . ليس فقط , من وجهة نظر ماركسية , أن فكرة انفصال ( و في هذه الحالة , التناقض المطلق ) بين “الأساس الاشتراكي المزعوم للاقتصاد الروسي” و الإرهاب الشمولي الذي مورس فوق و ضد البروليتاريا هي خرافة مضحكة , فإنه يكفي أن نتناول جديا مادة العلاقات الحقيقية للإنتاج في روسيا وراء الشكل القانوني للملكية “المؤممة” لكي نكتشف أنها بالفعل علاقات استغلال , أن البيروقراطية تنسب لنفسها بشكل كامل سلطة و وظائف طبقة مستغلة , إدارة عملية الإنتاج على كل المستويات , التصرف بوسائل الإنتاج و سلطة اتخاذ القرارات إضافة إلى الاستيلاء على إنتاج القيمة المضافة ( أو فضل القيمة ) .
مجموعة من نتائج النظام الأعلى تنتج عن هذا التناول , لأن “المسألة الروسية” كانت و تبقى معيار الاتجاهات النظرية و العملية التي تدعو إلى الثورة , و أنها كانت الوريد الأغنى , الطريق الأساسي لفهم معظم المشاكل الهامة للمجتمع المعاصر . إن عقم تروتسكي و التروتسكية ليس إلا انعكاسا لعجزهم عن العبور إلى هذا الطريق . إن التبرير التاريخي للتروتسكية , الذي ربما كان ليضع الأساس لنشوء تيار سياسي جديد و مستقل , كان يجب أن يكون تحليل طبيعة الستالينية و البيروقراطية و تطبيقات هذه الظاهرة الجديدة . هذه المرحلة الجديدة من تاريخ حركة الطبقة العاملة بالإضافة إلى المجتمع في كل مكان من العالم تتطلب جهدا جديدا , تطورا نظريا جديدا . عوضا عن ذلك , لم يقم تروتسكي بأي شيء بل كرر و أعاد تدوين المرحلة الكلاسيكية للممارسة اللينينية ( أو بالأحرى هو عرضها كذلك ) , و حتى هذا فقد فعله فقط بعد فترة تنازلات و مساومات انتهت فقط عام 1927 . مجردا من أي سلاح تماما أمام البيروقراطية الستالينية كان قادرا فقط على إدانة جرائمها و انتقاد سياساتها وفق معايير 1917 . بشكل غير واضح في النظرية الكاذبة عن الستالينية كبونابرتية , و يعيقه موقفه الانطباعي عن انحطاط الرأسمالية , فقد رفض حتى النهاية أن يرى في النظام الروسي أي شيء إلا حادثا مؤقتا , واحدا من “دروب التاريخ العمياء” الشهيرة , لم يقدم إلا وصفا سطحيا للنظام البيروقراطي , و سيحاول المرء عبثا في الثورة ليجد فيها بديلا عن تحليل الاقتصاد الروسي : إذا تطورت قوى الإنتاج فهذا بفضل التأميم و التخطيط , أما إذا تطورت بشكل أقل سرعة و أقل جودة مما يجب , فإن المسؤولية تقع على البيروقراطية . هنا مادة ما يجب على تروتسكي و التروتسكيين أن يقولوه عن الاقتصاد الروسي . لقد أرهق نفسه و هو يظهر أن الأحزاب الشيوعية كانت تنتهك عمل المبادئ اللينينية و كانت تدمر الثورة – فيما كانوا يقصدون أهداف مختلفة تماما , و إن انتقادهم انطلاقا من هذا الجانب ليس له أي معنى مثل لوم آكل لحوم البشر الذي يربي أطفالا لكي يأكلهم , على انتهاكه قواعد علم التدريس المناسبة . و عندما قبل في حياته أن يأخذ بالاعتبار إمكانية نظرية مختلفة فيما يتعلق بطبيعة النظام الروسي , فإنه قد ربط المصير النظري لتحليل روسيا مباشرة و فورا بالمصير الفعلي لنبوءته فيما يتعلق بتطور الثورة من خلال الحرب التي كانت تبدأ للتو . لقد دفع ورثته المرهفين ثمنا باهظا بسب هذا الخطأ النظري , كتب تروتسكي بالأبيض و الأسود ( دفاعا عن الماركسية ) أنه إذا انتهت الحرب من دون انتصار الثورة العالمية , فإن تحليل النظام الروسي يجب أن ينقح و سيجب الاعتراف أن البيروقراطية الستالينية و الفاشية قد وضعتا مخططا لنوع جديد من النظام الاستغلالي الذي ميزه , فضلا عن ذلك , بالبربرية . كان أتباعه ملزمين لعدة سنوات بعد انتهاء الحرب أن يقولوا بأن الحرب , أو “الأزمة” الجارية لم تنته بالفعل . ربما أنها لم تنته بالفعل بالنسبة لهم .
أما أمثالي الذين أعجبوا بجرأته و دقته قد انتابتهم الدهشة لعمى تروتسكي فيما يخص الستالينية . لكنه لم يكن حرا بما فيه الكفاية . هذا العمى كان عمى أصوله نفسها ( أو جذوره ) : الاتجاهات البيروقراطية التي كانت مندمجة على نحو متأصل في الحزب البلشفي منذ البداية ( التي رآها و أنكرها قبل أن ينضم إلى الحزب و أن يطابق نفسه معها ) , و التي كانت , في الماركسية نفسها , كانت تعبد الطريق أمام البيروقراطية و تجعلها النقطة العمياء , الجزء غير المرئي و غير القابل للإصلاح من الواقع الاجتماعي التي تجعل من المستحيل , بعد نقطة ما , أن نفكر بهذا الواقع ضمن الإطار النظري الذي أوجدته الماركسية.
هذا المفهوم الجديد عن البيروقراطية و النظام الروسي قد سمحت بتمزيق الحجاب الذي كان يخفي الحقيقة عن “التأميم” و “التخطيط” و إعادة اكتشاف – أبعد من الأشكال القانونية للملكية إضافة إلى تجاوز الطرق التي تبنتها الطبقة المستغلة لإدارة مجمل الاقتصاد ( سواء أكانت هذه الطرق تتحقق من خلال “السوق” أو من خلال “الخطة” ) – العلاقات الحقيقية للإنتاج كأساس لتقسيم المجتمع إلى طبقات . من الواضح أنه في هذا فقط عودة إلى الروح العبقرية لتحليلات ماركس . إذا جرى إلغاء الملكية الخاصة الكلاسيكية و على الرغم من ذلك استمر استغلال العمال و حرمانهم و فصلهم عن وسائل الإنتاج , فإن الانقسام داخل المجتمع يصبح انقساما بين المدراء و المنفذين في عملية الإنتاج , الطبقة المهيمنة التي تثبت استقرارها , و عند وجود فرصة مناسبة تنقل الامتيازات إلى أخلافها عبر الآليات الاجتماعية التقليدية لا تكون غامضة أبدا .
يتيح لنا هذا المفهوم الجديد كذلك أن نفهم تطور الرأسمالية الغربية , حيث تركيز رأس المال , و تطور تكنيك و تنظيم الإنتاج , زيادة تدخل الدولة , و أخيرا تطور منظمات ضخمة للطبقة العاملة قد أدى إلى نتيجة مشابهة : إقامة الطبقة البيروقراطية في الإنتاج و المجالات الأخرى للحياة الاجتماعية . لذلك فإن نظرية البيروقراطية تجد جذورها الاجتماعية الاقتصادية في نفس الوقت الذي تتوافق فيه مع مفهوم تاريخي عن المجتمع المعاصر . بالفعل أنه من الواضح أن عملية تركيز رأس المال و تداخله مع الدولة , بالإضافة إلى الحاجة لممارسة السيطرة على كل قطاعات الحياة الاجتماعية , و خاصة العمال , كان يعني ظهور طبقة جديدة تتحكم بالإنتاج , الاقتصاد , الدولة و الثقافة إضافة إلى النقابات و الحياة السياسية للبروليتاريا , فحتى في الدول الرأسمالية التقليدية نشهد زيادة استقلال هذه الطبقة المقابلة للرأسماليين الخاصين , و الاندماج التدريجي في القمة بين هاتين الفئتين الاجتماعيتين . لكنه بالطبع لم يكن مصير الأفراد هو الذي يهم بل تطور النظام , و قد قاد هذا التطور عضويا الرأسمالية التقليدية لمؤسسة العمل الخاص , للسوق , و للدولة , إلى الرأسمالية الحالية للعمل البيروقراطي , للتجييش , و “للتخطيط” , و فوق كل ذلك للدولة الكلية . لهذا فإنني بعد فترة تردد قصيرة تصورت فيها هذا “الحل التاريخي الثالث” فقد تبنيت تعبير “الرأسمالية البيروقراطية” . إنني أقول “الرأسمالية البيروقراطية” و ليس “رأسمالية الدولة” , لأن الأخيرة تعبير لا معنى له تماما بحيث أنه ليس فقط لا يصف بشكل ملائم الدول الرأسمالية التقليدية ( حيث لا تدار وسائل الإنتاج من قبل الدولة ) لكنه أيضا عاجز عن أن يضع إصبعه على ظهور هذه الطبقة المستغلة الجديدة , و يخفي مشكلة مركزية بالنسبة للثورة الاشتراكية , و يخلق تشوشا كارثيا ( وقع فيه عدد هائل من الكتاب و المجموعات اليسارية ) بجعله المرء يعتقد أن القوانين الاقتصادية للرأسمالية مستمرة بالفعل بعد اختفاء الملكية الخاصة و السوق و التنافس , الذي هو محض سخافة . كم أصبحت البقرطة هي العملية المركزية للمجتمع الحالي أثناء ربع القرن التالي في الوقت الذي لم تستحق فيه حتى أي ذكر .
أكثر حسما حتى هي تلك النتائج المتعلقة بأهداف الثورة . إذا كانت هذه هي أسس المجتمع الحالي , فلا يمكن للثورة الاشتراكية أن تتوقف عند حرمان السادة و الملكية “الخاصة” من وسائل الإنتاج , فعليها أيضا أن تتخلص من البيروقراطية و التأثير الذي تملكه على وسائل و عملية الإنتاج – بكلمات أخرى , عليها أن تلغي الانقسام بين المدراء و المنفذين . لنعبر عن ذلك بطريقة إيجابية , إن هذه ليست إلا إدارة العمال للإنتاج , أي ممارسة السلطة الكاملة على الإنتاج و على كل الفعاليات الاجتماعية من خلال أجهزة مستقلة لجمعيات العمال . يمكن تسمية هذه أيضا الإدارة الذاتية , بشرط ألا ننسى أن هذا التعبير يعني ليس تجديد بل بالأصح تدمير النظام القائم , و بشكل خاص إلغاء جهاز الدولة المنفصل عن المجتمع و إلغاء الأحزاب كأدوات للسيطرة و الإشراف , بشرط أيضا ألا يتم خلط هذه الإدارة الذاتية مع التمويهات التي تنشر منذ بعض الوقت باسم أو بجهود الماريشال تيتو لاستخرج إنتاج أعلى من العمال اليوغسلاف بواسطة الراتب الذي يقوم على الإنتاج الجماعي و باستغلال قدرتهم على تنظيم العمل بأنفسهم . إن تجربة أن تكون عرضة للاستغلال و للقمع من قبل البيروقراطية , تأتي عند أقدام الرأسمالية الخاصة , و التي تركت بديلا واحدا فقط للجماهير الناهضة هو المطالبة بإدارة العمال للإنتاج , كان هذا عبارة عن استنتاج منطقي بسيط جرت صياغته في وقت مبكر مثل عام 1947 , و أثبتته الثورة المجرية لعام 1956 بقوة . أن إدارة الإنتاج من قبل المنتجين , و الإدارة الجماعية لكل شؤونهم من قبل كل أولئك المتأثرين , في كل مجال من مجالات الحياة العامة , سيكون مستحيلا و غير وارد إلا من خلال تدفق غير مسبوق في النشاط الذاتي المستقل من جانب الجماهير مما يعيد التأكيد على أن الثورة الاشتراكية ليست إلا انفجار هذا النشاط الذاتي المستقل ,و تأسيس أشكال جديدة من الحياة الجماعية , و إزالة , أثناء تطورها , ليس فقط تجليات بل جذور النظام السابق و خاصة كل فئة أو منظمة منفصلة “للمدراء” أو “الإداريين” ( التي يدل وجودها على حقيقة أنها تنتسب للنظام السابق أو بالأحرى أنها تشهد بنفسها أن ذلك النظام ما يزال موجودا هناك ) , خالقة في كل مرحلة من مراحلها أسسا جديدة للدعم لتطورها القادم ولدمج كل هذا في الواقع الاجتماعي .
أخيرا تتبع هذا بعض النتائج المهمة عن المنظمة الثورية نفسها فيما يخص علاقتها بالجماهير . إذا كانت الاشتراكية هي تدفق النشاط الذاتي المستقل للجماهير و إذا كان من الممكن لأهداف هذا النشاط و أشكاله أن تصدر فقط من تجربة العمال التي يمتلكوها من الاستغلال و القمع , فإنها مسألة إما أن يتشربوا “وعيا اشتراكيا” تنتجه نظرية أو ينتج عن فعل ممثلين عنهم سواء في توجيه الثورة أو بناء الاشتراكية . ما يجب إذا هو تحويل جذري للنموذج البلشفي , لأنواع العلاقات التي توجد بين الجماهير و المنظمة الثورية بالإضافة إلى بنية الأخيرة و حياتها الداخلية .
جرت صياغة هذه الاستنتاجات بوضوح في مجلة “اشتراكية أو بربرية” . على الرغم من ذلك لم أكن قادرا على استنباط كل الاستنتاجات على الفور و بقيت الكثير من الأمور غامضة في النص الأول المكرس لهذه المسألة ( الحزب الثوري , مايو أيار 1949 ) , جرت إزالة هذه الأمور الغامضة جزئيا في النص الذي يليه ( القيادة البروليتارية , تموز يوليو 1952 ) . خلف الصعوبات الموجودة دوما عندما يقطع المرء مع إرث تاريخي عظيم , بدا لي عاملان كانا حاسمين في تحديد موقفي في تلك الفترة . العامل الأول هو أنني كنت أقيس , بكامل تأثيرها , مدى مشكلة مركزة المجتمع المعاصر – و التي كنت أعتقد دوما أنها قد جرى التقليل من أهميتها من قبل المجموعة التي عارضتني في هذه القضية – و أنه قد بدا لي , بشكل خاطئ , أن الحزب كان قد أضاء جانبا واحدا من الجواب . فيما يخصني فقد حلت هذه المسالة بقدر ما تمكنت من الكتابة عنها , في “عن محتوى الاشتراكية” . العامل الثاني كان التناقض الموجود في فكرة المنظمة و النشاط الثوريين نفسها : أن أعي و أن أفهم أن البروليتاريا يجب أن تصل إلى فكرة الثورة و الاشتراكية التي يمكن أن تستنبطها من نفسها فقط , و مع ذلك ألا يطوي المرء أسلحته لهذا كله . إن هذه بالنتيجة هي صياغة مشكلة الممارسة ذاتها كما تناقش في علم أصول التدريس إضافة إلى التحليل النفسي , و كنت قادرا على مناقشتها بطريقة حققت لي الرضا فقط بعد 15 عاما في ( الماركسية و النظرية الثورية ) .

نقلا عن //libcom.org/book/export/html/549
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى