صفحات العالم

محاكم دولية

عبد الوهاب بدرخان
لأسباب داخلية، سيادية، سياسية، وربما انتخابية، تحول ضحايا \”الأربعاء الدرامي\” في العراق إلى ذريعة ومصيدة للمطالبة بتحقيق دولي في التفجيرات التي قتلت أكثر من مئة إنسان. والتحقيق قد يمهد لإنشاء محكمة دولية تريدها حكومة بغداد بإلحاح كإجراء رادع لمن يرسلون سفراء الموت إليها.
لماذا تمييز هذه التفجيرات عن سواها، ولماذا تمييز هذه الضحايا عن مئات الآلاف التي سبقتها، ولماذا الآن على رغم أن السيناريوهات تكررت مرات لا تحصى، وكانت المعلومات تقود دائماً إلى المصدر نفسه؟ أسئلة كثيرة طرحت وستطرح، لكن الواضح أن الكيل طفح في بغداد. فهذه التفجيرات تحديداً أظهرت أن البلد مكشوف، لم يكن فيه أمن في ظل الأميركيين، ولم يتحسن فيه الأمن في عهد العراقيين أنفسهم. الخلل في الداخل لكن هناك من يتربص في الخارج. والخارج المهم الآن هو سوريا، أو بالأحرى \”بعثيون\” أو \”تكفيريون\” بحسب التصنيف البغدادي لأطراف تقيم في سوريا.
رفعت حكومة نوري المالكي السقف عالياً جداً، ومنذ لحظة استدعاء سفيرها من دمشق، فلا حل ولا انفراج إلا بتسليم متهمين اثنين. للمالكي شخصياً خبرة واسعة في ما يعنيه المنفى الدمشقي، فقد كان ضيفاً سابقاً هناك عندما كان الضيوف الحاليون في الحكم، أي أن \”الضيوف\” تبادلوا مكان الإقامة نفسه، ولعلهم تبادلوا أيضاً أساليب العمل، فالسابقون والحاليون يمارسون هواية إرسال \”الهدايا\” إلى بغداد وربما يستخدمون المسالك ذاتها.
تبدو دمشق كأنها فوجئت فعلا بهذا الهجوم الاتهامي، فهي تمر بفترة رضا وثقة، وتشعر بأن العواصم الكبرى المنفتحة عليها تجاوزت مآخذها الكثيرة عليها لتخطب ودّها. لم تكن تتوقع أن تكون بغداد مصدر إزعاج يشوّش مزاجها الحالي. لكنها سرعان ما استحثت الترياق التركي الذي ترغب أنقرة في تفعيله، فهي في صدد بلورة دور ديبلوماسي لا تبدو الجامعة العربية ولا أي وساطة عربية ذات شأن قادرة عليه. والأتراك حريصون في كل خطواتهم على طلب الاستشارة، وربما الاستخارة، من واشنطن.
لكن دمشق تريد \”أدلة\” لتتصرف، ولا يعرف إذا كان الوزير الإيراني منوشهر متكي، الذي قيل إنه تسلم ملفاً من العراقيين، قد اهتم بإرساله إلى دمشق، وإذا فعل فليس معروفاً ما إذا كانت دمشق ستأخذ مضمونه في الاعتبار، طالما أنه لم يصلها مباشرة، ووفقاً للأصول. يفترض أن يكون لدى بغداد أكثر من \”شريط الاعترافات\” الذي بثه تلفزيونها الرسمي، فكل الأجهزة تعرف قصة أشرطة كهذه، كونها سبق أن أنتجت وأخرجت عشرات مثلها.
تعلمت بغداد من دروس سابقة تعرضت لها دمشق واضطرت فيها للاستجابة درءاً للمخاطر والمتاعب. ذات يوم أرسل ملف كامل إلى دمشق يتضمن كل تفاصيل الحياة اليومية للزعيم الكردي عبدالله أوجلان، مع طلب تسليمه إلى تركيا، وعندما تأخر الرد حشد الجيش التركي على الحدود. وبعد أيام قليلة كان أوجلان في الطائرة إلى موسكو في بداية رحلة ما لبثت أن أوصلته إلى حيث هو الآن، في السجن، في تركيا. طبعاً لا يملك المالكي ما يحشد به على الحدود، لكنه يعتقد أن الضغط مفيد، فهو يعرف كيف أمكن الأميركيين اعتقال وطبان وبرزان وسبعاوي الأخوة غير الأشقاء لصدام حسين، لقد كان الأولان في سوريا والثالث في بيروت. ولكي يكون الضغط موجعاً ومجدياً اختار المالكي أن يندفع فوراً إلى… محكمة دولية. لاشك أن الفكرة مستوحاة من السابقة اللبنانية الدولية للمحكمة الخاصة بقتلة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وعشرات آخرين اغتيلوا معه أو بعده. والفارق بين المحكمتين، إذا قدّر للثانية أن تنشأ، أن الملف العراقي (-الأميركي) أكثر ثراء بالمعطيات.
لا يعني هذا اللجوء إلى التدويل سوى شيء واحد: اليأس من إمكان تغيير الحال ثنائياً، لا بالأخوة ولا بالجيرة ولا بالاتفاقات الموقعة. ليس مؤكداً أن التدويل يحقق الهدف، أي قطع دابر التفجيرات والمفجّرين، لكنه حتى قبل أن يبدأ ينجح في التشهير وفي وضع الآخر موضع اتهام. ولذلك اعتبر الرئيس السوري أن الاتهامات \”غير أخلاقية\”.
العامل الحاسم لمصلحة إنشاء محكمة دولية أو ضده سيكون أميركياً، وتبدو واشنطن حالياً مكتفية بمراقبة ما يجري، لا تستطيع معارضة المطالب العراقية، ولا تدفع باتجاه تزكية إنشاء المحكمة. لكن المناخ الدولي قد يتغير، إذا ساءت الأمور مع إيران، وقد يجد الأميركيون مصلحة في التلويح بالمحكمة على سبيل الضغط. وإذا سعت سوريا مع تركيا إلى إرضاء المالكي لإسكاته فإنها لن تضمن سكوته طويلا، لذا قد يكون من الأفضل الاستعانة بالصديق الإيراني لإيجاد حل مع هذا الجار ولو بإحراقه سياسياً، فهو قد يزعجهما معاً في المراحل المقبلة.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى