صفحات مختارة

في الوحدة الوطنية .. وحدة السلطة والمعارضة

null
جاد الكريم الجباعي
وحدة السلطة والمعارضة، في أي دولة حديثة، مظهر من مظاهر الوحدة الوطنية، مفهومة على أنها وحدة الاختلاف والتنوع والتعارض، إن لم يكن المظهر الرئيس، ومن ثمّ، فإنّ أيّ بلد تمسك بمقاليده سلطة لا تعترف بالمعارضة، أو تنظر إليها على أنها “العدوّ”، بلد يفتقر إلى الوحدة الوطنية، مهما تغنى بها المتغنّون والمغنوّن.
مفهوم الوحدة في الوعي السائد عندنا يعني التجانس والنقاء وإلغاء الفروق والاختلافات والتعارضات، وهو أقرب ما يكون إلى المفهوم الدينيّ / المذهبيّ. ( وحدة الحزب، على سبيل المثال، تشبه وحدة الطائفة، من حيث إيمان الرفاق أو الأتباع بعقيدة لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها.  وأي شكّ أو تشكيك في هذه العقيدة يخلق حالة من التوتر والاضطراب تسري في جسم الطائفة كله أو في جسم الحزب كله، ولا تعود الطائفة أو الحزب معها إلى الحالة الطبيعية إلا بعد القضاء على عوامل التوتر والاضطراب، إما باستتابة المتشككين أي بـ “النقد الذاتي”، وإما بطردهم خارجاً طرد الكلاب، وإما بالانشقاق . وينطبق ذلك على أي رأي مخالف أو أي اجتهاد مخالف، فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. (هذه النظرة إلى وحدة الطائفة ووحدة الحزب هي ذاتها النظرة إلى الوحدة الوطنية وإلى الوحدة العربية وإلى الدولة القومية الكردية، التي ينشدها بعضهم. المختلف موضع شبهة وارتياب، ينطوي دوماً على نوايا خبيثة، وضالع دوماً في مؤامرة ما، ومرشح دوماً للخيانة هو شوكة في الحلق أو خنجر في الخاصرة. المشاريع الأيديولوجية القومية والإسلامية والاشتراكية، على السواء، قائمة على مبدأ القضاء على المختلف (القضاء على البورجوازية وعلى الرجعية العربية، وعلى الكفرة والمارقين والمرتدين). لنلاحظ أن الطائفة أو الحزب سلطة تشريعية وسلطة قضائية وسلطة تنفيذية في يد واحدة. ذلكم هو الاستبداد.
مبدأ الاستبداد المحدث، كمبدأ الاستبداد القديم، هو سديمية واختلاط تغدو معهما الحياة الاجتماعية مجالاً واحداً هو مجال سلطة المستبد فحسب، لا حياة اجتماعية خارجها، ولا حياة اقتصادية ولا حياة ثقافية ولا حياة سياسية. الاستبداد هو لحمة الحياة الاجتماعية، التي تبدو للوعي القاصر وحدة وطنية أو “قومية” أو إسلامية (ويحدثونك عن أمة عربية وأمة إسلامية) .  النظام الاستبدادي “يوحّد” المجتمع بالسيطرة المطلقة عليه، والتحكم بجميع مقدراته، وبمحاولة السيطرة على الاختلاف وطمس الفروق والحدود.  ويساوي بين الرعايا، على أنهم لا شيء، كل واحد منهم يساوي صفراً، على يسار المستبد أو على يمينه، على يساره حيناً وعلى يمينه أحياناً، كيفما يشاء المستبد وحينما يشاء. المستبد  هو من يمنح الفرد قيمة، ويسند إليه دوراً ووظيفة، هو من يمنح ويمنع، ويعاقب ويثيب. المستبد هو الواحد الأحد، هو المشرع والقاضي والمنفذ، هو السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، هو القضاء والقدر،ليس من معنى للقضاء والقدر في تاريخ البشرية سوى هذا المعنى. الفكر الحر استبدل بالقضاء والقدر وحدة المصادفة والقانون، والحرية والضرورة، والمطلق والنسبي، واستبدل الاحتمال بالحظ، وجعل من لعبة “طاولة الزهر” أساساً لعلم الاحتمالات، لا مجرد حظ، الرأي والسيف في يد واحدة، والرأي هو رأي السيف ليس غريباً، أن يشبه الشاعر العربي ممدوحه بالليل: وإنك كالليل الذي هو مدركي / وإن خلت أن المنتأى عنك واسع، أو أن يضفي عليه صفات الألوهية: ما شئت لا ما شاءت الأقدار / فاحكم فأنت الواحد القهار). ومثلما كانت الجماعات البدائية تتقي غضب الطبيعة باللجوء إلى المغارات والكهوف، تتقي الجماعات الطبيعية “الحديثة” غضب الاستبداد باللجوء إلى مغارات وكهوف رمزية هي العشائر والمذاهب والطوائف والإثنيات والعصبيات، وهذه جميعها تظل، في كنف الاستبداد، متنافرة ومتخارجة ومتحاجزة، مثل الماء والزيت.  فلا وطنية ولا وحدة وطنية مع الاستبداد أو في كنفه.
لا تقوم وحدة وطنية إلا على أساس ما هو عام ومشترك بين جميع أفراد المجتمع، على اختلافهم، وبين جميع الفئات الاجتماعية والقوى السياسية، على اختلافها أيضاً. اختلاف الأفراد واختلاف الفئات الاجتماعية وتضارب مصالحهم أو مصالحها هو ما يجعل الوحدة الوطنية ضروري، وما هو عام ومشترك بين الأفراد والفئات الاجتماعية والقوى السياسية هو ما يجعلها ممكنة.  ولا تقوم وحدة وطنية راسخة ودائمة وقابلة للنمو والتطور إلا باستقلال كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية استقلالاً نسبياً هو أساس فصل السلطات.  والشرط الضروري لذلك هو استقلال المجال السياسي وعدم طغيانه على المجالات الأخرى وسيطرته عليها، ولا سيما المجالين الاقتصادي المادي والثقافي الروحي، وتنظيمات المجتمع المدني.  ولا يمكن أن يستقل المجال السياسي ّعن مجالات الحياة الاجتماعية الأخرى إلا عندما يكون مجالاً وطنياً عاماً، ما يؤكد مرة أخرى أن الوطنية والاستبداد ضدان لا يجتمعان معاً.
الحواجز الفعلية، التي تفصل، في أيامنا، بين الأفراد والجماعات، وبين الأمم والشعوب، ليست الحواجز الطبيعية من جبال وأنهار وبحار وصحارى، بل الحواجز الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية، التي تجعل من أي مجتمع متأخر مجتمعات مغلقة ومتحاجزة ومتنابذة شبهناها بالثقوب السوداء، لشدة كثافتها الأيديولوجية وقوة جاذبيتها لأفرادها وصهرهم في بوتقتها حتى تختفي أو تكاد معالم شخصية الفرد وذاتيته وفرديته وحريته واستقلاله، فلا يتبقى منه سوى الكائن الديني، المذهبي أو الطائفي أو العرقي. وكذلك الحواجز الأيديولوجية التي تجعل من “الأحزاب”  نوعاً من مذاهب حديثة أو طوائف حديثة، يعيد أعضاؤها إنتاج علاقاتهم الطبيعية، ما قبل الوطنية، في داخلها، فيغلقون على أنفسهم ما يفترض أنها بنى سياسية حديثة ومفتوحة ومناخات للحرية، هي شكل التوسط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي.
ليس من سبيل إلى وحدة هذه “المجتمعات” سوى سبيل الحرية: حرية التفكير والتعبير وحرية العمل والإنتاج الحرية الاقتصادية وحرية تشكيل الجمعيات والنوادي والنقابات والأحزاب السياسية وغيرها من الحريات الشخصية والعامة. إذاً لا سبيل إلى الوحدة الوطنية سوى اقتصاد وطني يقوم على مبدأ الحرية، وثقافة وطنية تقوم على مبدأ الحرية، وسياسة وطنية تقوم على مبدأ الحرية. ولما كانت المعارضة، عندنا، مستبعدة عن مراكز القرار الاقتصادي وغير قادرة على الإسهام في توجيه عملية الإنتاج الاجتماعي والتأثير فيها، فليس أمامها من خيار سوى العمل في مجال الثقافة الوطنية والسياسة الوطنية، لمواجهة “الثقافة الجماهيرية” والسياسة الفئوية. فليس من المعقول وليس من المجدي مواجهة الثقافة الجماهيرية بثقافة جماهيرية مضادة، ومواجهة السياسة الفئوية بسياسة فئوية مضادة: إثنية أو مذهبية أو طبقية (بروليتارية).
قضية الوحدة الوطنية من أكثر القضايا التباساً وغموضاً في الوعي السياسي السائد، ومن أكثرها أهمية وراهنية. لذلك نعتقد أن وحدة المعارضة والسلطة قد تكون مدخلاً مناسباً لافتتاح التفكير في موضوع غير مٌفكَّر فيه، مع أنه شعار يرفعه الجميع. ونفترض أن وحدة السلطة والمعارضة تتأسس على جملة من المبادئ والأسس أهمها:
1-  الحقل السياسي الوطني حقل مشترك بين جميع المواطنين، على اختلافهم، وبين جميع الفئات الاجتماعية والقوى السياسية، على اختلافها وتضارب مصالحها.
2- وحدة الحقل السياسي هي تعبير عملي عن الوحدة الوطنية، التي ينبغي كسبها كل يوم.
3- ليس لهذا الحقل السياسي الوطني المشترك من اسم آخر سوى الدولة الوطنية (الأرض والشعب والنظام العام أو السلطة العليا السيدة).
4-  الوحدة الوطنية لا تعني النقاء والتجانس والأحادية وانعدام الحدود والفروق، بل تعني أنها عقد اجتماعي وأخلاقي ضروري، بين أفراد مختلفين ينتظمون في فئات اجتماعية مختلفة اختلافات شتى، وذات مصالح مختلفة، ناجمة أساساً عن نمط توزيع عوامل الإنتاج، ونمط توزيع الثروة، فيما بينها، وعن موقع كل منها على سلم الإنتاج ودورها في عملية الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي. ضرورة العقد الاجتماعي تنبع من حاجة كل واحدة من هذه الفئات إلى الفئات الأخرى، إذ لا وجود لأي منها من دون الأخريات، ولا يمكن أن تتحقق مصالح أي منها بمعزل عن مصالح الفئات الأخرى. الاختلاف والتفاوت الاجتماعي وحاجة الجميع إلى الجميع تحتم قيام العقد الاجتماعي وقيام المجتمع المدني، وتعبر عن ذاتها بأشكال شتى ثقافية وأيديولوجية وسياسية. تجدر الملاحظة هنا أن العقد الاجتماعي، الذي يفضي إلى الوحدة الوطنية هو عقد بين أفراد هم أعضاء في المجتمع المدني وأعضاء في الدولة السياسية بالتساوي، عقد بين جميع أعضاء المجتمع وجميع أعضاء الدولة.  بخلاف العقد الذي ينشأ بين جماعات طبيعية، كالعشائر والطوائف والإثنيات، فهذا الأخير لا ينتج وحدة وطنية، بل ينتج هدنة بين حربين، هدنة تقصر أو تطول.  العقد الاجتماعي بين الأفراد لا يعني زوال العشائر والطوائف والإثنيات، بل يعني أن علاقات القرابة والعرق واللغة والدين لم تعد علاقات سياسية، بل علاقات اجتماعية وثقافية فحسب.
5-  السياسة مفهومة فهماً صحيحاً هي الوسيلة الفضلى للنقاش والحوار والتفاوض بين الفئات الاجتماعية المختلفة للتوصل إلى تسوية تاريخية تحفظ حقوق الجميع وحرياتهم وأمنهم وكرامتهم، وتحقق مصالحهم بنسب متفاوتة، عن طريق التنافس في الانتخابات المحلية والنقابية.  وعن طريق الانتخابات التشريعية، على أساس الدائرة الصغرى وصوت واحد للشخص الواحد أو على أساس  حزبي ونسبي، بوجه خاص.
6- الانتخابات التشريعية الدورية والتداول السلمي للسلطة آليتان ضروريتان لاحتواء التعارضات الاجتماعية والتعبير عن تغير نسبة القوى الاجتماعية وإعادة إنتاج العقد الاجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية.
7-  ليس بوسع الفئات الاجتماعية أن تدافع عن حقوقها ومصالحها بوسائل وأساليب سلمية إلا عن طريق الأحزاب السياسية.
8- الأحزاب السياسية، التي يفترض أن يعبر كل منها عن مصالح فئة أو فئات اجتماعية معينة تتنافس لنيل عدد أكبر من مقاعد البرلمان وتأليف الحكومة. والأحزاب التي لا يحالفها الحظ في ذلك إما أن تتحالف مع الحزب الأقوى وتشترك معه في الحكومة وإما أن تشكل معارضة سياسية. 9-  في ظل دورية الانتخابات التشريعية والتداول السلمي للسلطة، وإمكانية تعديل ميزان القوى الاجتماعي/ السياسي يمكن أن تنجح المعارضة في التحول إلى أغلبية فتؤلف الحكومة وهكذا.  ما يعني أن المعارضة هي سلطة بالقوة يمكن أن تصير سلطة بالفعل، والسلطة هي معارضة بالقوة يمكن أن تصير معارضة بالفعل. ذلكم هو معنى الوحدة الجدلية بين السلطة والمعارضة، في النظام الديمقراطي.
10-  التنافس السياسي، بل التحدي السياسي، وفق مبدأ وحدة السلطة والمعارضة يغدو تنافس الأحزاب على تقديم أفضل ما لديها للمجتمع كله، بحكم حاجتها إلى أصوات الناخبين، لا سيما أن الحدود بين الفئات الاجتماعية ليست مغلقة وليست نهائية بحكم نمو المجتمع وتطوره.  ومن ثّم فإن ما يسفر عنه التنافس السياسي في كل مرة هو ربح صاف للمجتمع كله، فلي ثمة منتصر ومهزوم أو غالب ومغلوب، ما دامت الأحزاب والقوى تتنافس على تقديم أفضل ما لديها، أو ما تعتقد بأنه الأفضل للمجتمع كله..
سيقول قائل:  هذا في النظام الديمقراطيّ. نقول: أجل، إنه كذلك ونرى أنّ المعارضة اليوم مدعوّة، في كل بلد من بلداننا على حدة، إلى العمل بموجب هذا المبدأ، لأنّ هدفها الرئيسي هو الانتقال إلى نظام ديمقراطي. والنضال الديمقراطي الفعلي هو إرساء أسس النظام الديمقراطي المنشود في كل خطوة تخطوها المعارضة من أجل تغيير بنية النظام الشمولي، وإلا فإن الانتقال المنشود لن يكون سلمياً ولن يكون آمناً، بل لن يكون ديمقراطياً.
العلاقة بين السلطة السياسية والمعارضة السياسية إذاً محكومة بجملة من التعارضات الاجتماعية، التي تمنحها معنى واتجاهاً، مع تأكيد الصفة السياسية للسلطة والمعارضة، وهي علاقة جدلية بامتياز، إذا انتفى أحد طرفيها ينتفي الآخر بالضرورة ، فإن نفي المعارضة السياسية، كما هي الحال اليوم، لا ينفي السلطة، بل ينفي عنها صفتها السياسية، ومن ثم صفتها الوطنية، وينفي السياسة، ويكشف النقاب عن المشروعية الفعلية للاستبداد، نعني مشروعية القوة والغلبة والقهر والاحتكار، التي تقوم عليها وبها أي سلطة غير سياسية، كسلطة العشيرة أو الطائفة أو الطغمة أو سلطة الحزب الواحد، ويحدد طابع المعارضة، في الوقت ذاته، ويفسر الطابع الأيديولوجي، المذهبي أو العقائدي، للسلطة والمعارضة معاً.
السلطة بلا معارضة هي أي شيء سوى السلطة السياسية. ما يقتضي إعادة بناء مفهوم السياسة على أنها حقل عام مشترك بين جميع مواطني الدولة المعنية، قوامه جدل السلطة والمعارضة، على كل صعيد، قبل أن تكون السياسة، ولكي تكون، علم الدولة (الحديثة) وعلم إدارة الشؤون العامة. فإن جدل أو ديالكتيك السلطة والمعارضة هو شرط الانتقال السلمي إلى الديمقراطية، وشرط الديمقراطية ذاتها، وشرط من الشروط الضرورية لبناء الوحدة الوطنية.
الطريق السلمي إلى الديمقراطية يشترط، قبل أي شيء، أن تكون المعارضة (الديمقراطية) معارضة سياسية، لا معارضة أيديولوجية، كما هي الحال في أوضاعنا، أي أن تكون مختلفة نوعياً عن السلطة التي تعارضها. فمعارضة قوميين لقوميين أو إسلاميين لإسلاميين أو اشتراكيين لاشتراكيين، وهي من قبيل التضاد والتخارج والمفاصلة كانت، في التجربة العملية المعروفة، كمعارضة الأسماك الصغيرة للأسماك الكبيرة، الأسماك الكبيرة تأكل الأسماك الصغيرة دوماً، فلا ينتج من ذلك نوع جديد من السمك.  السلطات المستبدة تتطيَّر من أي معارضة، ولا سيما من تلك التي تنافسها على مصادر مشروعيتها الأيديولوجية، فليس من سبيل، والحالة هذه، سوى التطرف والعنف. وإلى ذلك فإن المعارضة الأيديولوجية تخفي حقيقة أن “الصراع السياسي” هو مجرد صراع على السلطة والثروة والسيطرة على مقدرات المجتمع، كما كانت الحال دوماً.
المعارضة الديمقراطية ليست معنية بتعريف نفسها بأنها ديمقراطية فقط، وليست معنية بنشر وعي ديمقراطي مناسب فحسب، بل هي معنية، أساساً، بتعريف نفسها بأنها معارضة سياسية، وبإعادة تعريف السياسة، بوصفها حقلاً وطنياً عاماً مشتركاً بين جميع المواطنين، ليس من حقّ أحد أن يقصي الآخرين عنه أو يستبعدهم منه. ومعنية بإعادة تعريف الوطنية، أيضاً، بأنها انتماء إلى الدولة الوطنية. فإنّ من شأن هذا التعريف أن يكشف عدم جدوى العنف وعبثيته، ومن شأنه أيضاً أن يستبعد العقائد من الحياة السياسية، أو أن يطردها من حقل السياسة مكللة بالورود، وذلك باحترام جميع العقائد الأيديولوجيات بالتساوي.
إذا كان النظام الشمولي لا يقبل أي معارضه، سواء جاءت من داخله أم من خارجه، وإذا كانت السلطة المستبدة قد أخرجت المعارضة من الحياة السياسية والثقافية، ومن مجال الدولة، بل حاولت الإجهاز عليها وكبدتها، وكبدت المجتمع، خسائر فادحة، فإن على المعارضة الوطنية الديمقراطية أن تتصرف حيال أعضاء الأحزاب الحاكمة أو المشاركة في الحكم وحيال أشخاص السلطة أيضاً بمقتضى رؤيتها الوطنية الديمقراطية، لا بمقتضى مواقف السلطة وممارساتها الهمجية. فإن تحرير جميع مؤسسات المجتمع المدني وجميع مؤسسات الدولة العامة من سلطة الحزب الحاكم عليها، لا ينفي حق هذا الحزب في الحكم بموجب انتخابات حرة ونزيهة وتنافسية، ولا ينتقص من حقوق أعضائه في قليل أو كثير.  ولا يغض من شأن أيديولوجيته أيضاً أسوة بالأيديولوجيات الأخرى.  إن وحدة السلطة والمعارضة هي المبدأ الكفيل باستئصال العنف من الحياة السياسية.
ما من شك في أن وحدة السلطة والمعارضة، الجدلية، على النحو الذي بيناه، تعبير عن الوحدة الوطنية، لكنه مجرد تعبير سياسي.  الوحدة الوطنية أعمق من ذلك وأشمل من ذلك. تمتد جذورها إلى الأسس التي قام عليها الاجتماع البشري، وإلى عوامل تطوره، وصولاً إلى المجتمع المدني الحديث، الذي يقوم على عقد اجتماعي وأخلاقي تجسده الدولة الوطنية، ويجسده الدستور.
قوام العقد الاجتماعي الذي تقوم الدولة الوطنية بموجبه وعلى أساسه هو العناصر المشتركة بين جميع الأفراد الطبيعيين، الذين يؤلفون المجتمع، وبين الجماعات والفئات الاجتماعية أيضاً. من أهم هذه العناصر المشتركة انتماء كل واحد منهم إلى الدولة، وليس لهذا العنصر المشترك من اسم آخر سوى المواطنة. فالمواطن هو أساس الدولة. الفرق المفهومي والواقعي بين الفرد الطبيعي والمواطن هو نفسه الفرق المفهومي والواقعي بين المجتمع المدني والدولة السياسية. المجتمع المدني ميدان الاختلاف والتفاوت الاجتماعي وميدان “الصراع الطبقي”، ومجال الحرية الذاتية. والدولة السياسية هي مجال الوحدة، وحدة الاختلاف والتباين والتعارض، ومجال القانون بوصفه تعبيراً عن الحرية الموضوعية. الشعوب التي لا تنظر إلى القانون على أنه حرية موضوعية هي شعوب لا تعرف معنى الحرية.
العلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية، في أهم وجوهها، هي علاقة جدلية (ديالكتيكية) بين حرية الفرد الذاتية، التي لا حدود لها، في فضاء المجتمع المدني، وبين الحرية الموضوعية، التي يجسدها القانون، بوصفه ماهية الدولة الوطنية. والشعوب التي لا تنظر إلى القانون على أنه حرية موضوعية لا تدافع عن أوطانها.
المواطنة، التي مضمونها الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والمشاركة في حياة الدولة، هي الأساس الواقعي والموضوعي للوحدة الوطنية. فأي انتقاص من حقوق المواطنين أو من حقوق بعضهم، أو من حقوق أي منهم، وأي اعتداء على حريتهم أو على حرية أي منهم، هو انتقاص من الوحدة الوطنية واعتداء عليها وتقويض لأسسها. وأي سلطة على المواطنين غير سلطة الدولة، أي سلطة القانون العام، الذي يضعه الشعب لنفسه ويرى فيه ملاذاً من التعسف والاعتباط ومن الجهل والهوى، هو انتقاص من الوحدة الوطنية واعتداء عليها وتقويض لأسسها

الأوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى