برهان غليونصفحات مختارة

اكتشاف المعرفة… ثلاث حلقات للترجمة

null
د. برهان غليون
بعد حقبة طويلة ماضية سيطر خلالها على المجتمعات العربية هوس تأكيد الهوية الثقافية والدينية، يسود اليوم لدى المثقفين وبعض المسؤولين العرب شعور عميق بأن فجوة المعرفة قد اتسعت بين العرب والعالم الصناعي، إلى درجة أصبحت فيها تشكل خطورة على مستقبل العالم العربي وعلى تكوين أجياله الجديدة. من هنا بدأ الاهتمام بالتواصل مع المجتمعات الحديثة والاقتداء بها والتعلم منها، يطغى في السنوات الأخيرة، رغم مظاهر التعصب والتزمت في خطاب الهوية الدينية والقومية. فمنطق الهوية بالضرورة خصوصي، يسعى إلى تأكيد التمايز والمغايرة مع الآخر كمرتكز لوعي مستقل بالذات، فاقمت من خطورته عندنا تجربة الاستعمار والاحتلال السابق والقائم الذي غذى، ولا يزال، الشعور بالدونية وضعف الذاتية. وبالمقابل لا يمكن لمنطق المعرفة أن يكون إلا منطقاً كونياً، أي يخترق الهويات والاختلافات، مؤكداً وحدة العقل الإنساني وامتداده عبر الزمن، وتواصل الباحثين والعلماء بعضهم مع البعض الآخر وتحاورهم. فوحدة العقل هي الفرضية الأساسية في وجود العلم الحديث، أي من حيث هو مشروع لبناء معرفة موضوعية، ترتفع على شروط إنتاجها العقائدية والثقافية والاجتماعية، وتؤسس نجاعتها ومشروعيتها معاً على مناهج تحصيلها وتقنيات مراجعتها لنفسها وتحقيقها في الواقع وفي التجربة. فإذا كانت الذرة لا تنشطر في الظروف ذاتها، أو إذا كانت تخضع في انشطارها لاعتقادات المجتمعات وثقافة الباحثين وذاتياتهم، لن يكون هناك علم. فالعلم واحد بينما الثقافة متعددة.
وبمقدار ما يدفع الشعور بهذه الفجوة المعرفية، الأجيال الجديدة من العرب إلى التخلي عن ثقافتهم العربية وهجرها، وهو ما يعبر عنه الاندفاع نحو التعليم الخاص وباللغات الأجنبية، فإنه يطرح على المجتمعات العربية مسألة إعادة التواصل مع بحر المعرفة الإنسانية وتجديد أسس الثقافة العربية ومحتواها. وهذا ما يعكسه الاهتمام المتزايد عند بعض الحكومات والناشطين الاجتماعيين بمسألة الإبداع العلمي والأدبي، وبشكل أكبر بمسألة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية. فهناك اليوم أكثر من مشروع لتكريم المبدعين والباحثين الجادين، وأكثر من مركز لرعاية الترجمة وتشجيع المترجمين على نقل ما حصل تجاهله من كتب ومراجع علمية في جميع الميادين خلال الحقبة السابقة. وفي مقدمة هذه المشاريع جائزة الشيخ زايد للكتاب، وفرعها الكتاب المترجم، والتي أقامت في معهد العالم العربي يوم السابع من يوليو 2008 أول ندواتها لتكريم الحائزين على جائزة الترجمة، تحت شعار “الترجمة كوسيلة للتواصل مع الآخر”.
وليس هناك أدنى شك، كما أكد المشاركون في الندوة، في أن الترجمة تشكل أكبر وسيلة لتجاوز التمحور حول الذات النابع من التأكيد على الهوية، وهي وظيفة لا يمكن لمجتمع أن يتجاهلها أو يتنكر لها، وهي بالتالي أهم وسيلة لتعريف المجتمعات على إبداعات بعضها الآخر وثقافته وأنماط تفكيره وتجربته الخاصة. لكن الأمر، كما ذكرت في مداخلتي، ليس مطلقاً وحتمياً. إنه يتوقف على نوعية الترجمة. فالترجمة الفاسدة قد تفضي إلى نتائج معاكسة للمطلوب، فلا تعجز عن مد جسور التواصل مع الآخرين فقط، ولكن بقدر ما تحرم العرب أنفسهم من التواصل فيما بينهم، تؤدي إلى نزع الاتساق عن لغتهم وزرع الاضطراب والفوضى في عبارتهم، وتشويش فكر وعقل ناشئتهم وقارئهم. وهذا ما نعيشه اليوم حقيقة في العالم العربي. فبسبب غياب سياسة متسقة وجدية تستحق اسم “الترجمة”، تحولت الترجمة إلى أكبر وسيلة لتفكيك اللغة العربية وتشويش عباراتها وبث الاضطراب والفوضى في تفكير أبنائها وأجيالها الجديدة وقرائها. هكذا تملأ المكتبات العربية ترجمات سلبية من حيث الأسلوب والمحتوى معاً. وبسبب تعدد المفردات المستخدمة لمصطلح واحد، نتيجة تعدد البلدان والمرجعيات اللغوية الخارجية، وغياب العمل القاموسي الجامع، تكاد اللغة العربية تفقد اتساقها ووضوحها.
وكي تكون الترجمة وسيلة فعالة للتواصل بين الثقافات والمجتمعات التي تحملها، ينبغي في اعتقادي أن تقوم على أساس متين، وتتحول إلى مشروع يخدم الإنتاج العلمي المبدع، ويصب في عملية تجديد الثقافة العربية وتنشيط ديناميكياتها الذاتية.
وذلك يتطلب مشروعاً متكاملاً للترجمة يتكون في نظري من ثلاث حلقات: الأولى برنامج طويل المدى، متسق ومنهجي، يهدف إلى ترجمة المراجع الأساسية في جميع الميادين العلمية، إلى اللغة العربية خلال السنوات العشر القادمة، بحيث يستطيع أي طالب علم، في أي ميدان علمي، أن يجد باللغة العربية مادة أساسية ومتكاملة في المجال الذي يريد أن يتخصص فيه. وهو ما يحتاج إلى مجلس أعلى للترجمة يبلور التصور والسياسة العامة، ويعد قوائم الكتب المختارة، وينسق بين جميع النشاطات العربية في هذا الميدان بحيث يتكامل جهد جميع المراكز والمتخصصين معاً على مستوى العالم العربي. والثانية حلقة تأهيل المترجمين وذلك من خلال إنشاء مدرسة عليا للترجمة على مستوى العالم العربي، تؤهل المترجمين وتعمل على تطوير أساليب عملهم، وتوحيد أسلوبهم ولغتهم، وتحويل الترجمة ذاتها إلى ميدان من ميادين البحث العلمي. فلا يكفي أن يكون المترجم عالماً في ميدانه وإنما لا بد أن يكون ملماً أيضاً بأصول الترجمة ومصطلحاتها حسب الميدان الذي يترجم فيه. والحلقة الثالثة تتعلق بنشر ما ترجم وتوزيعه وبناء التواصل مع الجامعات والمعاهد العلمية والتعاون معها.

وفي اعتقادي أنه لا يمكن أن توجد اليوم في العالم العربي سياسة ثقافية من دون سياسة للترجمة. إذ تكاد الترجمة تشكل الجزء الأكبر من ثقافتنا الحديثة، بل جميعها، بما في ذلك تصورنا لأنفسنا وتمثلنا لما نعتقد أنه قيمنا وآدابنا وعقائدنا. فقد تكونا جميعاً، بما في ذلك جيلنا، على قراءة الآداب والعلوم الحديثة عبر الترجمة، وتمثّلنا صورتنا عن تاريخنا وثقافتنا وخصائصنا، من كتابات الآخرين المترجمة عنا. وطالما بقينا بعيدين عن مرحلة البحث والإنتاج العلمي الأصيل أو الأساسي، فستبقى تآليفنا في المعارف الأساسية والعلوم التطبيقية، باستثناء محاولاتنا النقدية، تلاخيص لأبحاث تجري في العالم وشروحاً على معارفها وعلومها.
لذلك يتوقف صلاح ثقافتنا العلمية والنظرية على صلاح ترجماتنا. وعلى هذه الأخيرة يتوقف أيضاً حظنا من الانخراط في المغامرة العلمية والنهضة الفكرية والمعرفية العالمية. فإذا استمرت الترجمة في جزئها الأكبر كنتاج لإرادات فردية ضعيفة وفقيرة، فسنجد أنفسنا بعد فترة أمام لغة عربية غير صالحة للاستعمال العلمي، ولا تفيد قراءتها شيئاً، تؤسس لسوء التفاهم بين الأفراد وتغذي بالتالي التوتر وأسباب النزاع، أكثر مما تقود إلى التفاهم والتواصل، ومن باب أولى إلى الإبداع. وربما كان هذا هو ما يدعونا إلى تقديم الشكر والاعتراف بالجميل لجميع أولئك الذين قبلوا، من علماء وباحثين، العمل في ميدان الترجمة، ولجميع أولئك الذين سعوا إلى تكريمهم وتسليط الضوء على عملهم الإبداعي والتنويري بالمعنى الحقيقي للكلمة.

جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى