صفحات مختارة

الدين والفكر الديني الثابت والمتغير

null
نجيب الخنيزي
بداية ينبغي التفريق بين الإسلام في نصه الثابت والمؤسس “القرآن الكريم”، وبين القراءة البشرية التالية له، وهي بالضرورة متعددة، وتصل إلى حد الاختلاف الحاد بين الفقهاء والمفسرين والمجتهدين نظرا لتباين قدراتهم ومعارفهم وخياراتهم، ضمن سياق بيئة اجتماعية – ثقافية متغيرة وغير مستقرة، بفعل التطورات الموضوعية.
بروز الصراع والتنافس في السقيفة والنبي محمد لا يزال مسجى، ثم تفجر الصراع في مرحلة الخليفة عثمان بن عفان واندلاع الحرب الأهلية في عهد الإمام علي، ناهيك عن ضغوط وإغراءات الحكام المستبدين اللاحقين الذين حولوا الدين وأحكامه – على يد فقهاء الجور – إلى أداة ومطية لديمومة مصالحهم. غير أن تلك الخلافات والصراعات الداخلية لم تكن عائقاً أمام سطوع شمس الإسلام، ثم تسيد حضارته على الجزء الأكبر من العالم القديم، ولم يتحقق ذالك من خلال التمدد الجغرافي والتوسع في الفتوح في المقام الأول، بل حدث نتيجة الانفتاح والتفاعل والمثاقفة الحضارية بين الوافد (الإسلام) الجديد والحضارات والثقافات المجايلة (الفارسية والرومانية) لها أو السابقة (اليونانية) عليها، والتي نتج عنها حضارة جديدة لها مقوماتها وقسماتها المميزة..
وتمثلت بالحضارة العربية -الإسلامية التي تميزت بالانفتاح والحيوية والتعددية في شتى مناحي الحياة المادية وفي الجوانب الدينية والفكرية والعلمية والأدبية التي استمرت عدة قرون، إلى أن دخلت بفعل عوامل مختلفة مرحلة التراجع ثم الانهيار المتمثل في عصور الانحطاط والبيات الحضاري التي مرت بها المجتمعات العربية الإسلامية على مدى (باستثناء فترة الحضارة الإسلامية في الأندلس) ثمانية قرون انقطع فيها باب الاجتهاد، وعم الجهل، الخرافة، الهلوسة، الخزعبلات، والتواكل والخمول بين الناس، والتي كرستها ثقافة دينية تقليدية، تتمسك بالقشور وتعتبره جوهر الدين الصحيح، المعبر عن موقف الفرقة الناجية..
وبما أن الإسلام منقسم إلى عشرات الفرق والمذاهب والجماعات، فكل واحدة منها اعتبرت نفسها هي تلك الفرقة، وما عداها في ضلال، مشمول بالتكفير والتبديع والتفسيق، بل ومهدد بالإلغاء والتصفية الجسدية. ذلك الفكر الديني المتزمت والمخاتل، المتقنع بالدين، عمل كل ما في وسعه، ليكرس ديمومة إحكام الطوق على رقاب وعقول وأرواح الجموع (الذين هم في نظره مجرد عوام)، وعمل على استلاب وتزييف وعيها، حفاظا على مصالح وامتيازات سدنته والمستفيدين منه. هذا الخطاب المأزوم لا يزال محتفظا بقدرته على الحياة والتناسل حتى وقتنا الحاضر، مستفيداً من حالة التخلف البنيوي الشامل وخصوصا في وعي المجتمع..
ولما يتمتع به من هامش كبير للمناورة والالتفاف، لتكريس سلطة ثقافية – تراثية ماضوية، بفعل ديناميكية التنشيط والتأجيج المستمر، لنظام الرموز والإشارات والطقوس، التي أضفى عليها هالة من التقديس وأصبحت ضمن منظومة الدين، وأي مساس بها دونه خرط القتاد، والتي تتغذى من استمرار واستفحال الأزمة البنيوية المركبة والشاملة للمجتمعات العربية – الإسلامية. إن تاريخية الفكر الإسلامي وفقا لمحمد أركون ‘هي مزيج من الوقائع المادية الواقعية التي جرت والخيالات والأحلام والأوهام التي صاحبتها أوسبقتها أو لحقتها’.
المشروع النهضوي العربي، منذ أواسط القرن التاسع عشر، والذي دشنه ورفع لواءه الرواد الأوائل من المنفتحين على العصر والحضارة الجديدة، استهدف غرس مبادئ الإصلاح والتجديد الديني والسياسي، وترسيخ قيم التنوير، العقلانية، والتسامح ومفاهيم التقدم والحرية والعدل وتحرير المرأة، وهو ما أوضحته وجسدته حياة وسيرة شخصيات بارزة شكلت مداميك عصر النهضة، من أمثال الشيخ رفاعة طهطاوي، جمال الدين الأفغاني، الإمام محمد عبده، الشيخ علي عبدالرازق، حسيب التونسي، قاسم أمين، الطاهر حداد، سلامة موسى، احمد أمين، طه حسين، شبلي شميل، وفرح أنطون وغيرهم على اختلاف مشاربهم الفكرية ومنحدراتهم الدينية.
لقد سعى هؤلاء عبر إرساء مشروعهم النهضوي إلى تعميم منهج الإصلاح والتجديد الديني، مما علق به من جمود وخزعبلات، والعمل على ردم الفاصلة الحضارية، والخروج من هوة التخلف والفقر والأمية، وغرس مفاهيم جديدة في التعاطي مع مفردات الحداثة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية. كما دعوا إلى التوفيق الخلاق إزاء ثنائيات جدية ومعقدة، مثل النقل والعقل، النص والاجتهاد، العام والخاص، الثابت والمتغير، الأصالة والمعاصرة، الأنا والآخر، وإزاء إشكاليات من قبيل موقف الدين من الحضارة الغربية ومنجزاتها كالدولة المدنية، العلوم والصناعة، وحقوق المرأة.
كتب شيخ الأزهر الإمام محمد عبده ‘المسلمون ادرى بشؤون دنياهم، وان لهم أن يفعلوا بحياتهم ما شاؤوا ما ظلوا محافظين على إسلامهم، ويلزم عند ذلك انه لا سلطة دينية لحكامهم ولا حتى لعلمائهم، أو شيوخهم، أو أزهرهم أو أي جماعة ترفع راية الإسلام لأسباب سياسية أو غير سياسية، فالمبدأ الأصيل في الإسلام هو حرية المسلم في اختياره ما يراه لصلاح دنياه، وأن الأيمان يعتقه من كل رقيب عليه في مسائل الدين على وجه التخصيص، فلا رقيب بين الإنسان والله سوى الله وحده الذي هو أعلم بالسرائر والقلوب، أما من يلجأ إلى تكفير غيره في اختلافه فيبوء بها، وتقع عليه التهمة التي يقذف بها غيره’..
وقد كتب ( في مؤلفه الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ) ‘علمت إن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير ( لم يقل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) عن الشر، وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها انف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها أدناهم. وليس يجب على المسلم أن يأخذ عقيدته أو أن يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد. إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط احد من سلف ولا خلف ‘ثم يعود فيؤكد في كتابه ‘فليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه’.
أما الشيخ عبدالرحمن الكواكبي الذي اغتيل بالسم فقد أشار في كتابه ‘طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد’ الصادر في 1902 أي مطلع القرن الماضي ‘على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد بينهما فهما أخوان أبوهما الغلب وأمها الرئاسة.. التعاليم الدينية تفتح أبواباً للنجاة من تلك المخاوف.. ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع الذلل والصغار ويرزقوهم باسم ( لنقرأ جيدا ) نذر أو ثمن غفران’.
وفي موضع آخر من الكتاب يشير إلى أثر الإصلاح الديني الذي أحدثته البروتستانتية في النهضة الأوروبية معتبرا ‘أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين، ويعتبرون ان إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي’ مستدلا على أن النصرانية كانت قبل الإصلاح الديني ‘تعظم رجال الكهنوت إلى درجة اعتقاد النيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوة التشريع ونحو ذلك مما رفضه البروتستانت أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل’.
وقد عاب الذين جعلوا الإسلام ‘دينا حرجا يتوهم الناس فيه أن كل ما دونه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب لاسم إسلامي هو من الدين’ مستخلصا وقد يثور البعض أمام هذه العبارة ‘أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وتتولد من غرض واحد هو المراد ألا وهو الاستعباد’.
نقلا عن صحيفة “الوقت” البحرينية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى