صفحات ثقافيةمرح البقاعي

الشاميّة العالمية

null
مرح البقاعي
لن أدّعي أني أباشر الورق اليوم بمصطلح سياسي جديد أُطلق عليه- بنرجسيتي الدمشقية المعهودة – اسم “الشاميّة العالمية”. بل سأتحدث، وببساطة لغوية غير مسبوقة لنصوصي الجانحة غالبا إلى الترميز والتضمير المدجّجين بالاقتباس، عن وصفة طعام مغربية، تصنع من الدقيق الذي يتم طهيه في قدر على نار لينة إلى أن يحمرّ، ثم تمزج معه بعض المكونات الأخرى التي تباع عند العطارين، مثل الجلجلان و النافع و الزرارع وغيرها، وتتم تحلية الخلطة بالسكّر المثلج، وتوضع على شكل قبة في إناء، ثم تنمّق بخطوط السكر، ويطلق عليها اسم الشاميّة العالمية! لفتني اسم هذه الحلوى حين حدّثني عنها صديقي المغربي بنهم ذاكرة الطفولة، قال: “عندما كنت صغيرا كانت هذه الأكلة تباع في الأزقة وعلى أبواب المدارس. وكنا كلما رأيناها نتسابق إلى اقتنائها بريال أبيض. ومن كان لديه ريالات أكثر يشتري كمية أكبر بالطبع. وما كان يعجبنا في هذه الأكلة هو بالضبط مذاقها الحلو العجيب الذي كان يظل عالقا بأذواقنا ساعات بعد تناولها”. وأردف مستذكرا:”أحيانا، كان أحدنا يحظى بامتياز أن تصنع له أمه الشاميّة العالمية في البيت، وحسب شطارة الطفل، فكان إما يبيعها، أو يوزعها مجانا على الأطفال لكسب مودتهم”.
لا أعرف كيف حملتني براءة صور الطفولة تلك، بشاميّاتها، إلى عمق الخبث والتنظير السياسيين، في محاولة مني لتحديد معايير الطبخة السياسية السورية الدائرة هذه الأيام، ببعديها الإقليمي والدولي، والتي بدأت تؤتي أكلها ومذاقها “الحلو”، بدءا بما شهدناه من ترتيب البيت السياسي اللبناني على استعجال، ومبادلات الأسرى “الأحياء”، بالأسرى “الجثث” بين حزب الله ” كمؤسسة مقاومة” واسرائيل” كدولة احتلال”، مرورا بجدلية الجلوس الأميركي إلى إيران – الظهير السوري غير المفوّض- على طاولة المباحثات في مدينة جنيف السبت الفائت، وبمشاركة من وكيل الشؤون السياسية في الخارجية الأميركية وليام بيرنز، ما يمثل تحولا في سياسة الولايات المتحدة تجاه طهران، بعد أن كانت قد أعلنت مرارا رفضها المشاركة في أية مباحثات مباشرة مع إيران ما لم توقف الأخيرة عمليات تخصيب اليورانيوم، وصولا إلى زيارة وفد سوري “غير رسمي” هذا الأسبوع إلى الولايات المتحدة للقاء بعض من “الرسميين” في وزارة الخارجية الأميركية، الأمر الذي نفت السفارة السورية في واشنطن مروره في أروقتها الدبلوماسية، لكنها أيدت فكرة الحوار- في حال حدوثه ـ وعلى كل المستويات، دون أن تتحمل مسؤولية توزيع حلوى “الشاميّة العالمية” على صانعي القرار هنا، في عاصمة القرار!
ويردّني الأمر سريعا إلى بعد آخر للمسألة، بعد سياسي فقهي، إحداثياته تتموضع لدى المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في رؤيته لتأصيل مفهوم المجتمع المدني مقابل السلطة الشمولية، ساعيا إلى خلق توليفة تضم القوتين المتجاذبتين، المدنية والسياسية، بهدف بناء مجتمع مدني يتحرك في فضاء الدولة دون أن تحتويه الدولة، أو تسيطر عليه، على اعتبار ان المجتمع المدني ( الأفراد) “يتشكل بالأيديولوجي، والثقافي، والرضائي، و يزدهر في ظل الديمقراطية، والليبرالية، لأنه يقوم أصلا على فكرة العقد، والقبول، والطواعية، والاختيار، عكس المجتمع السياسي (الدولة)، الذي يقوم على السيطرة والفرض، والقسر، والإرغام”، على حد تعبير غرامشي. وضمن هذا السياق السياسي التوليفي تتضح وظيفة المجتمع المدني في ظل “المركزية الديمقراطية” أو الدولة التي “تتمركز ديمقراطياً”، الدولة التي تحتسب في معادلاتها السياسية فاعلية الجماعات المدنية، وحراك الأفراد الشعبي .
الأسئلة المطروحة اليوم على مائدة إلحاح “اللحظة” أو “الوجبة” التاريخية الدسمة، هي في حدها الأدنى: هل إطلاق سراح ناشطَين سياسيَين اثنين مؤخرا في دمشق هو نوع من المقبلات السياسية لحملة أوسع تشمل تسريح كل سجناء الرأي من معتقلاتهم التعسفية، سوريين كانوا أم غير سوريين؟ وهل يتصالح المجتمع المدني الشعبي السوري مع القبضة السياسية الرسمية السورية في محاولة “ديمقراطية” لإعادة بناء الدولة التي نخرتها بيروقرطية العصبيات والترسبات الشللية، وغيّب مؤسساتها المدنية عفن الطفيليات التي نبتت على رطوبة النفَس “الأمني” العصابي القاصر؟ وهل ستتزامن المصالحات الجماعية السورية مع العالم، وبلا استثناءات لدول “معادية” بعينها، مع مصالحات مع “الداخل” المغلوب على أمره؟ هل من وصفة سحرية تفكّ طلاسم “السكتة السياسية” التي دفع المواطن السوري ثمنها ، لعقود خلت، ضمورا في حنجرته، ورغيفه، ومستقبل أبنائه؟
أبناء سوريا ينتظرون الشاميّة العالمية على بوابات الغد، فهل من “طاهٍ” استثنائي يحضّر، على نار هادئة، وصفة بحجم أحلام البلد؟ هل من صانع حاذق لوصفة المصالحة الوطنية السورية، وصفة تشكّل نموذجا ورديفا لمصالحات إقليمية ودولية موازية قادمة؟!
في واحدة من زياراتي – التي انقطعت – إلى دمشق، ومن الأشخاص الذين لم تكن لتستوي إقامتي في مسقط رأسي إن لم أقم بزيارته، كان المرحوم الفنان التشكيلي العالمي فاتح المدرس. قرأت مرة عبارة كتبها على حائط مرسمه ـ المرسم الذي كان على وزارة ثقافة رشيدة أن تحيله إلى متحف للفن الوطني وأن تحتفي بتاريخ حقبة فنية غنية ورائدة في الفن السوري قبل أن يُغيّب معالمه طلاء الجدران الأبيض السقيم ـ قرأت العبارة التالية: “بإمكان رجل واحد أن يخرج أمة من التاريخ”. وأنا أقول اليوم: وبإمكان “رجل” أن يعيدها إلى دورة التاريخ من جديد! فهل من رجل؟!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى