صفحات ثقافية

عن الوطن والمنفى

null
محمود درويش
لما تنته الطريق بعد كي أعلن عن بداية الرحلة
كل طريق توصلني إلى بداية أخرى، والخروج مثل الدخول مشرّع على المجهول
كنت في السادسة من عمري عندما رحلت نحو ما لم أكن أعرف. في ذلك اليوم، إنتصر جيش عصري على طفولة لم تكن تعرف من الغرب بعد إلا عطر البحر المالح وذهب الغروب فوق حقول القمح. دافعنا وقتها عن العلاقة الهادئة السرمدية التي تربط الفلاحين الطيبين بالأرض الوحيدة التي عرفوها، الأرض التي ولدوا عليها
لم تتحول السكك والمحاريث إلى سيوف إلا في قصص الأنبياء. أما سككنا نحن فتكسّرت أمام طائرات ودبابات الغرباء الذين شرّعوا بهذه الطريقة حكاية حنينهم الطويل إلى “أرض الميعاد”. لقد تغذّى الكتاب على القوة وكانت القوة بحاجة إلى كتاب
منذ اليوم الأول رافق الصراع من أجل الأرض غزو للماضي وللرموز. ولبست صورة داود درع جليات، وأمسكت صورة جليات بنقّيفة (مقلاع) داود. ولكن الطفل الذي كنته لم يكن بحاجة إلى من يقص عليه التاريخ كي يعرف طريق الأقدار المجهولة التي دشنت هذه الليلة الرحبة الممتدة بين قرية جليلية وشمال مضاء بقمر بدوي معلق فوق الجبال.
في هذا اليوم، اقتُلع شعب من حاضره الحميم، وفُصل بينه وبين خبزه الطازج كي يتردّى في ماضٍ آت. هناك، في جنوب لبنان، نُصبت لنا خيم هشّة وتغيرت أسماؤنا. ختمونا بنفس الختم فأضعنا تمايزنا وأصبحنا كلنا “لاجئين”
– ما هو اللاجيء يا أبي؟
– لا شيء، لا شيء، لن تفهم …
– ماذا يعني أن تكون لاجئاً يا جدي؟ أريد أن أعرف …
– أن تكون لاجئاً يعني أن لا تكون طفلاً من الآن فصاعداً …
لم أعد طفلاً منذ قليل. منذ أن استطعت تمييز الحقيقة من الحلم، ومنذ أن قدرت على التفريق بين ما يحدث وبين ما حدث منذ سويعات. هل يتحطم الوقت مثل الزجاج ؟
لم أعد طفلاً منذ أن عرفت بأن مخيمات اللاجئين في لبنان هي الحقيقة وأن فلسطين، من الآن فصاعداً، سوف تسكن الحلم.
لم أعد طفلاً منذ أن جرحني ناي الحنين، منذ أن كان القمر يكبر فوق أغصان الشجر وأنا تسكنني رسائل العتمة؛ رسائل إلى البيت المربع وشجرة التوت العالية والحصان العصبي والحمام البري والآبار … رسائل إلى خلايا النحل التي كان عسلها يجرحني إلى دربي العشب اللذين يقودان إلى المدرسة وإلى الكنيسة…
– هل وضعنا هذا سوف يطول يا جدي ؟
لم أتعلم كلمة “منفى” إلا عندما صارت مرادفاتي أكثر ثراء، فكلمة العودة هي الخبز اليومي للغتنا؛ عودة إلى المكان، عودة إلى الزمان، عودة من المتنقل المتحرك إلى الثابت، وعودة من الحاضر إلى الماضي والمستقبل في آن. عودة من الاستثناء إلى القاعدة، من خلية في سجن إلى بيت من حجر. هكذا أصبحت فلسطين كل ما لم تكن؛ فردوساً مفتوحاً حتى ذلك اليوم الذي تسللنا فيه إلى داخلها من جديد.
يومذاك وجدنا بأن البلدوزارات الإسرائيلية كانت قد محت آثارنا فلم نعثر على أي شيء من ماضينا. حضورنا أصبح منذها جزءاً من آثار الرومان. حرمت علينا الزيارة واكتشف الطفل “أدوات الغياب العتيدة” وطريقاً مشرعاً نحو الجحيم، فهذا كل ما بقي من فردوسه المفقود.
……………………….
لم تكن بي حاجة لأن يقصّوا علي تاريخي.
لقد عادت المخرجة “سيمون بيطون” إلى مسقط رأسي بعد 50 سنة كي تصوّر بئري الأولى وأول روافد لغتي، فاصطدمت برفض القاطنين الجدد للمكان وسجلت هذا الحوار مع المسؤول عن المستعمرة الإسرائيلية:
– هنا ولد الشاعر …
– وأنا أيضاً ولدت هنا … عندما جاء أبي إلى هنا لم يجد إلا الأنقاض. أقمنا أولاً في الخيام ثم في بيوت حقيرة. لقد عملت طيلة عشرين سنة قبل أن أستطيع بناء هذا المنزل. فهل تريدينني أن أعطيه له؟
– أريد أن أصوّر الأنقاض فقط، ما تبقى من بيته. إنه بعمر أبيك، أولا تخجل من أن ترد هكذا ؟
– لا تكوني ساذجة. إنه يطالب بحق العودة.
– هل تخاف من أن يحصل على حق العودة ؟
– نعم …
– ويطردك كما طردته؟
– أنا لم أطرد أحداً … لقد أتو بنا في سيارات نقل كبيرة ثم أنزلونا هنا وتركونا لأنفسنا.
– ولكن من هو هذا “الدرويش”؟
– رجل يكتب حول هذا المكان… حول التينات البرية هذه … حول هذه الأشجار وهذه البئر.
– أي بئر؟
– هناك 8 آبار في البلدة … كم كان عمره ؟
– 6 سنوات …
– والكنيسة، هل كتب عن الكنيسة ؟ …. كان هنا كنيسة ولكنها دمرت. وحدها المدرسة تركوها كي تأوي إليها الأبقار والعجول.
– حولتم المدرسة إسطبلاً ؟
– ولم لا؟
– صحيح، بعد كل ما جرى، لم لا ؟!!! … كان لديهم حصان أيضاً ، ولكن … هل أشجار الفاكهة ما زالت هنا؟
– طبعاً … عندما كنا صغاراً كنا نأكل من ثمارها … تيناً وتوتاً وكل ما خلق الله .. هذه الأشجار هي طفولتي!!!
– وطفولته هو أيضاً …
هذه الأرض لم تكن صحراء إذاًَ، ولم تكن خالية من السكان. هناك طفل يولد في مهد طفل آخر. يشرب حليبه، يأكل توته وتينه، ويعيش مكانه مرتعداً من عودته دون ندم يذكر، ثم يقول لنفسه بأن هذه الجرائم التي ارتكبها الآخرون هي أيضاً من صنع القضاء والقدر. هل يستطيع مكان واحد أن يتسع لحياة مشتركة؟ هل يستطيع حلمان أن يتحركا بحرية تحت نفس السماء؟ هل يستطيعان ذلك دون أن يكون على الطفل الأول أن يكبر بعيداً وحيداً محروماً من الوطن والمنفى لأنه عندما لا يكون هنا فهو ليس هناك أيضاً ؟
مات جدي كمداً وهو يرى الآخرين يعيشون حياته. مات وهو يتأمل الأرض التي سقاها يوماً دموع جسده وهو ينتوي أن يخلفها لأولاده من بعده. رائحة الجغرافيا المهشمة فوق حطام الزمان قتلته، فحق العودة من رصيف على شارع إلى رصيف على شارع آخر يقتضي ألفي سنة من الغياب؛ هذا هو الشرط كي تنتسب الأسطورة إلى الحداثة.
بالنسبة لي، سعيت نحو التآخي بين الشعوب، عبر حوار مفتوح في غرفة السجن مع سجّان لا يتخلى عن قناعته بغيابي.
– من تحرس إذاً ؟
– نفسي القلقة.
– ما الذي يقلقك أيها السيد الطيب ؟
– شبح يطاردني ويصبح أكثر حضوراً في كل مرة أنتصر بها عليه.
– لا شك بأن الشبح هو آثار الضحية على الأرض.
– ليس هناك من ضحايا غيري، أنا هو الضحية.
– ولكنك القوي القادر والسجّان. لماذا إذاً تنازع الضحية المكان؟
– كي أبرّر أفعالي … كي أكون على حق دائماً. كي أصل مرتبة القداسة وكي أفرّ من النوم.
– لماذا تسجنني إذاً ؟ هل تظن بانني الشبح ؟
– ليس بالضبط، ولكنك تحمل اسمه …

لعل الشعر مثل الحلم، لا يكذب ولكنه لا يقول الحقيقة. لعل الشعر، هذا الجنون الذي يشير إلى العناصر الأولية، ليس إلا ذاكرة الأسماء. لعله ليس لعبة بريئة إلا للذي يضع وجوده في المتراس خلف المكان المصادر والذاكرة المصادرة والتاريخ والأسطورة. لا، الشعر ليس لعبة بريئة لأنه يدل على كائن يجب ألا يكون موجوداً، ولكن المنفى يكبر أيضاً مثل الأعشاب البرية في ظل أشجار الزيتون. على العصفور إذاً أن يحقق اللقاء بين السماء البعيدة وأرض طردت منها فضائلها السماوية. نادرة هي البقاع التي تتمتع بوفر في الجمال كذلك الذي تبوح به أرضنا، أرضنا غير القادرة على إحداث القطيعة الضرورية بين الحقيقة والأسطورة. ليس من حجر هنا، ليس من شجرة لا تحكي تاريخ المواجهة بين المكان والزمن، وإحساسي بعدم رسوخ قدم الغريب يتزايد كلما تزايد الجمال ورسخت قدمه وكنت أنا الحاضر والغائب؛ نصف مواطن ولاجيء كامل.
أبذر شوارع حيفا على خاصرة الكرمل بين الأرض والبحر وأتشوق لحرية لا تتيحها لي سوى القصيدة التي سوف يسجنوني من أجلها.
عشر سنوات … عشر سنوات لا أستطيع بها الخروج من حيفا. ومنذ سنة 1967، منذ أن اتسعت رقعة الاحتلال الاسرائيلي أكثر، فرضوا علي عدم مبارحة غرفتي من غروب الشمس حتى مشرقها، وتسجيل حضوري في قسم الشرطة كل يوم في الساعة الرابعة بعد الظهر.
صادروا ليالي ولم يبقوا بها من خصوصية. كانت الشرطة تقرع بابي في أي وقت تريد كي تتأكد من تواجدي في البيت. لكني لم أكن حاضراً، لقد كنت مجبراً حقاً أن أمضي تدريجياً إلى المنفى منذ أن تداخلت حدود الوطن والغياب في ضباب الشعور. كنت أعلم بأن اللغة قادرة على أن تبني ما تهدم وأن تجمع ما تفرق. وليس من شك بأن “هنا” الشعر، في مرحلة نضجها بين الأفق والسلاسل، كانت بحاجة لتوسيع البعيد.
المسافة بين المنفى الداخلي والمنفى الخارجي لم تكن مرئية. كانت جزءاً من الصورة عندما كان معنى الوطن أصغر من حجمه. وفي المنفى الخارجي استوعبت كم كنت قريباً من البعيد، كم كان “هناك” “هنا”.
لم يعد ثمة شيء فردي، فكل شيء يشير إلى المجموع وليس هناك من مجموع، فكل شيء ينحو نحو الحميمية. امتدت رحلتي على طرقات متعددة حملتها على أكتافي مراراً، وهويتي الممنوعة التي تمردت على أي تقليص “للمنفى والعودة” ،كانت في أزمة. لم نعد نعلم من منا الذي هاجر، نحن أم الوطن. والوطن الذي اختار مسكنه فينا رأى صورته تتطور مع نضوج عكسه الذي يخاصمه. كل شيء يُفسّر بعكسه، والنرجس المجروح سوف ينبت بكثرة وعفوية فوق جوانب الطريق.
أخذت اللغة مكان الحقيقة، ورحلت القصيدة في البحث عن أسطورتها عبر تراث الإنسانية، واندمج “المنفى” في أدب التيه، لا ليعطي نار المأساة الشخصية مشروعية ولكن كي يلحق بالإنساني. وهنا لاحقنا الإسرائيليون بزعمهم أنهم وحدهم المنفيون العائدون بينما الفلسطينيون الذين لاقوا مزابل الأرض العربية لا يعانون من منفى. هكذا حُرمت الضحية مرة أخرى من اسمها.
كانت الضحية الوحيدة تمتلك حق خلق ضحيتها الخاصة وأوجد المنفىّ الوحيد منفيّه الخاص.
سوف أجد الفرصة بعد ربع قرن كي أشاهد جزءاً من وطني. غزّة التي لا أعرفها إلا من خلال قصائد “معين بسيسو” الذي صنع منها جنته.
الطريق التي توصل إلى غزّة عبر الصحراء تُغرق المسافر في وحدة لا يقطعها بين الفينة والفينة إلا بعض النباتات الصحراوية، وشجر النخيل الملتهب، ونصب تذكاري مصنوع من هيكل دبّابة، والبحر عن يسارك.

أحاسيسي في ذلك اليوم تنقلت بين البرود العقلاني والارتباك الذي يدرك الفرق بين الطريق وبين هدف الطريق. في العريش أصبح النخل بستاناً على حين غرة، فعرفت بأنني أقترب من هذا المجهول الذي تمنيت أن يبقى مجهولاً. حينها بدأ قلبي يفلت من عقلي وقلت: لنسارع، لنسارع كي نصل قبل المغيب.

– صبراً، صبراً … أجابني وزير الثقافة ورفيقي في الرحلة. صبراً، الوطن على قاب قوسين أو أدنى، والوطن ليس شيئاً غير خفق فؤادك وتوجساتك.
قلت: لعله ليس إلا هذه الليلة التي يحضّر فيها الحلم نفسه كي يتحقق .
لا أحلم بشيء. هنا تبدأ فلسطين الجديدة. حاجز إسرائيلي، سيارة “جيب” عسكرية، علم وجندي يسأل السائق بعربية رخوة: من تقلّ؟
– وزير وشاعر.
أحاذر أن أنظر إلى كاميرات المصورين الباحثة عن فرحة العائدين. كشافات المستوطنات الضوئية واستحكامات الجنود على جانبي الطريق تحرقني، وعندما أعلن عن دهشتي للبتر الجغرافي والخلط الذي يعتور صورة المكان، ينتظر تساؤلاتي جواب حاضر جاهز يقول: غزة وأريحا أولاً، نحن ما زلنا في أول الطريق، في بداية الأمل.
لم يكن مسموحاً لي أن أذهب إلى أريحا، فهل كان لي أن أحلم برؤية الجليل، هويتي الشخصية، من جديد ؟
– “يشترط الإسرائيليون عليك لزيارة الجليل شروطاً أخجل من أن أذكرها لك”
هذا ما قاله لي صديقي الكاتب ” إميل حبيبي ” الذي لم يكن يعلم بأنه سوف يقضي بعد سنتين، وبأن دفنه سوف يعطيني فرصة حزينة لفرحة قصيرة في ربوع فلسطين. يومها أعطوني تصريحاً بالإقامة ثلاثة أيام كي أؤبن صديقي الراحل وألاقي بيت أمي. يومها أكلتني نار العودة وقلت: من هنا خرجت وإلى هنا أعود. ثم رأيت كيف يستطيع الإنسان أن يولد مرة ثانية، وكان المكان قصيدتي.
لم يكن ينقصني شيئاً في نوبة هذه الولادة الجديدة كي أحقق موتي الموعود. ولكني كنت أعلم بأن الحقيقة التي تعرّت من الأسطورة ما تزال بحاجة للماضي وبأن التحرر من الأسطورة ما يزال بحاجة للمستقبل. أما الحاضر فلم يكن إلا زيارة قصيرة يعود بعدها الزائر كي يرحل نحو توازنه الصعب بين منفى مكره عليه ووطن بأمس الحاجة إليه. هنا لا يعارض المنفى الوطن، ولا يكون الوطن عكس المنفى.
لم أعد بعد، والطريق لما تنته بعد كي أعلن عن بداية الرحلة ….

________________________
– المصدر: مقال كتبه الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” لمجلة
GEO الفرنسية. عدد 243 أيارمايو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى