صبحي حديديصفحات ثقافية

خبز زكريا تامر

null
صبحي حديدي
في أواسط الخمسينيات، وكان ذاك عقد الغليان المعقد والهدوء المنذر بعواصف شتى، في الاجتماع والسياسة كما في الثقافة والفلسفة؛ لم يكن بالأمر المألوف أن يشهد الأدب العربي كتابة قصصية لا تسرد أو تحكي أو تضيء الأحدوثة في برهة منتقاة ذكيّة التكثيف عالية التعبير (وهو أفضل ما يمكن أن تنجزه القصة القصيرة، في يقيني)،فحسب؛ بل هي تشحن الكابوس الفردي والكوني المتخيَّل، بالكابوس الفعلي اليومي، الممعن في يوميته الى درجة تكاد تدحر الحدود بين التوثيق والتخييل. أكثر من ذلك، كان جديداً، كل الجدّة ربما، أن تحمل هذا التركيب لغةٌ رفيعة لا تصطنع شاعريتها من إفراط في الاتكاء القصدي الشكلاني على البلاغة والمجاز، بقدر ما تتدفق من ذلك الخزين الشعري الخام، الكامن في باطن اللغة الطبيعية، الحارّة والطازجة والآسرة، في الدلالة كما في الصياغة. الجانب الثالث أنّ حصيلة هذا كلّه كانت إطلاق قصة قصيرة فريدة في الشكل والمحتوى، تعيد ترسيم سوريالية الواقع، أو لعلّه الواقع السوريالي، وتستولد نثراً سردياً سرّياً، مثل كيمياء الحياة اليومية؛ وكاشفاً كشّافاً، مثل تفاصيلها وعذاباتها.
هكذا بدأ زكريا تامر، وبهذا بدت حصيلته العبقرية تلك، متميّزة عن نتاج كبار كتّاب القصة القصيرة السورية آنذاك (عبد السلام العجيلي، ألفت الإدلبي، عبد الله عبد، جورج سالم، سعيد حورانية، حسيب كيالي…)؛ ومنشقّة، كما يتوجّب القول، عن تلك الأعراف التي رسّخها، مثل قواعد ثابتة معيارية، كبار أساتذة القصة القصيرة المصرية. وقبل قرابة نصف قرن، لم يكن مألوفاً أن يلجأ قاصّ شابّ، كما فعل تامر في ‘صهيل الجواد الأبيض’، إلى لغة تسير هكذا: ‘غرفة الرجل المتعب بلا ضوء، صامتة، سوداء، علبة صغيرة من الحجر الرطب، أعود اليها دون حنين بعد أن تشردت طوال ساعات عبر شوارع غريقة في الضياء المنبعث من واجهات المحال المتناثرة على الجانبين، ومن الإعلانات الكهربائية ذات الألوان المختلفة، وكان الليل آنذاك أغنية خشنة حارّة طويلة، تتعانق بحنان في عتمة كهوفها عذوبة ربيع وتوحش نمر جائع. وكنت وطواطاً هرماً أعمى، جناحاه محطمان. لا أجد خبزي وفرحي. أجهل خبزي وفرحي’.
في الفترة الزمنية ذاتها، وضمن سياقات ثقافية وسوسيولوجية كانت تنظر بارتياب إلى التجريب في الأدب عموماً، وتميل أكثر إلى الواقعية الطبيعية في السرد خاصة، لم يكن مألوفاً أن يطلق تامر اسم ‘الأغنية الزرقاء الخشنة’ على قصة قصيرة لا يتجاوز حجمها ستّ صفحات من القطع المتوسط، وأن تبدأ فقرتها الأولى هكذا: ‘نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضُغط ضغطاً جيداً في قالب جيد. وتعرّج النهر عبر الأزقة البيضاء وبين المنازل الطينية المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة، وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع وبصديد جراج أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته على نقاط مبعثرة بمهارة، مختبئة في قاع المدينة، فصبّ فيها حثالته الباقية’.
آنذاك كان محمد الماغوط هو الذي يتولى عمليات مصالحة الشعر والنثر، في لغة عربية بكر، حارّة بدورها، مثقلة وجريحة وآسرة: ‘يا قلبي الجريح الخائن/ أنا مزمار الشتاء البارد/ ووردة العار الكبيرة/ تحت ورق السنديان الحزين/ وقفت أدخن في الظلام/ وفي أظافري تبكي نواقيس الغبار’. ولقد تبيّن، سريعاً، أن النثر العربي هو الرابح الأكبر جرّاء غوص هذَيْن المعلّمين في الأغوار السحيقة من وسيط تعبيري نبيل، ثرّ وكريم وقاعدي، فامتلكنا ما عجزت معظم النماذج الأولى من قصيدة النثر العربية عن تزويدنا به: اتصال الوظيفتين الشعرية والخطابية في اللغة، وحقّ استدخال الكوني في الفردي، واجتراح تلك الكيمياء الشعرية الصافية التي تبقى في قلب التوتر التراجيدي لأسئلة الوجود، ومفردات العيش. ولقد فعلها تامر في القصة القصيرة، ولم تكن مصادفة أنّ مجموعته الأولى، ‘صهيل الجواد الابيض’، صدرت عن منشورات مجلة ‘شعر’، بحماس كبير من يوسف الخال.
هذا نثر مشبَع بعناصره، يلتقط مفردات الحياة اليومية من مشهد ملقى على قارعة الطريق (بما يكتنفه من عناصر شقاء، وفرح، وتوق، وقنوط، وقمع، وحيرة، وعجز، وشجاعة روحية، وخور جسدي، واندماج في عناصر الخارج، وارتداد نحو تجويف الداخل…)، لكي يردّه الى حيث ينتمي أصلاً: إلى قارعة الطريق، حيث الشعر خشن وعذب وكثيف وبانورامي وخام، وحيث النفس الإنسانية ملتقَطة حتى الحدود القصوى للتمثيل البشري، على يد أستاذ ماهر يمسك بسلالة طويلة من خطوط التقاء الشعر والنثر في مصبّ الحياة.
وأياً كانت التبدّلات الأسلوبية التي طرأت على قصّته في العقد الأخير، فإنّ ريادة تامر لطراز خاصّ تماماً في كتابة القصة القصيرة العربية، الحديثة والمعاصرة، هي التي شاء ملتقى القاهرة الأخير أن يكرّمها، فمنحه أوّل جائزة عربية كبرى مكرّسة لفنّ جميل، شاقّ وشيّق، صامد في وجه عواصف عاتية ليست الرواية أشدّها عصفاً، وباقٍ ما بقيت الحياة بحاجة إلى شكل أدبي يتولى التكثيف الحكائي للبرهة الإنسانية الفائقة. ولقد كان بليغاً، وجميلاً، أن يقول زكريا تامر، في تفسير إصراره على كتابة القصة القصيرة وليس الرواية: كأنهم يذهبون إلى صانع الخبز، ويسألونه لماذا لا تبيع الورد؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى